ارتفاع معدل البطالة في أستراليا إلى 3ر4% في يونيو    استشهاد 16 فلسطينيًا في قصف على قطاع غزة    "طمية" تنظم إلى الأسطول الإسعافي بفرع الهلال الأحمر بعسير    الرئيس السوري: تفوق إسرائيل العسكري لا يضمن لها النجاح السياسي أو الأمني    مقتل امرأة وإصابة 3 في روسيا    457 مليونا مستحقات مزارعي القمح    اطلاق النسخة الثانية من مشروع "رِفْد" للفتيات في مدينة أبها بدعم من المجلس التخصصي وأوقاف تركي بن عبد الله الضحيان    الأمير سعود بن نهار يلتقي المدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الغربي    سحب ممطرة على جنوب غرب المملكة وحرارة شديدة على اجزاء من الرياض والشرقية    أمير منطقة تبوك يستقبل معالي نائب وزير البيئة والمياه والزراعة    ارتفاع أسعار الذهب    أمين المدينة المنورة يستعرض جهود هيئة تطوير المنطقة    فعاليات نوعية تُثري تجربة الزوّار في كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025    معلقون ومحللون يرتقون بتجربة المشاهدة في كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025    "الأونروا": سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة تضاعف في قطاع غزة    "الأكاديمية اللوجستية" تفتح التسجيل ل" الدبلوم المشارك"    تسحب اليوم بمقر الاتحاد القاري في كوالالمبور.. الأخضر يترقب قرعة ملحق تصفيات مونديال 2026    حفل يامال المثير للجدل يغضب برشلونة    السويسري"تشاكا" بين نيوم وسندرلاند    معرض"عجائب أرض السعودية" يرسو في اليابان    أصابع الاتهام تشير للفصائل المسلحة.. تحقيق عراقي في ضرب حقول النفط    تفكيك خلية خطيرة تابعة للمليشيا.. إحباط محاولة حوثية لاغتيال المبعوث الأممي    د. باجبير يتلقى التعازي في وفاة ابنة شقيقه    " الأمن العام" يعرف بخطوات إصدار شهادة خلو سوابق    "الأحوال": جدد هويتك قبل انتهائها لتفادي الغرامة    "الداخلية" و "الموارد البشرية" يوقّعان مذكرة تفاهم    «شلة ثانوي».. مسلسل جديد في الطريق    بهدف الارتقاء بالمنتج الثقافي والمعرفي.. توقيع مبادرة "سعوديبيديا" لتعزيز المحتوى السعودي    شركة الدرعية توقع عقداً بقيمة "5.75" مليارات ريال لمشروع أرينا الدرعية    مصر ترفض مخطط «خيام غزة»    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    المفتي يستعرض أعمال "الإفتاء" ومشاريع "ترابط"    إطلاق مبادرة لتعزيز التجربة الدينية لزائرات المسجد النبوي    المواصفات تجدد دعوتها للتحقق من مطابقة المركبات عبر"سابر"    طبيب يقتل 15 مريضاً ويحرق منازلهم    «الشورى» يطالب «الصحة» بتحقيق المتطلبات الأساسية لسلامة المرضى    القادسية يوقّع رسمياً مع المهاجم الغاني"كريستوفر بونسو" حتى 2029    المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر يُطلق مبادرة تقليم أشجار العرعر في منطقة عسير    187 ألف مستفيد من مركز خدمات المسجد النبوي    رونالدو يخطف جائزة لاعب الموسم..وجماهير الاتحاد تنتزع"تيفو العام"    الخليج يضم الحارس الدولي"أنتوني"حتى 2027    أمير جازان يزور بيت الحرفيين    شباك التذاكر.. حين تروى الحكاية بلهجة سعودية    نائب أمير الرياض يلتقي سفير المكسيك    سعود بن نايف يشيد بجهود «مكافحة المخدرات»    العُلا تجمع بين سكون الطبيعة والمنتجعات الصحراوية    وزير الخارجية ومدير الطاقة الذرية يبحثان تعزيز العمل الدولي    مقتل شخص وإصابة 18 جراء غارات إسرائيلية على دمشق    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    بعد توقف