للولايات المتحدة الأميركية، في العالم أجمع، ومنه عالمنا العربي والإسلامي، أعداء وأصدقاء. ومن المعلوم الذي يحتاج الى تدقيق وترقيم، أن أصدقاء الولاياتالمتحدة في عالمنا أفادوها وأفادوا منها. أما كيف ومتى وكم، فأنا لا أدري ولا أدري من يدري، وهذا مهم ولكن الأهم منه هو أن نستعرض وندقق في الضرر الذي ألحقه أعداء الولاياتالمتحدة بها، وإذا ما كان هذا الضرر أضر بنا أولاً وأكثر أو صب في طاحونتنا أو في غيرها؟ أي، هل أننا حققنا انتصارات موصوفة أو مخفية على سياسات الولاياتالمتحدة، سواءً بجهود أعدائها الصريحين والنشيطين مستقلة، أم بمشاركة الجماهير المتضررة والأحزاب المتصدرة أولاً والشعوب الخاسرة أولاً وأخيراً من نفوذ الولاياتالمتحدة وإمبرياليتها وامبراطوريتها الآخذة في التشكل الآن؟ أنا أحاول أن أحصي سريعاً وفي شكل عشوائي ما يأتي: حرب لبنان من أجل لبنان تقدمي دفعت بلبنان الى مزيد من الدوران في الفلك الأميركي، بالجملة والمفرق، ومن دون فارق جوهري بين اليمين واليسار، وانتهت ثورة ظفار الى الحضن الأميركي، وثورة اليمن ووحدته لم تضر أميركا التي شرعت بالانتفاع منها على حساب أطراف خليجية معروفة، وثورة ليبيا لم تضر بأميركا، وهذا الشد أو الجذب الليبي العشوائي الذي يتعدى المزاجية الى التخطيط المدروس والمتمظهر بمظاهر الجنون للتغطية، واللعب بمشاعر العرب يصب في الطاحونة الأميركية، ثورة مصر كانت أكثر تعقلاً واستفادت من أميركا عام 1956 إثر العدوان الثلاثي ثم اختلفت معها، ولكنها عادت لتخطئ لمصلحة أميركا في اليمن الذي عادت منه من دون أن تلغي الآثار المترتبة على ما فعلته فيه. على أن لا ننسى ان الرئيس أنور السادات مدشن عهد الانفتاح على أميركا كان في الصف الأول من رجال الثورة وقارئ بيانها الأول ونائب زعيمها وقائدها الأول والأخير وقارئ البيان الثوري الأخير، بيان نعي الزعيم الى الأمة، وحرب الأردن مع الفلسطينيين أو الفلسطينيين مع الأردن، استفادت منه أميركا، واستقلال تونس حتى الآن لم يخرجها من السياق الأميركي، والثورة الإسلامية في ايران قلبت حسابات أميركا عندما ظهر موقع الإمام الخميني القوي فيها، بعدما كان مقرراً لها أميركياً أن تبقى تحت مظلة وعلى قياس شاهبور بختيار ثم تحت إبط الجبهة الوطنية التي شاركت في الثورة ودولتها الأولى، ولكنها عادت الى السياق الأميركي بالتفاهم مع بريجنسكي. في لقاء الجزائر المعروف، وتحت رعاية الثورة الجزائرية، مبتدعة التسيير الذاتي الذي أعاد الجزائر الى السياق الأوروأميركي... ولكن الحرب العراقية - الإيرانية التي تعمدها ودشنها العراق الثوري متناغماً مع أميركا، انتهت نتائجها لمصلحة أميركا، ولا داعي للتفصيل، ولو أخذنا ما ترتب عليها من خسائر قتصادية منظورة في البلدين ألف بليون دولار غير الخسائر غير المنظورة والإعاقة الدائمة في اقتصاديات البلدين والمنطقة حولهما، فإن ذلك يعني ما يعني مصلحة أميركا في المحصلة، لأنه أتاح لها تجديد الرهن على الثروات وإبقاء التوتر قائماً وتعميق الشرخ بين ايرانوالعراق بما يترتب عليه من مخاوف متبادلة، سراً وعلناً، بين ايران ودول الخليج، الى ذلك فإن الأثر اللافت لهذه الحرب أنها حرمت العرب وايرانوفلسطين من حلول الرقم الايراني محل الرقم المصري المنسحب من المواجهة بعد