Chahla Chafiq. Le Nouvel Homme Islamiste: La Prison Politique en Iran. الإنسان الإسلامي الجديد: السجن السياسي في إيران. Le Fژlin, Paris. 2002. 248 Pages. هذه رحلة في عمق جحيم القرون الوسطى. ولكن لا التاريخ هو التاريخ، ولا الجغرافيا هي الجغرافيا. فالجحيم القروسطي ليس جحيم أوروبا اللاتينية، ولا محاكم التفتيش هي محاكم الكنيسة الكاثوليكية. بل نحن في إيران في العقد التاسع من القرن العشرين، والمحاكم هي محاكم الثورة الإسلامية. أما الحقبة الزمنية فهي الحقبة الخمينية الممتدة من مطلع نيسان ابريل 1979 يوم أعلن الإمام الخميني: "اليوم تقوم حكومة الله في إيران"، إلى يوم وفاة زعيم الثورة الإسلامية في 3 حزيران يونيو 1989. هذه الحقبة كان الإمام الخميني قد دشنها بالقول على سبيل الاستباق في تصريح أدلى به لصحيفة "لاكروا" الفرنسية في 1 تشرين الثاني نوفمبر 1978: "لن يكون هناك وجود، في الدولة المستقبلة، لسجناء سياسيين". والحال أنه لم تمض أشهر معدودة على قيام هذه "الدولة المستقبلة" حتى كانت سجون إيران قد امتلأت بعشرات الآلاف من السجناء السياسيين، مما اضطر سلطات الجمهورية الإسلامية ليس فقط إلى بناء سجون جديدة، بالإضافة إلى إعادة فتح جميع سجون الشاه، بل كذلك إلى تخفيف الضغط عن هذه السجون من خلال التصفية الدورية المنظمة لنزلائها. فتبعاً لتقديرات منظمة العفو الدولية، فإن عمليات الإعدام طالت 4605 شخصاً في عام 1983 وحده، علماً بأن "هذا الرقم لا يشمل سوى حالات الإعدام التي تم الإعلان عنها رسمياً، من دون أن يشمل الحالات غير المعلن عنها". وفي تقريرها لعام 1985 تحدثت منظمة العفو عن 6108 حالة إعدام جديدة. أما في 1988، وعلى اثر اضطرار الجمهورية الإسلامية إلى القبول بقرار مجلس الأمن الدولي القاضي بوقف الحرب بينها وبين العراق، فتمت، حسب تقديرات الإمام منتظري نفسه، في رسالة احتجاجية مشهورة له، تصفية ما يتراوح بين 2800 و3800 سجين سياسي. بيد أن تقديرات أخرى تتحدث عن 4500 إلى 5000 عملية إعدام في ذلك "الصيف الأسود" من 1988، وهو الرقم الذي يقترحه الباحث الإيراني نيما بروارش الذي كان هو نفسه نزيل سجني جوهردشت وجزلهصار السيئي الذكر على امتداد الفترة ما بين 1982 و1990. قارئ هذا الكتاب، الذي تصدمه إلى حد الرعب الوقائع الواردة فيه عن "السجن السياسي في إيران"، لا يملك إلا أن يطرح على نفسه مع ذلك سؤالاً: "لماذا اختارت مؤلفته، نهلة شفيق، أن تجعل له هذا العنوان الرئيسي الملتبس: "الإنسان الإسلامي الجديد"؟ بكل بساطة، لأن هذا الكتاب ليس مجرد تحقيق احصائي وسوسيولوجي عن واقع السجن السياسي في العقد الأول من الثورة الإسلامية في إيران، بل هو أيضاً، وبالأساس، كتاب في فلسفة السجن الإسلامية. فالسجن هو مكان "التوبة"، والتوبة هي حجر الزاوية في صناعة "الإنسان الإسلامي الجديد". فالسجن ليس مجرد وسيلة للقمع، بل هو أيضاً مختبر أو مصنع لإعادة تخليق الإنسان. ذلك أن الخصوم الذين واجهتهم الثورة الإسلامية ما كانوا يتمثلون فقط بالأعداء السياسيين المباشرين من أنصار نظام الشاه السابق وعملاء أجهزة مخابراته، بل كذلك ب"الأصدقاء" الذين انتصروا للثورة الإسلامية من موقع ايديولوجي مغاير، من شيوعيين وماركسيين وديموقراطيين وعلمانيين ونسويين وقوميين من الأقليات الكردية والتركمانية، فضلاً عن الإسلاميين أنفسهم من أنصار بني صدر ممن عارضوا التوجه الشمولي ل"حزب الله" الذي احكم قبضته على مقاليد البلاد منذ أن اقيل بني صدر من منصبيه كقائد أعلى للجيش وكرئيس للجمهورية الإسلامية بموجب مرسوم من الإمام الخميني وقرار من البرلمان الإسلامي في حزيران 1981. هؤلاء الأنصار الذين صاروا خصوماً، والذين اكتظت بهم السجون ابتداء من 1981، هم الذين بات مطلوباً إعادة تخليقهم في مختبرات "التوبة" الإسلامية. فالتوبة هي المفهوم المركزي الذي يتحكم بفلسفة السجن السياسي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فبموجب التقسيم اللاهوتي لأصناف الجريمة السياسية، فإن السجناء تتراوح مراتبهم بين "الكافر" و"المشرك" و"المفسد" و"المنافق"، وبحسب موقعهم في هذا التصنيف تتفاوت عقوباتهم بين السجن والسجن مع التعزير والسجن مع التعذيب والإعدام. وفي الحالات جميعاً فإن التوبة هي "العتبة" التي يفترض بكل سجين سياسي أن يجتازها، حتى وهو يأخذ طريقه إلى منصة الإعدام، لأنها بمثابة إشهار وتكريس لخضوعه للسلطة المقدسة. والمفارقة ان اعترافات "التائبين" لا تفيدهم، في العديد من الحالات، حتى في انقاذ جلدهم. فهي تُستخدم، أول ما تُستخدم، في تبرير ادانتهم وتعذيبهم وإعدامهم عند الاقتضاء. ثم أنها تستخدم ثانياً في تحطيم مقاومة السجناء الآخرين المصرّين على عدم التوبة. وفي المرتبة الثالثة فحسب تؤدي نوعاً من وظيفة لاهوتية: فهي ان كانت لا تكفل للمعدوم البقاء على قيد الحياة الدنيا، فإنها جواز سفره إلى الآخرة. فمن دونها يكون مآله لا محالة إلى جهنم. ولهذا فإن انتزاع التوبة من المعدوم، ولو بقوة التعذيب، هو فعل خير في صالحه وصالح روحه في يوم القيامة. ومن هنا أصلاً رمزية مصطلحات "التابوت" و"القبر" و"القيامة" في السجن السياسي الإيراني. فجميع هذه المفردات أسماء لأنواع من الزنزانات والمهاجع الجماعية في سجون الجمهورية الإسلامية. فالمهجع الكبير يقسم، بواسطة ألواح خشبية، إلى مساحات ضيقة لا يزيد حجمها على حجم القبر، وتعرف فعلاً باسم "التابوت" أو "الجعبة". وفيها لا يستطيع السجين حراكاً، وكل ما يسعه أن يفعل هو ان يقرفص على ركبتيه أو أن يتمدد كما لو أنه فعلاً في تابوت. وهو لا يفارقه إلا لقضاء حاجته. ومدة الإقامة في "التابوت" قد تتراوح بين أسبوعين أو شهرين. وغالباً ما ينقل السجين بعدها، إذا لم "يتب"، إلى "القيامة". والقيامة هي أيضاً اسم لمهجع جماعي، لكنه مخصص للسجناء الذين يصرون على المقاومة وعدم التوبة. وأشهر "القيامات" قيامة سجن