من الضروري ان نبدأ هذه الكتابة بأن نحمد لنائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام قدرته على ان يفتح خزائن الذاكرة وهو لم يزل في موقع المسؤولية المهمة، ولم يتخذ من هذه المسؤولية ستاراً لحجب مسؤولية أهم وهي إلقاء ما هو ضروري من الضوء على ما هو مهم من أحداث. حديثاً عن الماضي وتطلعاً للمستقبل. كما نحمد له أن حكى لنا من دون ان يجعل من نفسه فرس الرهان لكل حدث وكل حديث. فقدم نموذجاً من كتابة تتجاوز حدود "الأنا" لتصل بنا الى ساحة "نحن". لعل القارئ يأذن بأن أكتفي بأن أقف أمام ما جاء في المنشور في كتاب عبدالحليم خدام عن الوحدة المصرية - السورية. فالتخيل الهادئ الذي جاء في كتابة عبد الحليم خدام قد يقدم نموذجاً لكتابة مترفعة عن الاختلاف والكيل بمكيال الانتقاء لما يريد ولما يحب هو، وليس لما توجب الحقيقة، وكذلك الابتعاد عن التفاصيل التي لا تبعث فقط على الملل، وانما تكون الغابة التي تخفي - وعن عمد - ما هو مهم في ركام ما هو فرعي وتفصيلي. وليأذن لي ببعض من أسئلة، فهو يقرر ان الوحدة "كانت نشوة عاطفية وشعوراً غريزياً... وكانت العاطفة هي الأقوى والمشروع هو الأضعف"، أنا شخصياً لا أعتقد ذلك. صحيح كانت هناك المشاعر العربية المتقدة، والتي تفجرت على أيدي قوى سياسية حاكمة أو ضاغطة على الحكم في هذا البلد أو ذاك. وصحيح ان عبد الناصر امتلك "كاريزما" كانت آنذاك طاغية مصرياً وعربياً. ولكن، هل الكاريزما وحدها كافية لقبول ما لا يمكن قبوله؟ أم ان الكاريزما تدفع بالاطراف السياسية الى الاقتراب بحرص وبتدقيق وربما بحذر؟ ذلك أن القائد الذي يمتلك كاريزما يصبح في مجتمع كمجتمعنا قادراً على التحصن بمحبة الجماهير، ربما ضد حرية وارادة الجماهير ذاتها. ولم يكن الأمر في حاجة الى عميق تأمل، فممارسات عبد الناصر ضد كل من خالفه في الرأي فعلاً او قولاً او همساً كانت معلومة للجميع، وهي الممارسات ذاتها التي تذرع بها اسماعيل الأزهري فور فوزه الساحق في انتخابات تقرير مصير السودان، فبعد ان فاز كاتحادي، ما لبث ان انعكس انفصالياً. ولسنا هنا نحبذ الانفصالية أو نبررها أو نقول بأفضليتها، وانما نتأمل ما حدث لنقرر ان شروطاً متأنية ومؤسسية كانت واجبة ليس لضمان حقوق الاثنين نحو الوحدة، وإنما لضمان استمرار الوحدة ذاتها. وتتبدى لنا أطراف من أحرف مبهمة - ربما عن عمد - مثل "الحقيقة التاريخية تبين أنه لم تجر مفاوضات حقيقة بين الرئيس جمال عبد الناصر والوفد العسكري السوري الذي أجرى المحادثات الأساسية معه" وايضاً "كانت الوحدة بين الرئيس عبد الناصر وعواطف الشعب السوري. فطغت العواطف على التفكير بما هو مفيد وبما هو ضار"، ثم "المرحوم صلاح البيطار الذي كان وزيراً للخارجية لم يعرض المشروع الذي أقرته قيادة حزب البعث العربي". ونمسك بهذه الأطراف المبهمة عن عمد لنحاول أن نسأل: لماذا أجرى العسكريون السوريون المحادثات الأساسية مع عبد الناصر؟ وأين كان السياسيون؟ ولماذا لم تصمم قيادة حزب البعث آنذاك على مناقشة مشروعها؟ وعديد من "لماذا" يفرض نفسه لأن ما حدث كان غير مفترض، ولعلي اجازف فافترض أمرين، احدهما أورده عبد الحليم خادم قائلاً: "وتبارى الجميع تحت ضغط الشارع لإعلان التأييد والمباركة من دون ان يدركوا أنهم بالابتعاد عن المناقشة الموضوعية اضعفوا الوحدة وسهلوا انهيارها"، اورده مجملاً لكنه لم يجب على سؤال محدد: كيف ولماذا ومتى انفجر ضغط الشارع السوري لتأييد الوحدة؟ هل لعبها البعض للضغط على البعض فاذا بالأمور تفلت من يديه، وتتحول كرة الثلج الجماهيرية الى قوة دفع مندفعة لم يستطع أحد أن يقف في وجهها، فأحنى الجميع رؤوسهم أمامها؟ ام أن الجماهير كانت قد سئمت ألاعيب سياسية ساذجة لعبها البعض ضد البعض، وسئمت بعض المحاولات العسكرية المتكررة لانقلابات تبدت وكأنها لعبة شطرنج هزلية، فآثرت أن تلعب ضد الجميع بمن يستطيع ان يسكت الجميع؟ وعديد من "أم أن" أخرى لم تفصح الكتابة عنه عن عمد. أما الأمر الآخر الذي تجنب السيد خدام الخوض فيه او حتى لمسه ولو لمساً خفيفاً فهو يدور حول سؤال طبيعي عن مدى دور السياسيين التقليديين في سورية والذين شعروا بخطر التحركات العسكرية غير المحسوبة وغير المنضبطة، وشعروا بخطر القوى الجديدة ومنها البعث والناصريون، فآثروا اللعب بأوراقهم ذاتها كي يتحرك الشارع وفق المشاعر القومية ليستقووا بالجماهير ضد هذه القوى الجديدة التي كانت اصبحت، خصوصاً البعث، حركة ذات تأثير فاعل، ولأن الجماهير قومية وذكية في آن واحد فقد التقطت الخيط وألهبت التوجه نحو الوحدة لهيباً لا يمكن اطفاؤه. لكن الشيء المؤكد هو أن هذا الاندفاع الجماهيري الذي آثر السيد خدام ان يسميه بالعاطفي لم يلتهب من دون فاعل. كذلك فإن المؤكد أن هذا الاندفاع منح عبد الناصر مزيداً من التشدد والانفراد بالسلطة، ورفض الآخر، أي آخر. فالتحرك الجماهيري يكون احياناً قوة دفع باتجاه ايجابي، واحياناً أخرى قادراً على اغراء "الزعيم" او إغوائه بالمزيد من التسلط. وأنا لم أكن مطلق السراح في هذه الأيام لكنني أعتقد أن أي سياسي سوري تمعن في حشود الجماهير التي زحفت على دمشق لترحب بعد الناصر، وأمعن النظر في أسلوب عبد الناصر في الحكم، وما فعله بمعارضيه في مصر، كان عليه ان يدرك ومنذ الوهلة الاولى ان القبضة الناصرية ستقبض على عنق كل مخالف أو معترض أو منتقد أو غير منقاد، وهذا أمر لم يشأ خدام ان يخوض فيه ربما عن عمد تحسباً لحسابات منصبه الحساس. أما عن المسكوت عنه في كتابة السيد خدام عن فترة الوحدة فهو كثير، ولعل أخطره وأهمه هو شهادته الضرورية عن مسلك المشير عامر ورجاله ودورهم في إحباط المشاعر الوحدوية. إن القصص التي جرى تداولها كثيرة، ولست من هواة سردها ولا الاستماع اليها، ولا اعتقد بأن حشدها مهما كانت دقتها وصحتها قد يصنع كتابة تاريخية ذات فائدة ما. لكن المطلوب والمأمول هو تحليل لفعل خاطئ قامت به مجموعة محدودة تسلطت على الوحدة فأنهت زهوها، واطفأت وهجها، ومنحت خصومها فرصة التغلب عليها. إن دراسة أسباب ومسببات انهيار الوحدة أمر ضروري ليس فقط من الناحية السياسية ولا التاريخية، وإنما هو ضروري لفهم هذا التبدل الحاد والسريع في المزاج السوري الذي اندفع نحو الوحدة ثم اندفع خارجها. وهو ضرورة لقياس خطر الممارسات غير الديموقراطية وحتى غير الانسانية التي مارستها مجموعة المشير في سورية، وقياس مثل هذه المؤثرات على توجهات وحدوية سابقة أو لاحقة. لكن الكتابة في الوحدة المصرية - السورية ستظل ناقصة اذا لم يفتح المشاركون والمعاصرون لها، والذين كانوا آنذاك بالقرب من أتون دوائر صنع القرار خزائن ذاكرتهم وقلوبهم، وبموضوعية كتابة السيد خدام وأنا أعتقد بأن كتابته هذه ينبغي أن تكون نافذة له ولغيره للتواصل مع هذا الموضوع المهم. ولكي أكون واضحاً فإن أهمية هذه الكتابات لا تنبع من ارضاء شهوات للبعض في التشفي والانتقام الذي فات أوانه وانما لحل ألغاز التوحد العربي عبر قنوات سلطات لم تزل مستعصية على الفهم. ومع كل تكرار لعمل وحدوي يتكرر الانفصال وتتكرر معه ادعاءات وادعاءات مضادة ثم... لا شيء. هناك شيء ما، فيروس ما، مضاد للوحدة موجود في كل أقاويل التوحد العربي، وفي كل ممارسات التوحد العربي. هذا الفيروس يجب تحديده، تحديداً دقيقاً كي يمكن تخليق المضاد الحيوي القادر على علاجه. من هنا فإن كتابة السيد خدام هي بداية ضرورية، لكنها مجرد بداية لعلها تفتح شهيته وشهية الآخرين ممن يعرفون ويختزنون ما يعرفون كي يقولوا ما عندهم، وما من حرج في ذلك طالما التزم الجميع الكتابة الهادئة والموضوعية التي التزمها السيد خدام. فهل تتواصل كتابته؟ آمل ذلك فنحن كسياسيين وكعرب، وكدعاة لتوحد عربي نحتاج الى مزيد من التأمل ومزيد من الفهم ومزيد من الفعل. * كاتب مصري. الأمين العام لحزب "التجمع" اليساري المصري.