الحديث عن خصخصة الاقتصاد العراقي متداول هذه الايام بكثرة. فوزير النفط العراقي "يؤيد تخصيص قطاع الطاقة، ويعطي الاولوية للاميركيين في تطوير الحقول" "الحياة"، 6 ايلول/سبتمبر 2003. ووزير المال العراقي يعلن "اصلاحات" عقب لقاء وزير الخزانة الاميركي في دبي "الحياة"، 22 ايلول 2003. ومن بين هذه "الاصلاحات" الاقتصادية والمالية "السماح في مجال الاستثمار المباشر بتملك الاجانب بنسبة مئة بالمئة في كل القطاعات باستثناء الموارد الطبيعية"، و"السماح بدخول المصارف الاجنبية بامتلاك مصارف محلية بنسبة مئة بالمئة". واصدر الحاكم المدني الاميركي الأعلى في العراق بول بريمر بالفعل مرسوماً في 20 ايلول سبتمبر 2003 يتضمن هذه "الاصلاحات". سنقصر هذه المقالة على موضوع تخصيص النفط، الذي يعني عودة شركات النفط الاحتكارية الى التحكم بنفط العراق، بعدما أممت هذه الثروة الوطنية على مراحل بدءاً بالقانون الرقم 80 لسنة 1960 الذي انتزع من الشركات 5،99 في المئة من الاراضي التي كانت تشملها امتيازات النفط، الى التأميم الكامل للثروة النفطية في سبعينات القرن الماضي. حقاً، ان الشعب العراقي عانى الكثير من هيمنة صدام حسين على هذه الثروة الوطنية المهمة، وتبديدها، على الضد من مصالح الشعب، وعلى قتال الجارة ايران وغزو الكويت الشقيق، وبناء ترسانة عسكرية ضخمة، بما فيها اسلحة دمار شامل كيماوية وبيولوجية. لكن شعبنا يطمح الآن، وقد تخلص من النظام الدكتاتوري، الى استثمار ثروته الوطنية الاساسية، النفط، في اعادة اعمار ما خربته الدكتاتورية والحصار الجائر الذي فُرض على العراق من جراء الغزو الغادر للكويت، نظراً الى ضرورة الاعتماد الكلي في المرحلة القريبة المقبلة على ايرادات النفط لتحقيق الاعمار المنشود. وهذا الأمر يستدعي ابقاء هذه الثروة الوطنية ملكاً للدولة، اي مجموع الشعب العراقي، وعدم التفريط بذلك تحت اية ذرائع قد تبدو في ظاهرها اقتصادية، ولكنها في الجوهر ذات طابع ايديولوجي، سياسي يتناقض مع مصالح الشعب. وان القول بضرورة بقاء القطاع الاستخراجي النفطي تحت سيطرة الدولة، التي تعلن كل قوى شعبنا الوطنية انها تريدها دولة ديموقراطية، كي يمكن للشعب ان يتحكم في استخدام ايرادات النفط لصالح الاعمار من جهة، وتحقيق التوازن للاقتصاد العراقي من جهة اخرى، وتخليصه في المدى المتوسط، وليس القريب، من الاعتماد على ايرادات النفط وحدها، يقتضي تخصيص مبالغ للاستثمار في القطاعات الاقتصادية الاخرى، وخصوصاً الانتاجية والخدمية التي توفر فرصاً للعمل، تعادل ما يخصص للقطاع الاستخراجي النفطي. واذا كان تطوير هذا القطاع يتطلب الآن تخصيصات مالية كبيرة لا يمتلكها العراق، فإن بالامكان الاستفادة من القطاع الخاص الاجنبي والمحلي، بما في ذلك شركات النفط العالمية، للاسهام في تطوير قطاع النفط وفق اسس ترعى مصالح الدولة العراقية والشركات المستثمرة، بالاعتماد على المعايير المتعارف عليها في القانون الدولي، كالامتيازات وعقود الشراكة، وغير ذلك من السبل التي تبقي هذه الثروة الوطنية بأيدي الدولة العراقية وليس اعادة سيطرة الشركات عليها كما كانت عليه الحال منذ اكتشاف النفط في العراق والبدء باستخراجه في عشرينات القرن الماضي حتى تحريره من سيطرة