مضت ستة شهور على سقوط بغداد في ايدي قوات الجنرال تومي فرانكس، واصبح واضحاً بالفعل ان قرار ادارة بوش شن الحرب الوقائية الاحادية بشكل اساسي في مطلع 2003 سيغيّر الشرق الاوسط كله والتوازن العالمي كله، لكن ليس بالطريقة التي خططت لها. عندما اقنع نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع رونالد رامسفيلد الرئيس جورج بوش بشن مثل هذه الحرب، على هذا النحو، كانا يأملان في انها ستُحدث موجة ضخمة من "الصدمة والرعب" ليس في القيادة العسكرية للعراق فحسب، وليس في الشرق الاوسط وحده، بل في العالم كله. وكان الهجوم الخاطف والظافر ضد العراق مصمماً ليكون مشهد الافتتاح المثير في حملة اوسع لاقناع العالم كله بالتقدم الكاسح لعقيدة "الحرب الوقائية" الاحادية التي كان الرئيس بوش عرض خطوطها الرئيسية في وثيقة "استراتيجية الامن القومي" السيئة الصيت الصادرة في ايلول سبتمبر 2002. يمكن للمرء ان يتذكر التفكير الذي كان وراء قرار الرئيس ترومان باستخدام ليس قنبلة واحدة بل اثنتين من القنابل الذرية التي كانت الولاياتالمتحدة انتجتها للتو ضد مناطق مدينية مأهولة بكثافة بالسكان في اليابان في آب اغسطس 1945. هل كانت حملة بمثل هذه النتائج الفظيعة والمهلكة ضرورية لاقناع امبراطور اليابان بأن يستسلم؟ على الارجح، لا. جادل مؤرخون كثيرون، على سبيل المثال، بأن تفجيراً "استعراضياً" لقنبلة واحدة او قنبلتين في عرض البحر، ولكن يمكن مشاهدته من طوكيو، كان يمكن ان يحقق الاستسلام مع خسائر اقل بكثير في الارواح. ولاحظ هؤلاء، ايضاً، انه لم يتح وقت كافٍ بين التفجير الاول والثاني لمعرفة ما اذا كانت قنبلة واحدة تكفي لتحقيق عرض الاستسلام. لكن معظم "الجمهور" الذي كان مستهدفاً باطلاق هاتين القنبلتين لم يكن في اليابان، بل في روسيا، البلد الذي كان في نظر اميركيين كثيرين المتحدي المقبل على الارجح لنفوذ الولاياتالمتحدة في ارجاء العالم. وكما لاحظ الاستراتيجي الاميركي هارلان اولمان، كان الهدف بشكل اساسي من قصف هيروشيما، كما هي الحال بالنسبة الى الهجوم ضد العراق، خلق احساس ب"الصدمة والرعب". قد يستخدم آخرون مصطلح "الارهاب". لكن ما ينبغي الانتباه اليه هو أن الهدف يتمثل بنشر هذا التأثير على نطاق أوسع بكثير من مجرد محيط الهدف المباشر. كان الهدف في كلا الحالتين هو توليد الصدمة والرعب على مستوى عالمي. لذا فإن معظم الآخرين في العالم - وانا من ضمنهم - حذروا المتطرفين في ادارة بوش بأن محاولتهم لنشر "الصدمة والرعب" في ارجاء العالم ستنتهي بالفشل، بل ستؤدي بدلاً من ذلك الى ترك القوات الاميركية مغروزة في مستنقعات وجبال ووديان وصحارى العراق من دون مخرج سهل. حذرنا من ان اطاحة صدام ستفتح عش دبابير من الصراعات بين جماعات في شمال العراق، وانه في اماكن اخرى من البلاد حيث كان السكان يشعرون بأنهم تعرضوا للخيانة بسبب نكث وعود سابقة قطعتها الولاياتالمتحدة، ويعانون آثار عقوبات مهلكة فرضتها اميركا طوال 12 سنة، لن يُستقبل الجنود الاميركيون بأذرع مفتوحة. وكنا على صواب. لا أشعر بمتعة خاصة عندما ألفت الى ان تنبؤاتي بهذا الشأن كانت صحيحة تماماً. بل انها كانت، في أدنى حد، متحفظة اكثر مما يجب: توقعت ان تلقى القوات الاميركية المتقدمة على الاقل شهر عسل قصير من التأييد من جانب بعض قطاعات المجتمع العراقي، لكن اعتقد ان ذلك لم يحدث في اي مكان ربما باستثناء بعض المناطق الكردية. لكن هذين الرجلين المتغطرسين على نحو خارق، ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، اعتقدا انهما يملكان معرفة افضل! واتساءل "كانا يعرفان افضل" استناداً الى ماذا؟ الى ما كان احمد الجلبي، وهو شخص مُدان، يهمس في اذانهما بشأن شبكات المؤيدين الواسعة التي كانت لديه داخل العراق، التي يمكن ان "تتولى" ادارته بسرعة خاطفة حالما تطيح القوات الاميركية صدام؟ ام استناداً الى نداءات كانا يتلقيانها من ارييل شارون واسرائيليين آخرين كثيرين يحضونهما فيها على التحرك واطاحة صدام حسين لان "اللحظة الراهنة هي الوقت المناسب"، وفضلاً عن ذلك، من المؤكد ان اطاحة صدام ستسهل فرض حل على الفلسطينيين؟ نعم، كلا هذين الأمرين. لكن الثقة بالنفس التي ابداها رامسفيلد وتشيني استندت بشكل اساسي الى رغباتهما الذاتية والى اعتقاد ساذج استحوذ على رامسفيلد بأن الولاياتالمتحدة عثرت اخيراً على وسيلة لخوض الحروب والانتصار فيها من دون تكبد اصابات كثيرة في صفوفها. هكذا اجتمعت كل اسباب الاخطاء هذه في القرار - الذي اُتخذ ضد نصيحة القادة العسكريين - بشن الحرب ضد العراق باستخدام "القوات الخفيفة، السريعة الحركة" المفضلة لدى رامسفيلد وحدها. كانت هذه هي القوات التي اُرسلت الى ميدان المعركة. ولم يكن يعني شيئاً ما اذا كانت هذه القوات لا توفر ما يكفي من "الجنود على الارض" لتولي إدارة البلاد في مرحلة ما بعد الانتصار. كانت "حرباً سهلة". وتلقى الجنود في الجبهة وعوداً بانهم سيعودون الى ديارهم "خلال ثلاثة اسابيع". ورُفضت بعناد عروض جدية قدمتها وزارة الخارجية الاميركية بايفاد خبراء في الشؤون العربية لمساعدة اعضاء فريق رامسفيلد في ادارة الاحتلال. ها نحن بعد ستة شهور مع 300 جندي اميركي قتلى، والكثير من الموت والحزن المتواصل بالنسبة الى العراقيين. "صدمة ورعب" في ارجاء العالم؟ اذا كانت هناك صدمة، فلأن حكومة لديها مثل هذا النفوذ الضخم في الشؤون العالمية تصرفت على هذا النحو السيء تماماً. واذا كان هناك رعب، فانه رعب ازاء حجم المهمة التي قدمتها الولاياتالمتحدة الى العالم لاصلاح الاضرار، ورعب ازاء عناد ادارة اميركية تواصل السعي الى تجنب المسؤولية عن هذه المشاكل. في غضون ذلك، في واشنطن كما في بقية العالم، يبدو موقع النفوذ القوي الذي كان الرئيس بوش يأمل في ان تديمه له الحرب أبعد الآن من اي وقت مضى. وسيكون هذا، بالطبع، السبب الاساسي وراء سقوطه. في مثل هذا الوقت بالضبط من العام الماضي كان الرئىس يبدو شخصاً يكاد لا يُقهر في الكونغرس. كان عاد لتوه من زيارة اُعدّ لها بعناية الى موقع تفجير البرجين التوأمين في نيويورك، عندما كان معظم البلاد ما يزال يعاني آثار الصدمة التي احدثها الاعتداء، وتمكن من "ترهيب" و"قهر" أي معارضة محتملة من الديموقراطيين. وقام في الحال بتمرير قانون في الكونغرس يعطي تفويضاً باجراء خفوضات كبيرة في الضرائب التي يدفعها أغنى الاميركيين، واعقب ذلك القانون الحاسم الذي اعطى ادارته التخويل لشن حرب ضد العراق في اي وقت تختاره. واخيراً، في مطلع تشرين الثاني نوفمبر الماضي، حقق الحزب الجمهوري بزعامة بوش فوزاً سهلاً على الديموقراطيين المرعوبين والمشوشين في انتخابات الكونغرس. وفي مثل هذا الوقت من العام الماضي كان معظم زعماء الحزب الديموقراطي "في رهبة" من هالة الشعبية التي يحظى بها بوش لدرجة ان معظم قادة الحزب في الكونغرس ايدوا فعلاً قرار التفويض بشن الحرب. يا للعجب، كيف تغير الحال! الآن، انتقل الزخم داخل الحزب الديموقراطي بالفعل بشكل كبير في اتجاه اولئك الديموقراطيين الذين يمكن ان يدعوا على نحو يحظى بصدقية انهم عارضوا الحرب منذ البداية. ومن بينهم المرشحان الرئاسيان المحتملان هوارد