وزير الاتصالات: بدعم ولي العهد.. المملكة تقود أعظم قصة في القرن ال 21 في الشمولية وتمكين المرأة    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    البليهي: مشكلة الاتحاد انه واجه الهلال وكل المدافعين في اتم الجاهزية    للأسبوع الثاني.. النفط يواصل صعوده    «الأمم المتحدة»: السعودية تتصدر دول «G20» في نمو أعداد السياح والإيرادات الدولية    "متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام في السودان" يؤكد على مواصلة العمل الجماعي لإنهاء الأزمة في السودان    غزة.. الاحتلال يبيد العائلات    أمريكا: نحذر من انهيار البنوك الفلسطينية    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    السيوفي: اليوم الوطني مناسبة وطنية عظيمة    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    الهلال يكسب الاتحاد بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    خادم الحرمين لملك البحرين: نعزيكم في وفاة خالد آل خليفة    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    أمانة القصيم توقع عقداً لنظافة بريدة    "طويق" تحصل على شهادة الآيزو في نظام الجودة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    تعزيز أداء القادة الماليين في القطاع الحكومي    أحلامنا مشروع وطن    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    «الخواجات» والاندماج في المجتمع    لعبة الاستعمار الجديد.. !    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    فلكياً.. اليوم آخر أيام فصل الصيف    فأر يجبر طائرة على الهبوط    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    نسخة سينمائية من «يوتيوب» بأجهزة التلفزيون    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    يوم مجيد لوطن جميل    مسيرة أمجاد التاريخ    الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل".. الطيران المدني.. تطوير مهارات الشباب خلال "قمة المستقبل"    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    بلادنا مضرب المثل في الريادة على مستوى العالم في مختلف المجالات    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمن : التوزيع العادل للموازنات ينهي التخلف !
نشر في الحياة يوم 01 - 10 - 2003

كشف الغزو الأميركي - البريطاني للعراق في الربع الثاني من سنة 2003 والنتائج الدرامية لهذا الانهيار السريع للنظام والجيش العراقي وملابساته أمام زحف القوات الغازية عن فشل الدول القومية في الوطن العربي فشلاً ذريعاً في قدراتها الدفاعية وقطع بعدم جدوى بقائها واستمرارها على هذا النمط. والواضح أنه لم يعد هناك من بلد في العالم العربي والإسلامي بمنأى عن التهديدات المباشرة لأمنه القومي من جانب أحد أو مجموعة من أطراف القوى العظمى في العالم أو حتى من طرف قوى اقليمية وتحديداً اسرائيل.
اليوم لم يعد هناك ما يبرر الجدل في شأن حقيقة وجدية هذه التهديدات التي قد تصل إلى مستوى الغزو والاستعمار المباشر لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لهذه الدول، لكن ما يجادل بشأنه الآن هو كيفية مواجهة هذه التهديدات والتصدي لها على المدى المتوسط والبعيد.
ان مقومات وعناصر الردع الاستراتيجي لصد العدوان ودحر الغزاة في معظم هذه الدول في الوقت الحاضر مفقودة تماماً، والأمر هو حصيلة تراكم لسنوات طوال لنظم سياسية غير ديموقراطية وغير وطنية أفرزت صدوعاً عميقة في البنيان الداخلي لا تقبل الترميم. وأهم ما أنتجته هذه الأنظمة شعوباً جاهلة وجائعة وعاطلة عن العمل وبائسة ويائسة. وفشل الدولة القومية في الوطن العربي باد للعيان لدرجة لا يحتاج فضح أمرها إلى تفسير وبيان. فالعنف الداخلي الذي يكاد يصل إلى حروب أهلية ونزاعات محلية دائمة وتدهور مستويات المعيشة وانتشار الفقر والبطالة والجهل والأمية والأمراض السارية وضعف البنية الأساسية وغياب الديموقراطية وحقوق الإنسان وتسلط الحكام وجشعهم وطمعهم وانعدام الأمن والمساواة وغياب القضاء المستقل وعجز الدولة عن حماية حدودها وعجزها عن إحكام قبضتها خارج حدود عواصمها في الغالب تظاهرة سافرة ومألوفة لفشل الدول القومية في الوطن العربي مع اختلاف في الدرجة بين البلدان.
مثل هذا الوضع البائس لهذه الشعوب يفتح على الدوام في أي زمان ومكان شهية الغزاة واللصوص لاصطياد فريسة ضعيفة وسهلة كهذه.