هذه الشركات التي كانت استغلت واقع الانتداب البريطاني المفروض على العراق بقرار من عصبة الامم. ويحسن في هذا المجال استعراض الكيفية التي فرضت بها سلطات الانتداب البريطاني امتيازات النفط الجائرة فيل عشرينات القرن الماضي للاستفادة من ذلك في التصدي للمحاولات التي تجري الآن لانتزاع السيطرة على هذه الثروة الوطنية من ايدي الدولة العراقية واعادتها الى سيطرة الشركات النفطية الاحتكارية تحت لافتة "الاصلاحات الاقتصادية"! فمن المعروف تاريخياً ان الحكومة العثمانية كانت منحت شركة النفط التركية وهي شركة رأسمالها الغالب بريطاني موافقة اولية للبحث عن النفط في ولايتي الموصل وبغداد، وفق شروط يجري التفاوض عليها في وقت لاحق، وذلك في 28 حزيران يونيو 1914. وقد اُهمل هذا الوعد بدخول تركيا الحرب الى جانب المانيا. وفي كانون الثاني يناير 1923، راجع اصحاب تلك الموافقة الاولية الحكومة العراقية لمنحهم الامتياز من جديد. غير ان الحكومة قررت في 13 آب اغسطس 1923 عدم الاعتراف بالامتياز الذي تدعيه شركة النفط التركية. وفوّضت ساسون افندي حسقيل، وكان وزيراً للمالية، التفاوض مع الشركة اثناء وجوده في لندن. واعدّت دائرة المعتمد البريطاني، وكان الحاكم الفعلي للعراق، لائحة بالامتياز المطلوب، وتقدم بها الى مجلس الوزراء العراقي قائلاً ان وزير المستعمرات يرغب في الحخصول على جواب من الحكومة العراقية بأسرع وقت ممكن. ولذا شكلت الحكومة لجنة من ناجي السويدي وياسين الهاشمي والكولونيل سليتر والمستر دراود لبحث الموضوع. وقررت اللجنة ان الامتياز لا يسري الاّ على ولايتي الموصل وبغداد المذكورتين في كتاب الصدر الاعظم في 28 حزيران يونيو 1914 دون ان يشمل ولاية البصرة والاراضي المحولة في ولاية بغداد، وهي اراضي كانت ايران اعادتها الى الحكومة العثمانية في وقت سابق. كما قررت اللجنة انه ينبغي على الحكومة ان تصر على طلب حصة في رأسمال الشركة عوضاً عن الحصة السنوية التي تدفع لها عن النفط المستخرج، وان تكون هذه الحصة في رأس مال الشركة خالصة القيمة ومقدارها 20 في المئة من رأسمال الشركات التي تؤسس لاستثمار الامتياز. ووافقت الحكومة العراقية على التفاوض مع مندوب شركة النفط التركية بناء على طلب المعتمد البريطاني. وإثر ذلك، جاء المستر كيلينغ الذي كان عنيداً، حسب ما ذكر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية" الذي استقينا منه المعلومات الموثقة الواردة في هذه المقالة. وعندما لم يتحقق ما اراده كيلينغ عاد الى بلاده. ومن ثم عاد ثانيةً. ومورست ضغوط على الملك فيصل الاول، كما يروي علي جودت الايوبي في مذكراته. قال الايوبي، الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك، ان الملك فيصل استدعاه ذات يوم ليبلغه ان الانكليز لا يقبلون دفع اكثر من اربعة شلنات عن كل طن. وانهم هددوه باتخاذ ترتيبات اخرى للمحافظة على حقوق الشركة التي حصلوا عليها من الحكومة العثمانية، لا سيما وان الاتراك مستعدون للتساهل في هذه القضية، وان قضية الموصل والحدود لم تحسم بعد. ولما وجد المندوب السامي ان اللجنةالوزارية المذكورة تتمسك بمطالب لا يمكن إقرارها، اوعز الى ممثل الشركة بوجوب ترك العراق حتى تأتي وزارة