جزلهصار في طهران الذي كان يشرف عليه في حينه واحد من أشهر جلاوزة النظام الإسلامي، المعروف لدى السجناء باسم الحاج داود. ف"القيامة" هي نظام من اختراعه. فالسجناء، بعد أن ينالوا نصيبهم اليومي من الضرب، يخضعون لاستجواب جماعي. يُصفّون عند الحائط، وتوزع عليهم أوراق وأقلام، ويُطلب إليهم أن يردوا على أسئلة محددة تتعلق بطبيعة النظام الإسلامي، والحرب مع العراق، والموقف من الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي وإسرائيل، وكذلك ابداء الرأي في طريقة المعاملة داخل السجن. ودائماً ما يكون السؤال الأخير: هل تريد أن تتوب؟ فإذا ما جاء الجواب بالايجاب، طلب إلى السجين أن يقدم معلومات إضافية لم يكن قد أدلى بها من قبل، أو أن يسمي رفاقاً له من نزلاء السجن ممن يعتقد أنهم أكثر تصميماً على المقاومة من غيرهم. أما إذا جاء الجواب بالنفي، فيرسل إلى "القيامة". تُعصب عيناه، ويوقف عند الحائط، ويرغم على الاستماع على مدار الساعات إلى خطب قادة النظام وإلى تسجيلات لاعترافات من اعترف من قادة المجموعات السياسية المعارضة. ويمنع السجين على مدى أيام من النوم. فإذا انهار وسقط أرضاً ضُرب ورُكل كيما يعاود النهوض. وقد تمضي أسابيع، بل حتى شهور على هذا المنوال. وكما يذكر رضا غفري في مذكراته - وهو استاذ جامعي قضى في السجن ست سنوات وخرج منه شبه أعمى ومشلول الساق - فإنه ما كان يمضي يوم إلا ويخرّ أحد السجناء أرضاً وهو يهتف من رمق الروح: "يا حاج داود، اعطني قلماً وورقاً، وسأكتب لك كل ما تشاء". ولكن بدلاً من التوبة، كان هناك أيضاً من السجناء من يختار الانتحار أو… الجنون. يبقى أن نقول إن مصير النساء في سجون الثورة الإسلامية الإيرانية يبدو أسوأ من مصير الرجال. وما ذلك فقط لأن النساء أضعف مقاومة وأقل احتمالاً للتعذيب، بل كذلك لأن المرأة تُعتبر، من المنظور اللاهوتي للنظام الإيراني، عنصراً مغوياً، وجسدها بما هو كذلك محل للشر والدنس. وتعذيب جسد المرأة قد يأخذ شكل اغتصاب. وعلى رغم ضرورة الكتمان، التي تفرض نفسها في مثل هذه الأحوال، وُجدت بين السجينات السياسيات الإيرانيات من يمتلكن الجرأة على الكلام في مذكراتهن عما تعرضن له من أعمال تعذيب واغتصاب. لكن الكثيرات منهن لم تتح لهن الفرصة لا للكلام ولا للصمت. فالمغتصبات غالباً ما يتم إعدامهن. وغالباً أيضاً ما يكون اغتصابهن هو الفعل الأخير السابق لإعدامهن. ذلك أن القاعدة في السجن السياسي الإيراني أن المرأة، المقرر إعدامها، لا تعدم إذا كانت عذراء. وبما أن هناك معتقداً لاهوتياً مؤداه ان المرأة إذا ماتت عذراء ذهبت إلى الجنة، لذا، وضماناً لذهابها إلى النار، فإن المناضلة السياسية العذراء تُزوّج قبل أن تُعدم. تُزوج للجلاد الذي سيتولى إعدامها. وهذا الزواج يتم بموجب عقد شرعي رسمي يتضمن، في ما يتضمن، تحديداً لمقدار "المهر". وهذا المهر يدفع لاحقاً لعائلة الضحية ويكون بمثابة اشعار رسمي بأنها... أُعدمت.