والتعليم يمثل حجر الزاوية في استراتيجيات الردع الحديثة. إذ ليس هناك من دولة في العالم أنجزت تنمية وتحقق لشعبها رخاء ورفاهية مستدامة وأمن قوي متين من دون أن تستثمر بصورة سخية وفعالة في التعليم.
الاستثمار في الموارد البشرية
فالاستثمار في الموارد البشرية استثماراً جادا ومدروسا لن يتوقف عطاؤه عند مجرد النهوض بقدرات الأفراد لمواجهة متطلبات الحياة وخفض الفقر وتعزيز وتنمية الموارد الاقتصادية للأمة، بل يقود أيضا إلى رفع القدرة الدفاعية لها وتعبئتها بصورة بناءة وفعالة.
أدرك الأميركيون هذه المعادلة المهمة في السباق العالمي من أجل التقدم والرفاهية والحياة والبقاء في مركز الريادة فأطلقوا صيحتهم المدوية بنشر التقرير الذي كتبته لجنة مكونة من 18 باحثاً ومتخصصاً برئاسة دايفيد غاردنر في نيسان ابريل 1983 بعنوان "أمة في خطر"، ويا له من خطر يمكن ان يهدد أمة كالأمة الأميركية التي تتأهل بكل السبل للتربع على عرش سيادة العالم خلال القرن الحالي وهي التي تربعت على عرشه على امتداد القرن الماضي. ان هذا التقرير المدوي الذي مضى عليه نحو عقدين من الزمن هدف إلى جذب انتباه الشعب الأميركي، ساسة وعلماء ومثقفين ورجال أعمال وعامة الناس، إلى ما يمكن أن يلحقه تردي التعليم بالمقاييس الأميركية بهذه الأمة المتفوقة اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً على سائر الأمم من نتائج مدمرة الفقر والتمييز العنصري، وسوء الأحوال الصحية والعنف. وأطلق كاتب التقرير صرخة الاستغاثة "ان أمتنا تخسر حرب اللامبالاة". وهي مبالاة من وجهة نظر هؤلاء الكتاب تتجلى في تردي المستوى التعليمي في الولايات المتحدة قياساً الى البلدان الصناعية المتقدمة. وأورد التقرير بيانات تقول ان الطلبة الذين كانوا في رياض الأطفال عام 1983 سيغدون بعد أقل من عقدين من الزمن من ذلك التأريخ من خريجي مدارس الثانوية العامة. نصف هؤلاء يلتحقون بالجامعات والمعاهد أو يعملون في وظائف مجزية. بينما النصف الآخر منهم اما أن يكونوا قليلي المهارات أو يعملوا في وظائف أجورها زهيدة بالمقاييس الأميركية أو عاطلين عن العمل، أو يعيشوا على نفقة الإعانة الاجتماعية وكل ذلك لأنهم لم يتلقوا تعليما جيدا.
إن ناقوس الخطر الذي دقه التقرير إنما يعلن عن خطر نسبي لأمة كالأمة الأميركية تتربع على سلم الحضارة الحديثة في معظم مؤشرات التفوق. وبالتالي فان نوع الخطر الذي أطلقه التقرير إنما هو خطر نسبي يرمي إلى الإيحاء باحتمال خسارة الأمة الأميركية لموقع الريادة في حلبة السباق التي تدور رحاها بضراوة بين الأمم المتفوقة في مجال العلم والتكنولوجيا والصناعة، والرائدة في مجال الديموقراطية الحقيقية وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وليس خطر وجود هذه الأمة من الأصل كالخطر الماثل الذي يهدد أمماً متخلفة كالأمة اليمنية حيث يمكن أن تصبح حضارة عريقة كحضارة اليمن وشعبها الضارب في أعماق التأريخ مجرد روايات للأطفال في كتب التأريخ والأشرطة المدمجة.
امية اليمن
ان اليمن بعد مرور أربعة عقود من فك العزلة التي فرضها النظام الامامي الثيوقراطي لا تزال فيه الأمية اليوم تكبل نصف سكان المجتمع اليمني حيث يفوق من لا يعرف القراءة والكتابة أكثر من تسعة ملايين شخص طبقاً للمصادر الرسمية، ولا يزال أكثر من 70 في المئة من الفتيات في سن التعليم يربضن في بيوتهن غير ملتحقات بأي نوع من أنواع التعليم.
وعلى رغم التوسع النسبي في عدد المدارس وزيادة الانفاق الحكومي على التعليم لا يزال 41 طفلاً من كل مئة طفل في سن التعليم الأساسي لا يجدون طريقهم إلى المدارس. وحتى من يحالفهم الحظ في الالتحاق بالمدارس يتسرب جزء منهم خارج المدرسة بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، ويصل هذا التسرب أقصاه عند الفتيات حيث يصل معدل التسرب نحو 70 في المئة من اللواتي التحقن بالتعليم الأساسي.