اخرى، فسافر. وعندما جاءت لجنة التحقيق الاممية بشأن قضية الموصل، المؤلفة من قبل عصبة الامم، اخذ اعضاؤها يتصلون بالمندوب السامي ويستحثونه على منح امتياز نفط الشمال الى الشركة لضمان إلحاق ولاية الموصل بالعراق. واتضح للحكومة العراقية ان عصبة الامم لن تسمح ببقاء ولاية الموصل للعراق ما يم يمنح شركة النفط التركية امتيازاً بالبحث عن النفط في الولاية المتنازع عليها. وصارت اللجنة تتدخل بشؤون العراق الداخلية عن طريق توجيه الاسئلة الى المعتمد البريطاني الذي ينقلها بدوره الى الحكومة العراقية. تجاه هذه الضغوط قررت الحكومة، رغم عدم اعترافها بان شركة النفط التركية قد مُنحت اي متياز، بانها مستعدة لأن تفي بهذا الوعد، شريطة ان توافق الشركة على الشروط التي تعتبرها الحكومة العراقية مرضية. واهم هذه الشروط هي مسألة الحصص 20 في المئة، استناداً الى اتفاقية سان ريمو التي اعتبرتها بريطانيا من المعاهدات والاتفاقات الدولية المشار اليها في المادة العاشرة من المعاهدة العراقية - البريطانية. وفي 5 آذار مارس 1925، أطلع رئيس الوزراء ياسين الهاشمي زملاءه الوزراء على الانذار الذي تسلمه من وزير المستعمرات البريطاني في 11 شباط فبراير 1925 الذي نص على ان "الحكومة البريطانية ترغب رغبة كبيرة في الابتعاد عما تخشاه من التطورات السياسية غير المرغوب فيها. ولا يُعتقد بوجود طريقة لذلك الاّ اذا قبلت الحكومة العراقية، ومن دون تأخير، التوقيع على مسودة الاتفاقية كما هي الآن. وانه - أي وزير لمستعمرات - لا يرغب في عرض اية تعديلات اخرى بصدد الامتياز عليه. ويأمل ان تقتنع الحكومة العراقية بالضرورة الملحة للتوقيع على الاتفاقية من اجل مصلحة العراق"!! وكان المعتمد البريطاني ارسل كتاباً الى رئيس الوزراء قبل ذلك، في 7 شباط فبراير 1925، يقول فيه: "ان حق الحكومة العراقية في الاشتراك بحصص في شركة النفط التركية لا سبيل الى إنكاره. الاّ ان الشركة المذكورة كانت قد وضعت جميع الترتيبات مع مشروعها واقسامها الدولية المختلفة التي تتألف منها، على اساس ان الحكومة العراقية ستقبل اربعة شلنات لكل طن يستخرج من النفط بدلاً من اسهامها بحصص في رأس مال الشركة. فلا يوجد أمل والحالة هذه في حمل الجماعات الدولية التي تتألف الشركة منها على قبول أي حل آخر"! ونظراً لاحتفاظ الحكومة العراقية بوجهة نظرها بشأن مسألة الحصص، كانت هناك محاولة من الملك فيصل الاول الذي اُختير ليكون ملكاً على العراق في مؤتمر القاهرة الذي ترأسه تشرشل والمندوب السامي لاقالة وزارة الهاشمي واعادة تشكيلها بعد اخراج الوزراء المخالفين منها لتيسير الامتياز. الاّ ان وزارة المستعمرات البريطانية لم تقر هذه المحاولة، وارتأت ان يؤخذ بقاعدة الاكثرية في مجلس الوزراء. وفي الخامس من آذار مارس 1925، قرر مجلس الوزراء عدة امور بشأن الاتفاقية، اهمها تعيين مدير عراقي ضمن مدراء الشركة الاصلية، على ان يكون له نفس حقوق المدراء الآخرين في اعمال الشركة، وان تُدفع مخصصاته من قبل الشركة كسائر المدراء. وجرى تخويل وزير الاشغال والمواصلات توقيع الاتفاق عند إتمام الامور الواردة في القرار، أي التخلي عملياً عن شرط حصة ال20 في المئة. وفي 8 آذار مارس 1925، صادق الملك فيصل على قرار