منذ سنوات وأنا اراقب باريس من خلال… الشحاذين. أزعم أن بالإمكان الاستدلال على التغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمكان ما برصد تقلبات أساليب التسول وانتماءات المتسولين أنفسهم. ذلك أن الشارع يلتقط الفئات التي تتناثر بفعل الاهتزازات وتعجز عن البقاء داخل البناء الاجتماعي، حتى لو ارتضت تغيير موقعها فيه. وفي البلدان حيث ما زال هذا البناء متماسكا، أي حيث الاقتصاد الرسمي والدول قائمة وقوية، فهؤلاء الذين يجدون أنفسهم خارجها تماماً يختلفون عن حالة الخارجين عن بنى وصل فيها التفكك والتخلع إلى حد ان شرائح كاملة تهيم فعلياً على وجوهها، يتسكع أفرادها لأنهم عاطلون أبديون عن العمل، إما لم يعملوا مطلقاً كحالة أجيال متلاحقة من الشان في الجزائر مثلاً الذين اطلق عليهم "الحيطيون" لاستنادهم الى حيطان شوارع المدينة ليل نهار، أو كتلك الظاهرة الثانية التي برزت في السنوات الأخيرة في الجزائر أيضاً وبزَّت الحيطيين، أي النساء المطرودات من بيوت الزوجية مع أطفالهن، واللواتي ترفض عائلاتهن استعادتهن، لضيق المكان وذات اليد، فيعشن ببساطة في الشارع ومن التسول، أو كهؤلاء الشبان من المغرب الذين يمضون أوقاتهم بحثاً عن وسائل للهرب إلى أوروبا، فيقضي قسم منهم اثناء التجارب المتعددة، أو يعتاش بعضهم الآخر على الأعمال الصغيرة التي يقع جلها في حلقة الوساطات الدنيا لعوالم ترويج المخدرات والدعارة، بالأخص حيث يكثر السياح. وفي بلدان أخرى من العالم، كالهند مثلاً، يمكن بالتأكيد للكم الهائل من المشردين والمتسولين الافصاح عن "تنظيم" آخر للبنية الاجتماعية نفسها ولأزماتها أيضاً. إلا أنه في بلد كفرنسا، تبقى هذه الظاهرة المقيمة على الهامش الاجتماعي، هي نفسها أكثر تماسكاً، بمعنى أن انفصالها واضح وجلي عن الآلة التي تستمر، رغم كل شيء، في الدوران وفق الأسس النظامية والمتعارف عليها. فالفرنسيون يرغبون بالمحافظة على اسطورة تقول إن ظاهرة "الكلوشار" الشهيرة ظاهرة ثقافية، وأن هؤلاء اختاروا نمط العيش هذا لأنهم متمردون وفوضويون، يرفضون النظام القائم، أو أنهم أحفاد الشعراء الجوالين الذين تكتظ بهم سنوات الخروج من القرون الوسطى. ويكاد يختفي اليوم "الكلوشار" التقليدي المختص بحيّ بعينه ليصبح جزءاً منه، أو ربما ان الأعداد الهائلة لنماذج تختلف عنه طغت عليه. هناك في فرنسا اليوم رسمياً، بالمعنى المؤسسي، فئة اجتماعية اسمها "من دون سكن ثابت" تشير إلى تعاظم كمية من خرج من النظام العام وأصبح في الشارع. ما زال بالطبع هناك عازفون متقنون على آلات موسيقية، كأفراد أو كفرق صغيرة، يحتلون بعض الأماكن في أروقة المترو خصوصاً، ويبدون كمن يقدم مهارته للناس أكثر مما يتسول، بل ان بعضهم انتج أقراصاً مدمجة يبيعها لمن يرغب. وما زال هناك بعض أصحاب المهارات الأخرى التي كان الشارع تقليدياً مكان ممارستها وهي تمزج الفن بالتحرر من الشبكات النظامية لتداوله، إما كموقف منها أو للعجز عن الدخول إليها. إلا أن هذه وتلك تخرج عن نطاق التسول بمعناه الفج، والذي يمكن رصد ظواهر طاغية تتعلق به برزت في السنوات العشر الأخيرة. بدأت أولاها مع اكتشاف مرض السيدا الإيدز، فأصبح نموذج المتوسل الذي يثير العطف ويستدر النقود هو ذلك الشاب الذي يعلن بصوت عال في عربات المترو أو بواسطة لوحة إعلانية يضعها قرب مكان جلوسه على الرصيف، التفاصيل المتعلقة بسنه ومرضه وعجزه عن العمل وفقدانه سائر حقوقه التعويضية، مع استفاضة في شرح الأسباب، ثم يطلب مساعدة للمحافظة على مستوى معقول من التغذية والنظافة. ولما كثر عدد هؤلاء، أو لما اعتاد الناس ببساطة على المرض أو تصوروا أنه قد انحسر، بطل المفعول التعاطفي مع المتسولين باسمه. والحق ان موجة جديدة كانت تجتاح هذا العالم، كان رموزها من خرج من العمل نتيجة أزمات الانتاج المتكررة واغلاق عدد من