ان المؤسسات التعليمية في اليمن مكتظة بالطلبة من الدراسة الابتدائية وحتى الجامعة، أما طرق التدريس والمناهج والفلسفة التعليمية وإدارتها فهي من البؤس والتخلف ما يجعل من التعليم السائد في اليمن أضحوكة ومهزلة بحيث يصادف الأستاذ الجامعي كثيراً من الطلبة في الصفوف الجامعية لا يجيدون حتى كتابة أسمائهم بشكل صحيح. يتخرج كثيرون منهم من دون مهارات تذكر ولا يستطيعون الالتحاق بسوق العمل ولا هم بقادرين على خلق فرص عمل لأنفسهم فينضمون إلى جيش العاطلين حيث تتفشى البطالة بين الخريجين لتصل اليوم إلى نحو 50 في المئة. ولما كان الكثير منهم يفضل الالتحاق بالمعارف الأدبية نتيجة للحمولة التعليمية الهزيلة التي قدموا بها من التعليم الأساسي والثانوي، حيث تشير الإحصاءات الى أن نحو 90 في المئة وأكثر من الطلبة الجامعيين يلتحقون بالكليات الإنسانية التي هي في ذاتها وخصائصها الراهنة تمنح تعليماً رديئاً، فان إسهام التعليم والتعليم الجامعي بشكل خاص في التنمية والنهوض الاجتماعي يكاد يكون معدوما.
لا توجد آفاق حقيقية في إحداث نقلة نوعية في قطاع التعليم في اليمن على رغم أن برنامج الحكومة الأخير المقدم الى مجلس النواب في حزيران يونيو الماضي افرد حيزا كبيرا لمعالجة قضايا التعليم، إلا أن هذا الفصل من البرنامج أتسم بكثير من العموميات التي لا تقود إلى نتائج عملية بناءة وفعالة توازي حجم إشكالية التعليم في اليمن كما افتقر إلى تقديم رؤية مغايرة لما هو قائم من فلسفة تعليمية اقل ما يقال عنها انها متخلفة ومهدرة للجهد والوقت والمال.
ظل التعليم في اليمن على امتداد أربعة عقود من قيام الثورتين اليمنيتين رهناً للمناورات السياسية وأسيراً للايديولوجيات المتخلفة والمتطرفة في آن. وعلى سبيل المثال عملت المعاهد الماركسية في جنوب اليمن التي أنشئت في مطلع عهد الحكم اليساري والمعاهد العلمية الدينية التي تأسست في عهد الرئيس الحمدي مطلع السبعينات في شمال اليمن، على نشر قيم التخلف والتطرف في صفوف أجيال متعاقبة من اليمنيين، وظلت المعاهد الدينية تتلقى دعماً وتمويلاً من الحكومة ومن دول شقيقة حتى اتخذ الرئيس علي عبدالله صالح قراراً بإغلاقها قبل سنوات قلائل. وعلى رغم الهالة والضجة التي تدور في شأن معالجة مشاكل التعليم العويصة والمزمنة فإن المؤشرات العملية لا توحي بالجدية الكافية أو الرؤية الواضحة والدقيقة بشأن كيفية اخراج هذا القطاع الحيوي من تابوته العفن والمظلم ونفض غبار التخلف والعفانة عنه وادماجه في صيرورة العصر الحديث المعولم. والمسؤولون اليمنيون الذين تولوا قيادة العملية التعليمية وتعاقبوا على مؤسساتها خلال العشرين سنة الماضية يتسم معظمهم بالضحالة الفكرية وغياب الرؤية الفلسفية للتعليم وآخرون ممن يحوزونها كبلتهم مراكز القوى المتمصلحة من سيادة تعليم بهكذا حال. وإذا ما أعلن عن تغيير ما فإن التغيير في الغالب لا يطال الأشخاص المسؤولين عن الفشل بل ما يحدث في الحقيقة هو تبديل للمواقع وفي حالات كثيرة ما تجري ترقيتهم ومكافأتهم على ما اقترفوه من أخطاء وفشل.