عامين استئناف جلسات منتدى الأحساء    الشؤون الإسلامية بجازان تنفذ برامج دعوية بمحافظتي بيش وصامطة لتعزيز الوعي بشروط وأهمية الصلاة    متى يجب غسل ملاءات السرير    تحسن طفيف في التلقيح العالمي للأطفال    إغلاق منشأة تداولت منتجات تجميلية متلاعباً بصلاحيتها    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    محافظ أبو عريش يرأس اجتماع المجلس المحلي لبحث الاستعدادات لموسم الأمطار    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثة هوامش ... ثلاث مقاربات
نشر في الحياة يوم 12 - 01 - 2003


1 - "كراسة كانون" لمحمد خضير: ليالي القصف والحصار
في روايته الصادرة أخيراً في بغداد "كرّاسة كانون" يواصل القاص محمد خضير تأكيد رؤيته السردية وتشكل العمل كنصٍّ يتسع لأنماط من الكتابة تلتمّ وتتآزر لتصنع البنية الحكائية، فالعمل الموصوف بأنه "رواية" يعتمد السرد الذاتي بضمير المتكلم عبر شخصية الراوي، وهو رسام يخطط خلال أيام القصف الجوي الوحشي على بغداد ومدن العراق الرئيسية في كانون الثاني يناير 1991، عدداً من الوجوه التي جسّمها ضوء فانوس قديم بديلاً للإنارة التي انقطعت تماماً بفعل القصف وهي تقبع حول موقد شتائي، أو تغرق في العتمة في الليالي التالية للقصف. وإذا كانت تقنية اليوميات أو شذرات الكراسة وتعليقاتها من الأساليب المعروفة في السرد القصصي والروائي، فإن محمد خضير يستثمرها لإضفاء طابع خاص به، وهو ما عرف به من مزاوجات بين أفعال السرد وأحداثه، واجتلاب نصوص محايثة تتخذ لها موقعاً في بنية النص نفسه، نصوص غير سردية في الغالب... وفي اختيار محمد خضير للكراسة انتباه موفق لإمكان تأسيس "نص" متعدد الأبعاد، فهو يحكي ويسرد مشاهدات من أيام القصف والتعتيم والحصار، كما يتبسط مع القارئ في نصوص مطولة عن لوحات وأعمال لثلاثة فنانين عالميين هم غويا وهنري مور وبيكاسو، حتى لنتساءل عن جدوى وصف كراسة كانون بأنها رواية، فضلاً عن ان الكاتب يجعل تسلسل فصولها القصيرة خاضعاً لنظامين بالتوالي، فهو يكتب ستة فصول مرقمة من 1-6، يلي كلاً منها بالتناوب فصل معنون، وكأنه - بذلك التقسيم - يقترح ثلاث قراءات لعمله: 1 - قراءة خطية تبدأ بالرقم - 1 - وتنتهي بالفصل الأخير المعنون "قطار القرن" أي قراءة الفصول الاثني عشر كما هي في الكتاب. 2 - قراءة الفصول المرقمة 1 - 6 مجتمعة، ثم قراءة الفصول المعنونة "من ليلة الديكة حتى قطار القرن". 3 - قراءة المقاطع المعنونة، ثم قراءة المقاطع المرقمة.
هذه المقترحات يشجع عليها انشطار العمل نفسه، فالفصول المرقمة تتحدث عن "رسوم الكراسة" بحضور أعمال شبيهة وتخطيطات عن مجازر وحروب للفنانين الثلاثة غويا - بيكاسو - مور وكأن الكاتب يريد ان يربط ذاكرة البشرية بالجرائم التي ارتكبت بحقها مع تغير الفاعلين وأزمنتهم وأمكنتهم.
أما المقاطع ذات العناوين فتتحدث عن مكان عراقي معاصر، يتعرض للدمار باسم الشرعية الدولية المنتهكة أصلاً بالوصاية على العالم والتاريخ والإنسان... فكأن ما يجري إنما يتم تنفيذه بأيدي الوحوش الذين ظهروا في غياب العقل، كما ينص المدخل الذي يسبق الفصول، وهو عبارة مقتبسة من غويا "عندما ينام العقل تستيقظ الوحوش". لذا يصبح لتاريخ انتهاء الكراسة مدلول رمزي كبير، فالكاتب يؤرخ عمله في الختام بتاريخ 13 شباط/ فبراير 2001 وهو الذكرى العاشرة بالضبط لمجزرة العامرية التي أغارت على ملجئها المدني في اليوم نفسه من عام 1991 طائرتان أميركيتان أحرقتا الملجأ وقتلت مئات الأطفال والرجال والنساء داخله، وهو ما ذكره بفورنيكا بيكاسو.
