المكان: اي مدينة من مدن فلسطين. المشهد: يدور الرجال والاولاد في ساحة تضيئها انوار كاشفة، وهم يدقّقون في الارض ويلتقطون نتفاً من بين الانقاض المعجونة بالدماء. يتفحصون النتف الملتقطة، وحين يتأكدون من انها نتف بشرية يضعونها في اكياس بلاستيكية يحملونها، ستكون بلا ريب بمثابة اكفان للملمومين. وينتهي المشهد لنواصل تخيّل انهم لا بد سينفقون الساعات وهم يخوضون في الدماء ويدوسون بقايا الاشلاء ويلتقطون نثاراً بشرياً اطلقته صواريخ اسرائيل في جولة عادية جداً من حرب مألوفة جداً. نواصل ما كنا فيه مهما بلغ غضبنا وحزننا والتهاب قلوبنا. يواصل بعضنا الحديث وبعضنا تناول الشاي، وبعضنا الطعام، ويواصل الاولاد اللعب... *** المكان: غابة في افريقيا. المشهد: طبيعة ساحرة. أخضر يانع طازج يلتمع بالندى ويتمايل مع النسيم، تحت أزرق فيروزي مبرقش بنديف ناصع البياض، ولو أُتيح لنا سماع اصوات الغابة لسحرنا بخليط اصوات الطيور والضفادع والزيزان والقرود. تعود الكاميرا الى الوراء. يظهر الناس في المشهد. رجال ونساء وصغار يتحلقون حول جثة مشرّعة الاطراف يغطي وجهها الذباب وقد تجمّد من حولها دم صار عتيقاً. ينظر الناس الى الجثة. لا يكفّون عن النظر. النظر القوي المديد الذي يتجاوز التعرف على صاحب الجثة او الرثاء له او الاشمئزاز مما صار اليه. انهم بشكل ما لا يملكون الكفّ عن النظر. يمدّ احد الاولاد ساقه ويركل بإبهام قدمه كفّ يد الجثة. يضحك اولاد آخرون مبتهجون لكسر الحاجز. ينتهي المشهد. لنتخيل ما تحرجت الشاشة عن عرضه. فهل انقضّ الاولاد على الجثة واتخذوها لعبة؟ هل كشّوا الذباب وحّلوا محلّه؟ نواصل ما نحن فيه. ننسّق ألوان ملابسنا. نضع قوائم مشترياتنا. نردّ على تليفونات الاصدقاء. نقول لهم ويقولون لنا: ما بال أصواتكم؟ هل انتم مرضى، لا سمح الله فنقول كلٌ للآخر: لا… عادي! * * * المكان: في الهند/ باكستان. في كشمير. المشهد: اسفلت واسع نظيف. على خلفية من جبال حرجية شاهقة. تنسحب الكاميرا. نرى على الاسفلت رجلاً ملقى على بطنه. او كما لو انه ملقى على بطنه. رأسه كامل. وجهه سليم لم يمسّه خدش. ومن حول الرأس تنتشر نصف دائرة كأنما رُسمت رسماً، هي جسده المتفجر. لا. ليس المتفجر. بل المنسكب، مثلما يتكبكب الماء ويتطشّر. لا. ليس المنسكب. بل المتشظي كما يتشظى اناء بلوري يقع على ارض صلبة. في واقع الحال: بدا الرجل برأسه السليم وأشلائه من حول رأسه، مثل جلد دبّ سلخه صياده واحتفظ بالرأس في موقعه للتدليل على شطارته. ينتهي المشهد بلقطة لرجل يرتدي زيّاً عسكرياً وهو يتكلم بانفعال، من دون ان نسمع صوته أنظر الى شفتيه وهي تطلق الكلمات، والى رأسه الضاج بالانفعالات. اقول: سوف يأتيه يوم يتناثر فيه مثل جلد دبّ مدبوغ. لكن الرجل المتناثر الآن لن يرى ذلك. نحن نرى. حتى يأتي وقت نتناثر فيه فيرانا غيرنا. وغيرنا اذ يرى فإنه سوف… * * * نواصل تكديس المشاهد التي تتبارى فيها المحطات والقنوات في احراز التفوق، كل على الآخر في الحد الاقصى من "التأثير". وكلما أُحرز حدّ اقصى، يتم تجاوزه، وتجاوزه، وتجاوزه. ونحن؟ نجلس كالضحايا يتراكم الاشمئزاز والغضب والحزن والضيق في نفوسنا كما تتراكم طبقات الغبار. اما الحقائق! اين هي الحقائق؟ نسمع ونشاهد. نشمئز وتنقلب اجوافنا. نغضب ونبكي وتحترق قلوبنا ثم ننتهي مثل الاطرش في الزفّة. ويا ليتنا كنّا في زفّة. كنا سنرى وندرك ونتأسّى بفرح الآخرين. وفيض من المعلومات يبدو كأنه يُغرقنا. لكننا لا نلبث حتى نكتشف اننا بعد غرقنا فيه لا نختلف عما كنا عليه قبل ذلك. بل اننا لا نختلف عما كان عليه اجدادنا يوم لم يكن من مصدر للمعلومات سوى "الدلاّل" الذي يدور في الشوارع بصحبة ضارب طبل ليعلن قيام حرب تقترب ألسنة لهيبها من حدود حياة الناس الغارقين في عسل الغفلة. أين ضارب طبلنا… أين دلاّلنا؟ ماذا تقدم لنا حنفيات الحقائق المفتوحة كل الوقت وما بعد الوقت؟ اذا. ما لم. كما لو ان. والاّ. في حال. يُظن. على الأغلب. ثم يأتيك مطرب وديع القسمات يخيل اليك انه سيغني للاطفال "الابرياء" اغنية عن انتظار الامهات. لكنه ينصحك بأن تبتعد عن الحب وتغنّي له. ومن حوله اسراب من الفتيات في عمر الزهور يتبارين في هزّ أوراكهن، من ذلك الهزّ العنيف العدواني الذي لولا الملامة تكاد ان تلحقه بجمهرة العنف التي ودّعك المذيع للتوّ بعد استعراضها متمنياً لك وقتاً "ممتعاً". واذا شئت النوم فأحلاماً سعيدة!