الصورة الجانبية والكالحة لآفاق الواقع التعليمي في اليمن تكرسها بنود الإنفاق الحكومي على التعليم. فعلى رغم أن اليمن ينفق 20 في المئة من موازنته على التعليم أي ما يعادل 8 في المئة من ناتجها المحلي وهذا يوازي نسبة ما تنفقه السويد أو الدنمارك من ناتجه المحلي على التعليم، وهو ما يتفق نظريا مع نتائج وميثاق مؤتمر القمة الاجتماعي العالمي الذي انعقد في كوبنهاغن عام 1995 وتمخضت عنه وثيقة 20/20 التي صادق عليها 117 زعيماً ورئيس دولة من دول العالم بما فيها اليمن، وهي الوثيقة التي تقضي بتخصيص 20 في المئة من موازنة الدول والمساعدات الدولية للتعليم وإيلائه الأهمية القصوى باعتباره الوسيلة الرئيسة لمكافحة الفقر وتحرير الإنسان من أشكال الظلم والامتهان، وباعتباره الوسيلة لإحداث النهوض الاقتصادي والتقدم الاجتماعي فان هذه النسبة من الإنفاق لم تحرز أي تقدم يعتد به في العملية التعليمية بل زادت الأعداد المطلقة من الأميين وساءت المخرجات التعليمية وتحول التعليم في اليمن من أداة للنهضة والتغيير إلى مواقع لإنتاج التخلف بأشكاله المختلفة.
ولذلك أسباب متنوعة منها طبيعة فلسفة ومناهج التعليم في اليمن وسوء الإدارة والفساد المتفشي على نطاق واسع في هذا القطاع، ومنها أيضا طبيعة بنود الإنفاق الحكومي على قطاع التعليم . فنسبة 90 في المئة من بنود الإنفاق على قطاع التعليم هي نفقات جارية وهي نسبة كبيرة لا تترك إلا النذر اليسير لبنود النفقات الاستثمارية الضرورية لتجديد المنشآت التعليمية وتحديثها ورفع كفاءتها العلمية والتقنية. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين تم تشييد 12 ألف مدرسة فقط بما في ذلك المدارس الخاصة مقابل 72 ألف مسجد تم تشييدها خلال الفترة نفسها.
إن متوسط الإنفاق السنوي في اليمن على التلميذ في التعليم الأساسي والثانوي بائس للغاية بالمقاييس الدولية فهو يقدر في الوقت الحاضر بنحو 105 دولارات سنوياً وذلك أقل بخمس عشرة مرة عن مثيله للمتوسط الدولي أو أقل 29 مرة عن مثيله في السويد و30 مرة في الدنمارك و45 مرة في الولايات المتحدة حيث تنفق هذه الدول في المتوسط على الطالب في التعليم الأساسي والثانوي 3000 دولار في السويد و3200 في الدنمارك و 4600 في الولايات المتحدة. أما إذا أخذنا في الاعتبار الفارق في توفر وتطور البنية الأساسية للتعليم بين اليمن وهذه البلدان، تبدو الفجوة فوق التصور، وتلك واحد من العوامل الأساسية في تفوق التعليم في هذه البلدان، ومن ثم في رأس مالها البشري الذي يمثل مصدر قوتها الحقيقية واستراتيجياتها الدفاعية.
هذه الأرقام تفرض على أولئك الذين يتحدثون على أن اليمن ينفق جزءاً كبيراً من موازنته على التعليم وأنه بذلك يضاهي الدول المتقدمة أن يعيدوا النظر في طريقة حساباتهم وتفكيرهم وهذا يقتضي إعادة النظر في توزيع بنود الإنفاق الحكومي وتخصيص المزيد منه للتعليم مع التركيز على كفاءة هذا الإنفاق وتخليص القطاع التعليمي من الفساد وسوء الإدارة وتبني فلسفة ومناهج تعليمية حديثة متصلة بمناخ العصر.
الموارد المالية
ولدى اليمن موارد مالية مقبولة على المستوى المحلي للنهوض بالقطاع التعليمي يمكن تحريرها من بند نفقات الدفاع على سبيل المثال. ويمكن الذهاب بعيدا في تقليص هذه النفقات إلى أقصى حدود ممكنة بحيث تكتفي الحكومة بالتركيز على نفقات الأمن فقط لما لذلك من أهمية خصوصاً في الحفاظ على الأمن الداخلي ومواجهة الإرهاب الذي تعاني منه اليمن الأمرين. أما النفقات على الدفاع فتلك أسطورة سياسية لأنه لا أحد يعرف بالضبط كم هو المقدار الكافي من النفقات الدفاعية لتأمين دفاع صلب فعال ومستدام لأن ذلك في الواقع سؤال عسير في اقتصادات الدفاع.