دين ودنيس كوشينيتش، والجنرال ويزلي كلارك الذي انضم اخيراً الى السباق الرئاسي. واُضطر اشخاص مثل السناتور جون كيري الذي ايد قرار الحرب العام الماضي الى بذل جهد كبير لتبرير هذا الموقف. وكان يُنظر الى كيري سابقاً كأحد المرشحين الذين يملكون فرصة قوية للفوز بتأييد الحزب الديموقراطي لخوض السباق الرئاسي. لكنه فقد الآن موقعه المتقدم في السباق لمصلحة دين او كلارك. ولا يقتصر الأمر على اكتساب الحزب الديموقراطي حيوية جديدة. فخلال الاشهر الثلاثة الماضية، مع تورط ادارة بوش اكثر فأكثر في العراق، تراجعت شعبية بوش باطراد في استطلاعات الرأي. وفي الفترة تموز يوليو - آب اغسطس، امتنع حتى بعض اعضاء حزبه عن تأييد بعض التعيينات التي كان البيت الابيض يسعى بقوة لتثبيتها. والآن، اخيراً، في واشنطن كما في لندن، هناك البدايات لاجراء تحقيقات جدية في تحريف المعلومات الاستخبارية الذي مارسته رئاسة البلاد قبل الحرب في محاولة لتوسيع التأييد الشعبي لقرار شن الحرب. في لندن، انجز اللورد هاتون مرحلة التحقيقات من عمل لجنة التحقيق التي يرأسها. وعلى رغم انه لم يقدم تقريره بعد، فان الأدلة التي استخلصها من ادارة بلير اظهرت بالفعل على نحو واضح ان اتباع بلير تلاعبوا في ايلول سبتمبر 2002 بالمعلومات الاستخباراتية عن اسلحة "الدمار الشامل" التي يملكها العراق لخدمة غاياتهم السياسية. هنا في الولاياتالمتحدة، استغرق الأمر وقتاً اطول بكثير كي توجه اسئلة جدية من اي هيئات رقابة رسمية بشأن التلاعب الموازي بالمعلومات الاستخباراتية من جانب ادارة بوش. لكن اُطلق اخيراً في الولاياتالمتحدة تحقيقان مهمان، اولهما تحقيق داخلي من قبل "وكالة الدفاع الاستخباراتية" التابعة للمؤسسة العسكرية، للنظر في "دقة" المعلومات التي قدمها اتباع الجلبي بشأن اسلحة العراق. الاستنتاج الذي جرى التوصل اليه هناك، حسب صحيفة "نيويورك تايمز"، هو ان "ثلث المعلومات لا غير كان ذا فائدة محتملة، وان الجهود لاستكشاف هذه المعطيات اخفقت عموماً في اعطاء نتائج". التحقيق الآخر هو الذي اُعلن عنه في 30 ايلول سبتمبر، حيث يحقق "مكتب التحقيقات الفيدرالي" إف بي آي في ادعاءات بان شخصاً نافذاً في البيت الابيض حاول ان يهدد السفير المتقاعد جوزف ويلسون ب"كشف" حقيقة ان زوجته تعمل سراً لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي آي أي. وعلى رغم ان هذ التحقيق - مثل تحقيق اللورد هاتون في لندن - لا يتعلق بشكل اساسي بالتلاعب بمعلومات استخباراتية قبل الحرب من قبل شخصيات سياسية رفيعة المستوى، فان هذا التلاعب في كلا الحالتين هو جزء واضح من القصة الكاملة. هكذا، مثلما سلّط "تحقيق هاتون" الضوء على تلاعب بلير بالمعلومات الاستخباراتية، يحتمل ان يبقي تحقيق ويلسون-بلام الانتباه مركزاً على الطريقة التي سعى بها البيت الابيض الى حجب التقرير الذي قدمه ويلسون قبل الحرب وافاد بان الادعاءات التي اتهم فيها العراق بشراء يورانيوم من النيجر كانت زائفة. في مثل هذا الوقت قبل عام، قرر الرئيس بوش ورجاله الاكثر ذكاءً بكثير في حكومته، الذين حسب اعتقادي استغلوا سذاجته وجهله لغاياتهم الخاصة، التوجه لشن الحرب كي يدشنوا عصراً جديداً من تفوق الولاياتالمتحدة في الشؤون العالمية. والآن، بعد ذلك باثني عشر شهراً، من الواضح انهم لم يحققوا مبغاهم اطلاقاً. لكن المدى الكامل لفشل محاولتهم انتزاع السيطرة والنفوذ في العالم لم يُدرك بعد. فحكايته الكاملة لم تكتب بعد، وحينها فقط يمكن ان تُروى. * كاتبة ومالكة وناشرة موقع الانترنت www.justworldnews.org