مجلس الوزراء، بعد ان صادق عليه المندوب السامي! وصدرت الارادة الملكية بتخويل مزاحم الباججي التوقيع على الاتفاقية نيابة عن الحكومة العراقية، فوقعها في 14/3/1925. كان منح الامتياز بالشكل الذي جرى موضع معارضة شعبية واسعة كان من آثارها معارضة الوزيرين محمد رضا الشبيبي وزير المعارف ورشيد عالي الكيلاني وزير العدل، اللذين استقالا من الوزارة لان الاتفاقية "هضمت حقوق العراق"، كما ذكر الشبيبي في استقالته، ولانه "ليس هناك من مبرر للتنازل عن الحق الصريح المشروع في 20 في المئة من رأسمال الشركة"، كما ورد في استقالة رشيد عالي الكيلاني. تمهل رئيس الوزراء ياسين الهاشمي في قبول استقالة الوزيرين الشبيبي والكيلاني على أمل إبقائهما معه في الوزارة، الاّ ان الوزيرين رفضا الاستمرار. ولذا استصدر الهاشمي ارادة ملكية في 14 آذار مارس 1925 بتعيين الحاج عبد الحسين الجلبي وزيراً للمعارف، وباسناد وزارة العدل، التي كان يشغلها الكيلاني، بالوكالة الى مزاحم الباججي. ولكي تحول سلطة الانتداب دون اي تعديل في الاتفاقية التي مُنح بموجبها امتياز استثمار النفط للشركة البريطانية، عملت على الحيلولة دون نشر القانون الاساسي الدستور، الذي صادق عليه المجلس التأسيسي في يوم 20 تموز يوليو 1924. ذلك ان المادة 92 من هذا القانون نصت على ان "لا يعطى انحصار او امتياز لاستثمار مورد من موارد البلاد الاّ بموجب قانون". وكان المعروف والمعتقد - كما يذكر المؤرخ عبد الرزاق الحسني - ان "المجلس النيابي المرتقب سوف لا يقر هذا الامتياز على الشكل الذي توصلت اليه الوزارة الهاشمي، حيث ظهر الغبن فيه. كما ان المعتمد السامي كان يلح على وجوب تأجيل نشر القانون الأساس الى آخر لحظة ممكنة، حتى تنتهي قضية النفط فيستفيد من المادة 114 منه التي تنص على ان "جميع البيانات والنظامات والقوانين التي اصدرها القائد العام للقوات البريطانية في العراق، والحاكم الملكي العام والمندوب السامي، والتي اصدرتها حكومة جلالة الملك فيصل في المدة لتي مضت بين اليوم الخامس من تشرين الثاني نوفمبر 1914 بدء دخول القوات البريطانية الى العراق في الحرب العالمية الاولى - الصافي وتاريخ تنفيذ هذا القانون الاساسي تعتبر صحيحة من تاريخ تنفيذها". ولما تم منح الامتياز في 14 آذار مارس 1925، قرر مجلس الوزراء في 17 آذار مارس 1925 نشر القانون الاساسي يوم 21 آذار مارس 1925. ويعلل المندوب السامي السير هنري دوبس اسباب عدم الاسراع في نشر الدستور كما يلي: "لم يكن مستحسناً ان تقدم الحكومة العراقية على المباشرة بالانتخابات لتكوين اول مجلس امة دائمي حتى تنتهي لجنة الحدود من اعمالها. وعليه اُجّل نشر القانون الاساسي". ويعلق الحسني على ذلك بالقول "ولكن البرقيات السريعة التي بعث بها المندوب السامي الى وزارة المستعمرات كشفت عن انه كان يخشى ان لا تحظى الاتفاقية برضا البرلمان فيما اذا نشرت بعد نشر الدستور". فهل سيعيد التاريخ نفسه ويجري تخصيص الثروة النفطية واعادتها الى سيطرة الشركات النفطية الاميركية هذه المرة؟ على ايدي المحتلين الاميركيين؟ ام ان مجلس الحكم الانتقالي، ومعه كل القوى الوطنية العراقية، سيعبىء الشعب للحيلولة من دون ذلك بأي شكل كان؟ * كاتب عراقي، لندن.