يقول الراوي الرسام صاحب الكراسة انه سيتكلم بأحلام غويا، أحلام العقل والجنون، فيتخيل برجاً يرسل إنذاراً على شكل صفير مرعب ينطلق من جمجمة كبيرة، عند بدء الغارات على المدينة، وثمة جماجم كثيرة ملقاة على "تل الجماجم" وساحة فسيحة "ذات الأثافي" يوزع فيها الطعام على الناس المقهورين بالحصار والبرد والقصف في الساعات التي تتوقف فيها الغارات، ومن بين تلك الوجوه تتعرف على وجه مريم حمزة الطفلة المصابة بلوكيميا الدم والمنتظرة موتها بعد علاجها في الخارج ومرضها بسبب الاشعاع الذي تعرضت له أيام القصف.
يستحضر محمد خضير في عمله شبيهين عدة، فهناك دودو الكاتب العراقي الجالس برأسه الحليقة والمتطلع في المجهول وفي بياض أوراقه فيشترك في تدوين ما يراه... وهكذا يحاول محمد خضير انجاز نص متعدد الوجوه مثل لوحة تكعيبية وهو يجسّد أمنيته بوجود نص مرسوم بأكثر من وجه وفي أكثر من سطح فينعكس الكاتب في كتابته كما ينعكس الرسام في رسومه.
وأحسب ان عمل محمد خضير هذا - وهو أول عمل روائي له - يحمل من همّه القصصي ملامح كثيرة، أبرزها هذا التشظي والانثيال في تداعيات مطولة، كانت مناسبتها هذه الكراسة التي دوّن على بياضها الجريح بالبرد والقصف ما أثقل قلبه وعقله وهو يرى بغداد تحترق كما كانت عدسات المصورين تنقله مباشرة... وهو ما ينعكس في مقترحات أو تخطيطات الكراسة كتوثيق للدمار والوحشية.
2 - الشعر والحاسوب - الاحتمالات النصيّة
في ختام ديوانه "حاطب ليل - 2001" يضع الشاعر اللبناني شربل داغر أفكاراً حول الشعر: كتابته وقراءته، تحت عنوان مثير هو "حاسوبي، مجازي المحمول" محاولاً في الجزء الأول من هذه الخاتمة النظرية ان يتأمل صلته بالحاسوب بعد أن اعتاد كتابة القصيدة مباشرة على سطحه أو صفحته - كما يقول مؤكداً أن الورق يسكن ذاكرته ويرتب بالتالي علاقته بالمكتوب وتفكيره به. ما يهمني في هذه المصارحة بين الشاعر وقارئه وصفه لجلسته أمام الحاسوب، منتظراً الكلمات لا لتظهر على سطحه فقط، بل لتتكون منها قصيدة، من دون شطب أو تغيير كما الحال في الكتابة على الورق.
يشبه الشاعر تلك اللحظة الحاسوبية بأنها أشبه برمي الصنارة في مجهول المياه، طالباً من سمك الصدفة أن يجعله صياداً!! وذلك يجعل جلوسه أمام حاسوبه، أو أمام نهره الافتراضي، جلوساً متراخياً وكسولاً، لكنه لا يخلو من "تربص" لوزن الشوارد وتقييم ثمنها في رحلة صيده!
هنا تبدو الكتابة مجانية ولاهية على رغم جَسامتها، وشبيهة بلعبة الغميضة الطفولية - ولكن الكاتب يجد أسباباً عدة لمؤاخاة الحاسوب وألفته، فهو مساعد يحرضك على التجريب من دون خوف، فما ترفضه ينسحب من أمام عينيك ولا يظل ماثلاً مشطوباً كما في الورق، فيمنحك الحاسوب أو المساعد الالكتروني لحظتين مختلفتين: عملاً "لاهياً" فوق شاشته، تدخلها وتخرج منها متى شئت ماحياً أو معدّلاً أو مضيفاً أو مستعيداً، من جهة، وعملاً "نصيّاً" أو حاصلاً في نهاية هذا التمادي في التأليف والتركيب من جهة ثانية، الأصابع وهي تنقرُ بتسارع وإلحاح، والعينان وهما تتنقلان بين المفاتيح أو حروف الطباعة وبين الشاشة التي تنخلق على سطحها الجمل والأبيات، وشعور داخلي بالخوف والفرح معاً مما سيظهر مضيئاً كوجه طال انتظاره. تلك سعادات شاعر جعل حاسوبه مجازاً افتراضياً يمنح النص طاقة دلالية مضافة، لا ندري لماذا لم يتعب الشاعر نفسه ليمتحن أثرها في قارئه، أو يمتحن أثرها في نفسه بعد انجاز النص وانهائه تماماً. فهنا سيكون امتحان لحظة الشعور والوعي بالنص. أما الخوف أو "تهيب الكتابة والتبرم منها قبل حدوثها" على الورق، فهو شعور خاص لا يخلق قانوناً أو عُرفاً كتابياً، لأن وجود الكلمات الجسدي على الورق وما يضيف من حميمية وانسانية سيظل لازماً لمحتوى الشعر نفسه وحاجته الى لمسة اليد والعين معاً.... وهو ما لا ضرورة له في عمليات حاسوبية أخرى يجريها دارس أو باحث أو مختص في شأن علمي... وذلك ما لم يغب عن حساب الشاعر، لكنه أقصاه لمصلحة صلته الجديدة بصفحات الكترونية ستفرض عليه خوفها وهيبتها بعد حين.