المؤسسات والمصانع الكبيرة. هكذا بدأ نساء ورجال، في منتصف العمر، على حد من الاناقة والتحفظ اللذين يضاعفان مأساة موقعهم الجديد، بالظهور في الشوارع جالسين بهدوء أمام بيانات كبيرة تشير الى مكان العمل الذي أغلق والمهنة التي كانت ممارسة، ثم تشرح الاسباب التي تجعل الحصول على عمل جديد مستحيلا والتعويض المتقاضى غير كاف. فيصبح النص وكأنه الجزء الشخصي من منشور سياسي أو نقابي. وكان المارة يتوقفون دوماً لقراءة تلك النصوص، وبعضهم يدخل لدقائق في نقاش مع هذا المتسول الجديد، حول الاحتمالات الممكنة. وان كان الحدس بأن قصة شخصية أو نفسية تقف وراء الارتماء في الشارع، الا ان التعاطف هنا كان أقرب الى الخوف على النفس، سيما حين انفجرت في الوقت نفسه، في منتصف التسعينات، الاضرابات الكبيرة وكان أبرزها لعمال السكك الحديد ممن شل إضرابُهم النقلَ لشهر كامل، وكانت مناسبة لإعادة صياغة نضالية وفكرية أبرزت أهمية ما بات يعرف بالحركات الاجتماعية وطرحت الموقع الذي يحتله اليسار التقلىدي، كالحزبين الاشتراكي والشيوعي، من الأزمة المتفجرة وموقفهما منها. وبرزت في سياق العملية مجلات جديدة تماما، تباع في الشارع، بعضها وسيلة لتأمين دخل صغير للبائعين من المتسولين أنفسهم فيما بعضها الآخر أكثر تبلوراً، يتعدى مجرد تشكيل دليل للسياحة الشعبية، الى التعبير عن رأي بعض تلك الحركات الاجتماعية الأكثر تضرراً والتي تحتل المواقع الأكثر هامشية، أو يرتبط القائمون على تحريرها بتلك الحركات بأشكال مختلفة. رويداً بعد ذلك، اختفت تلك اللوحات الاعلانية التفصيلية، وحلت مكانها كلمة وحيدة: "انا جائع". كان وقع تلك الصرخة في مدينة مترفة كباريس يفوق الاحتمال، يعذب ضمائر المستهلكين النهمين ويبرز نوعا من الخطر الصادم حين يرتبط الجوع بأماكن بعيدة، كأفريقيا مثلاً. ثم جاءت موجة النازحين من جحيم الحرب الاهلية في يوغوسلافيا السابقة. أو تلك هي الاطلالة الرسمية لذلك الخليط من الاقوام الذي يبدأ بالألبان وينتهي بالرومان. ولأن المجموعات الأولى من الوافدين كانت كوسوفية وبوسنية، أي مسلمة، راحت تبرز بين الأيدي، وفي الأعناق، الأيقونات وصور القديسين والصلبان التي تهدف الى دفع تهمة الانتماء الاسلامي وتدغدغ المشاعر المسيحية لعموم الناس. اقتصر التعاطف مع هؤلاء على البدايات، حين كانت الحرب مستعرة هناك وكان عدد الوافدين قليلا نسبياً، بينما دخل اليوم موضوع نزوح فقراء أوروبا الوسطى صميم السجال السياسي والأمني. وربما أضيف الى ذلك ملاحقة هؤلاء المتسولين اللجوجة للمارة وتوسلهم الباكي واستخدامهم أطفالاً صغاراً يرافقونهم كوسيلة لاستدرار العطف، وهي وضعية في التسول مألوفة في بلداننا إلا أنها منفّرة تماماً في أوروبا. وقد لاحظت صديقة فرنسية عن حق انهم بدأوا بالتسول في وضعية ركوع، لا جلوس، على الأرصفة كما هو معتاد هنا. إلا أنهم غيروا بعد ذلك بوقت قصير لأن "الركوع لا يعجب الفرنسيين" كما قالت بشيء من فخر لم تنجح في إخفائه. ولمدة طويلة، تفاخر المتحدرون من أصول عربية بغياب ظاهرة التسول عندهم، لأنها لا تتطابق مع القيم الاجتماعية التي يتداولون. فالشبان بينهم، ممن يعيشون أزمة اندماج اجتماعي فعلية، بسبب انهيار النظام التعليمي وتفشي البطالة وارتفاع الممارسة العنصرية، يجدون انفسهم أميل للانخراط في الأعمال غير المشروعة، بما فيها التي تقع في باب الجريمة، مما في التسول. وما زال هناك اعتقاد راسخ بأن طرد العجائز وتركهم يتدبرون أمورهم في الشارع غير جائز. إلا أن شيوخاً وسيدات مسنين كثراً، يرطنون بالعربية المحكية ويرددون الأدعية المألوفة، باتوا يحتلون بعض أروقة المترو وزوايا الشوارع بينما انحصر وجودهم سابقاً حول جامع باريس الكبير أو مساجدها العديدة. وما زال تسولهم يخاطب خصوصاً أبناء جلدتهم مثيراً لدى هؤلاء مزيجاً من الدهشة والخجل.