إن الحكم على المستوى الملائم للاستعداد العسكري ليس علماً إنما هو مزيج من الاستجابة العقلانية والفطنة والاستعداد الحذر لاحتمال طارئ وفي حالات "عالمثالثية" متطرفة إنما يكون الإنفاق العسكري استجابة لأهواء ونزوات شخصية لقادة يغويهم جمع الثروة بوسيلة كهذه. القادة العسكريون عموما ميالون إلى رفع الاحتمالية الطارئة التي يرغبون في الاستعداد لها بينما يميل السياسيون الحكماء والقادة النافذو البصيرة إلى التساؤل عن ضرورة وجدوى هذه الاستعدادات ويجنحون الى تعزيز القدرات الدفاعية لأوطانهم من خلال تعزيز القدرة الاقتصادية والبنية الاجتماعية التي يمثل الإنسان المتعلم تعليماً حديثاً وكفؤاً رافعتها الأساسية.
وفي الحقيقة، ان الردع الناجح هو عدم احتمال قيام هجوم لفترة طويلة من الزمن يسوده السلام واستقرار ووئام اجتماعي داخلي دائم كما يسود في أوروبا اليوم، وهو الأمر الذي يقود إلى تقليص النفقات الدفاعية وتوجيهها الى جبهات التنمية الاقتصادية والاجتماعية خصوصاً التعليم والصحة التي تؤمن صلابتها وقوتها ردع حقيقي. وتمثل اليابان نموذجاً مناسباً للمقارنة بين علاقة التنمية البشرية والإنجازات الاقتصادية ومستوى وكفاءة الردع الاستراتيجي عند نفقات دفاعية تقل عن 1 في المئة من الناتج القومي الياباني.
إن كثيراً من المحللين الاقتصاديين والاستراتيجيين يقيمون صلة بين نسبة الناتج المحلي المخصص للنفقات الدفاعية في اليابان وبين النمو الاقتصادي، ومعدلات الاستثمار والتنمية البشرية ومستوى المعيشة في هذه الدولة. واليمن اليوم، تسود علاقاته بجيرانه حالة من الوئام والسلام لم يعرف التأريخ الحديث والمعاصر مثيلا لها قط، ما يسمح بخفض النفقات الدفاعية إلى أدنى مستوى ممكن.
وإجراء خفض ملموس في بنود نفقات الدفاع في الموازنة العامة إلى مستوى بلدان الدخل المتوسط سيُحرر الكثير من الموارد ويوجهها الى التنمية الاقتصادية والبشرية على وجه الخصوص ويرفع من معامل الاستثمار إلى الدرجة المرغوبة.
وستؤول معدلات التنمية البشرية العالية ومعدلات الاستثمار المرتفعة إلى معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي والتنمية والنهوض الاجتماعي التي هي في ذاتها تمثل أهم عناصر الدفاع والردع الاستراتيجي.
إن تحرير نسبة 14 في المئة من اجمالي الناتج المحلي من نسبة المخصص للإنفاق على الدفاع البالغ 6.6 في المئة من هذا الناتج سيؤمن مبلغاً يراوح بين 47 و50 بليون ريال على الأقل في الوقت الحاضر للنهوض بشكل فعال بالتنمية البشرية وذلك باستثمارها في مجالي التعليم والصحة وهما القطاعان اللذان يعانيان من عجز وخلل شديدين. وإذا ما داوم قطاع التعليم والصحة على هذا العجز والخلل فانهما يمثلان أكبر تهديد لمسار عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام، وأكبر تهديد وانتقاص من قوة الردع الاستراتيجي لليمن.
إن الفشل يقتضي التغيير وقطاع التعليم الفاشل في اليمن بكل المعايير حاجته للتغير الجذري ملحة لا تقبل المناورة والتأجيل. هذا ما فعله الأميركيون واليابانيون والكوريون من قبلهم وغيرهم. وهم يجنون اليوم ثمار هذا التغيير في فلسفة وبرامج التعليم.
وتذكر التقارير التي صدرت على مدى عشرين عاما من تقرير "أمة في خطر" أن التعليم في أميركا حقق تقدما كبيرا خلال العقدين الماضيين سمح لها بأن تتفوق بصورة كاسحة على أمم المعمورة في معظم مجالات الحياة ، وهو ما جعلها القوة الأعظم والأوحد في العالم.
هل آن الآوان لنا لأن نفعل ذلك؟ وهل نتمتع بالقدر الكافي من المسؤولية والشجاعة للإقدام على إجراء التغيير الحقيقي ؟
* أستاذ الاقتصاد في جامعة صنعاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.