3 - السرد العربي القديم: الوجود والهوية
من عاداتنا الثقافية العربية المأثورة، أننا ننزع الى "تأصيل" أية ظاهرة تردنا أو نستوردها، فنتعاير بيننا بوجودها "عندنا" وفي أقدم متوننا الموروثة، لكننا لم ننتبه لها.
وهذا الزعم يؤشر الى مزاجين "عربيين" بامتياز: الأول ضرورة الأصل والممتد والنسب، فالأنواع الأدبية وأفرادها النصوص لا بد لها كالبشر من سلسلة وراثية تعود بها الى أكثر الأصول عراقة ونسباً فهي ليست لقيطة ولا هجينة.
والثاني: الشعور بوجود "كل" شيء عندنا، وإذا ما ظهر جديد في حياتنا الثقافية فلا فضل له ولا وزن، لأنه "موجود" لكننا لم نستطع اكتشافه أو معاينته، فنحن المقصرون دائماً ونصّنا الموروث هو الكنز الذي لم يقدره الوارثون حق قدره.
هذا يحدث أيضاً عند الحديث عن السرود العربية القديمة، وهي متون لم تتشكل في ضوء اشتراطات السرد الحديث وانتظامه، وليس في هذا ما يعيبها، فهي تعكس "ثقافة" عصرها، ونظرة كتابها الى التأليف والكتابة، ونوع المرجعيات التي تحكمت في النوع المكتوب والمؤثرات التي خضع لها كتابها.
فالشعر - مثلاً - كثقافة وحيدة وطاغية، نقل عدواه الى المتون السردية العربية وباعد بينها وبين أن تكون قصصاً أو روايات بالمعنى المتكامل للقص، فقد حاكى كتاب السرد لا سيما المقامات والحكايات الشعبية نظام الشعر، فحرصوا على موسيقى السجع التي تعادل وجود "القافية" الشعرية في القصيدة، وعلى "توازن" العبارات وتوافقها الايقاعي عدد الكلمات وبناء الجمل وتساويها المناظر والمكافئ لقسمة البيت الشعري الى شطرين متساويين، وهذا أمر ربط القصة القديمة مقامة أو حكاية أو نادرة... بأجواء الشعر اللغوية والتصويرية، فكثرت المرادفات والألفاظ الغريبة المجلوبة لإتمام التوازن الإيقاعي والسجع، كما أخل ذلك بالبناء السردي فكان سبباً في حذف بعض الأحداث وأفعال السرد واختزالها والاكتفاء باللغة المعوضة عنها.
ذلك لا ينفي "وجود" السرد العربي بأشكاله المختلفة التي يتنبه لها الدارسون المعاصرون ويكشفون عن أنظمتها وتشكلاتها البنائية على وفق المناهج الحديثة - وهذه مفارقة - فالحداثيون المتنورون بأدوات البحث السردي وحفرياته المعرفية واجراءاته هم الذين يحاولون الآن اضفاء "هوية" نوعية على متون سردية لم تكن لها في اهتمامات منتجيها في التراث أو مستهلكيها الاجتراريين أية قيمة فنية وراء سطحها اللاهي أو الممتع كالسير الشعبية مثلاً... وبهذا يتعزز "وجود" السرد القديم متموضعاً في زمنه، غير مطالب بمناظرة أنواع فنية عصرية، ولكنه يحمل "هوية" سردية مميزة، هي التي نريد ان نقدمها لقارئنا المعاصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.