اتفاق كامب ديفيد. كل ذلك يعني ان الحرب العراقية - الايرانية كانت لمصلحة أميركا وفي لحظة أميركية حساسة وعربية أشد حساسية، ما كان يفترض ان تتضافر جهود العرب والمسلمين العقلاء مع الايرانيين العقلاء، أن يطفئوا الحرب التي أشعلها المأمور العراقي، بعدما استعادت ايران معنوياتها وأمسكت بزمام المبادرة، بعد تحرير المحمرة خرمشهر من الاحتلال العراقي متزامناً مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان. وعوداً على بدء... ومن البدء كان انفصال باكستان عن الهند لمصلحة أميركا في الهند وفي باكستان، وتمت النعمة على أميركا والنقمة علينا بانفصال بنغلادش عن باكستان، ولا شك في أن هناك نعمة ننعمها على أميركا من خلال الصراع الهندي - الباكستاني على كشمير، من دون افتئات منا على حق أهلها في تقرير مصيرهم... أما الثورات السودانية فمن الصعب إثبات أن أكثرها لم يكن في مصلحة أميركا، والحرب في السودان والسلام المنشود الآن والعتيد أيضاً لمصلحة أميركا... ومن زمان وأيام عن الاتحاد السوفياتي - غطاء المطامع والمطامح الروسية التاريخية، كنا نقول: إن أي نفوذ أميركي في أي منطقة هو استدراج لعروض روسية كما أن أي نفوذ روسي في منطقة هو استدراج لنفوذ أميركي حقيقي، وهنا كنا نجد التطابق بين فعل أصدقاء أميركا وأعدائها على تقدير تسليمنا بالعداوة... وهكذا انتهت الثورة الأريترية الى أميركا ثم تل أبيب مبكراً. أما استقلال جيبوتي فقد أحل الشراكة الأميركية - الفرنسية عليها محل الاستفراد الفرنسي بها، والثورة في تشاد، في انقساماتها وتحالفاتها ثم صراعاتها مع الجانب الليبي، كانت تزحف نحو أميركا. والصومال كان ولا يزال مسرحاً أميركياً، من شيوعية سياد بري الى يمينية، وصحيح ان الصوماليين أجبروا الأميركيين على الخروج من الصومال عسكرياً، ولكن الصومال لم يخرج من دائرة النفوذ الأميركي والثورة الأفغانية، من محمد داود الى نور ترقي الى حفيظ الله أمين الى بابراك كارمل الى نجيب الله إلى رباني الى طالبان والملا عمر الى كرزاي، كله كان لمصلحة أميركا... وأميركا الآن في أفغانستان برضانا جميعاً... وفي الشيشان لا يخلو الأمر من أميركا مخلوطة بالإسلام والقومية والمافيا الخ، وفي كل أقطار آسيا الوسطى لا خلاف على أميركا، وطريق الحرير وبحر الخزر تحت النظر الأميركي... وتركيا أتاتورك والتحديث انتهت الى أميركا، أما تركيا الإسلامية الآن فحائزة على الرضا الأميركي، خصوصاً أن أردوغان استطاع أن يلغي أربكان من الذاكرة التركية، ومن موقع اسلامي لا خلاف عليه. باستطاعتي أن أستثني ضرب المارينز الموجع لأميركا في بيروت، وتحرير الجنوب، والانتفاضة الأولى في فلسطين التي خرجت عن السيطرة الأميركية فقوطبت عليها أميركا بواسطة العراق واحتلاله الكويت، واخترعت لها مدريد الذي سرعان ما أصبح مداريد في وادي عربة وأوسلو والعلاقات الودية العربية السرية والمعلنة مع اسرائيل... أما الانتفاضة الثانية والجارية الآن وحدها ومن دون أي دعم من أعداء أميركا في المنطقة، فقد أتت من انتهاء مفعول أوسلو أميركياً، وهي في صراع دائم للخروج النهائي على السياق الأميركي الذي يريد أن يضعها فيه بإملاءاته التي لا تنقطع، ولا داعي للطمأنينة لأن المسألة أبعد وأعقد من الاتهام السهل بالخيانة والانحراف والتفريط. والمسألة مسألة منهج، وفي المنهج تصبح القاعدة وإسقاط برجي نيويورك فعلاً أميركياً بامتياز، ويصبح العنف العشوائي في الجزائر، الذي يمكن فهم أسبابه العميقة من دون الموافقة عليه، بل ومع ادانته، يصبح في المجرى الأميركي، أما البوليس اريو ومشروع الدولة في الصحراء فهو ماركة أميركية مسجلة، سواء انتصر البوليساريو أو المغرب، مع تسامحنا في تعبير انتصار!. ألم تنته الثورة البولشفية في أميركا؟ ألم تعد الثورة الصينية لتخضع بالتدريج للإملاءات الأميركية؟ ألا تحكم أندونيسيا الآن كريمة سوكارنو نجم باندونغ وعدم الانحياز، بإرادة أميركية، وقبلها كان رئيس جمعية العلماء المسلمين الدكتور عبدالرحمن وحيد، يثلج صدر أميركا بعطفه على اسرائيل، ولولا قصوره، لا تقصيره، لما كان هناك داع لتغييره. إذاً، فلا يبقى إلا المسكين شافيز في كراكاس، وما عليه إلا أن يتدبر أمره ويذهب الى أميركا، لئلا ينتهي كما انتهى سلفادور أليندي ودانيال أورتيغا... أو يبقى كما بقي كاسترو على مرمى حجر من شاطئ فلوريدا ومرمى قشة من جزيرة غوانتانامو الأميركية في البحر الكاريبي... على شافيز ان يكشف الصديق المخبأ في ثياب عدو، إذا كان يخبئ شيئاً... وإلا فهو ممنوع أو مقتول... ويبقى أن ننتظر مصير لولا في البرازيل، والذي يحاول ان يدوِّر الزوايا ويقوم بعملية اختراق للحواجز الطبقية تحت يافطة أولوية الوحدة الوطنية والاجتماعية، متعاوناً من موقع كونه كادحاً وطنياً مع ممثل البورجوازية الكبرى في بلده نائب الرئيس وكأنه أعاد قراءة غرامشي وغارودي في الكتلة التاريخية؟... لا أدري... والاستثناءات كلها، على قلتها وغموضها، تؤكد القاعدة، أي تؤكد أن هناك قاعدة أميركية! إذاً، ماذا نفعل؟ نكف أولاً عن الكذب ونعيد تشغيل العقل المعطل، ونبحث عن معايير جديدة أو قديمة في الصداقة والعداوة، لئلا نبقى نزود أميركا الأعداء الجهلاء، الذين يضرون بنا أولاً وعندما يتعرفون الى أميركا ينزعون ثيابهم... أميركا هي أميركا... أما نحن فمن وماذا؟ ماذا بعد العراق؟ سواءً سقط النظام على النظام المعتاد الوقوع، عمداً أو غباء، في الحفر الأميركية، أم سقط النظام بانتظام أو فجأة تحت قصف المدافع الأميركية؟ وقد سبق للرئيس صدام حسين ان تلقى اتصالاً من صهره حسين كامل يخبره فيه ان الانتفاضة اخترقت الحلة وأصبحت في المحمودية قرب بغداد، فأمره بتهيئة الطائرات للإقلاع نحو الجزائر، ولكن شوارزكوف القائد الميداني الأميركي كان على السمع وبعد ساعتين أطلق سراح الحرس الجمهوري والطيران المروحي العراقي وانتهت الانتفاضة الشعبية والرئيس والحكم ومجلس قيادة الثورة وجاع الشعب العراقي وتسرب الى المنافي، على رغم ان العراق يتسع لأهله إذا ما تعافى والعراقي عادة ليس من أهل الهجرة، لأن علاقته بالعراق عريقة وعميقة وخيرات العراق أوفر من خيرات أي بلد في الدنيا. أما أن يطالبنا المطالبون الذين لا نعرف دواخلهم ونياتهم بأن نغفو ونصحو على الهتاف ضد التدخل الأميركي في العراق، فإننا نحن المتضررون، خصوصاً ان ليس في أيدينا وقلوبنا شيء نقدمه لأميركا إذا انتصرت حتى نحرز رضاها ونحصل على فتات من موائدها العامرة بخيراتنا وغلالنا... وأما الخطباء... فإننا لا نسمع... ولا يلدغ المؤمن أو المواطن من جحر واحد ألف مرة. كاتب ورجل دين لبناني.