كيف تطور العالم الأسلامي في السنة التي اعقبت اعتداءات 11 ايلول؟ هل تزايد تأثير أولئك الذين يبشرون داخله بالجهاد ضد الغرب، أم أن جاذبيتهم بلغت نهاياتها؟ وما هو مستقبل العلاقات بين الولاياتالمتحدة واوروبا والعالم الاسلامي؟ النتيجة هي في الواقع اكثر اختلافاً بكثير مما كان يتخيله مخططي الاعتداءات او رُسل "حرب الحضارات". فالعالم الاسلامي لم يتحد وراء اسامة بن لادن وشركائه الذين عجزوا - باستثناء تفجر الحماسة في البداية وسط بعض فئات الشباب في الشرق الاوسط وجنوب غربي آسيا - عن الافادة من اعمالهم. وكان العمل الاستفزازي الدموي في 11 ايلول الذي جاء قبله ببضعة ايام اغتيال زعيم "تحالف الشمال" احمد شاه مسعود في شمال افغانستان توخى تحقيق هدفين هما كشف نقاط ضعف القوة العظمى لاميركا، واستدراجها الى الفخ الافغاني الذي سيتحول - هكذا كان مؤملاً في كابول - الى مقبرة للقوات الاميركية مثلما كانت الحال بالنسبة الى القوات السوفياتية في الثمانينات. لكن هذا لم يحدث. فقد هُزم نظام "طالبان"، وتمكن حكم حميد كرزاي الذي خلفه - الذي يشبه حتى الآن محمية تحت وصاية لولايات المتحدة والامم المتحدة - من استئصال القواعد الخلفية ل "القاعدة" في معظم مناطق البلاد. واُعتقل كثيرون من مقاتلي "القاعدة" والمتطرفين المشتبه فيهم ونقلوا الى "غوانتانامو باي"، على رغم تشكيك كثرة من خبراء القانون بالاساس القانوني لاحتجازهم. ومع ذلك، ربما ساعد التحقيق مع اولئك السجناء في اعتقال عدد كبير من العناصر المشتبه في ارتباطهم ب"القاعدة" في الولاياتالمتحدة وأوروبا وافريقيا وآسيا. كما اتاح للمحققين اطلاعاً اعمق على حجم وقدرة الشبكة الاخطبوطية التي لم تصدر عن قادتها - بشكل خاص بن لادن ومساعده المصري ايمن الظواهري - أي اشارة الى نشاط منذ كانون الاول ديسمبر الماضي، وقد يكونون قتلوا او تواروا في المنطقة الجبلية على امتداد الحدود الافغانية الباكستانية. وفي باكستان، التي كانت المركز الرئيسي للمتطرفين عند تنقلهم بين ملاذهم الافغاني وبقية العالم، امتلكت حركات متطرفة سنية مسلحة موارد مادية وبشرية كبيرة بتواطؤ من حكومات متعاقبة. لكن الجنرال برويز مشرف قرر، في خروج على سياسات الدعم التي اتبعها اسلافه، تحطيم هذه الحركات مقابل الحصول على دعم قوي من الولاياتالمتحدة. كان ذلك بداية لمسيرة شاقة. وكما بيّن قتل الصحافي الاميركي دانيال بيرل و10 مهندسين فرنسيين في كراتشي فإن الجنرال مشرف لم ينج بعد من الخطر، خصوصاً بالارتباط مع الموقع الاقليمي الهش لباكستان اذ تعيش حرباًَ باردة مزمنة مع الهند بسبب قضية كشمير. لكن بعد عام على 11 ايلول، لم تنفجر جنوب غرب آسيا - التي كانت منطقة العمليات الاساسية لشبكات ذات صلة ببن لادن - ولم تنتفض استجابة لتحريض دعاة الجهاد. ويمثل هذا فشلاً مهماً لأولئك الذين كانوا يأملون بأن يحشد مسلمو العالم قواهم وينظموا مقاومة جماهيرية عند وصول جيوش الغرب "الكافرة" الى "ارض الاسلام" في افغانستان - كما حدث عندما دخل الجيش الاحمر افغانستان في كانون الاول ديسمبر 1979. لكن حتى قبل ان تظهر القوات المسلمة ل"تحالف الشمال" على خطوط الجبهة لمقاتلة "طالبان" بدأ البعض من ابرز رجال الدين - مثل المصري الشيخ قرضاوي الذي يقدم برنامجاً دينياً على فضائية "الجزيرة" القطرية - يرفض اعطاء تأييده لنظام كابول. وقد نزعوا بذلك صفة الجهاد عن قتال "طالبان"، وحرموا الحركة من كل دعم اسلامي ذي شأن يتخطى الحواجز القومية. ونأى رجال الدين هؤلاء بأنفسهم بسرعة عن اعتداءات 11 ايلول، وحرموا منفذيها من منزلة الشهيد بوصفهم انتحاريين سيحترقون في جهنم. وبالفعل، كان التصعيد المتطرف الذي أججه بن لادن يهدد، حسب رأيهم، بجرّ العالم الاسلامي الى مواجهة مباشرة وانتحارية مع الغرب، اخذاً في الاعتبار عدم تكافؤ القوى. لذا كان من الضروري ان ينأوا بأنفسهم عن "القاعدة"، وعن الاعتداءات على الولاياتالمتحدة، وعن "طالبان"، ومع ذلك ان يسعوا في الوقت نفسه الى تنفيس مشاعر الغضب التي انتابت الشبان المسلمين ذوي النزعات المتطرفة. جرى هذا بتحويل تطلعات "الجهاد" الى الانتفاضة الفلسطينية، وإلى عمليات التفجير الانتحارية التي نفذتها "حماس" و"الجهاد الاسلامي" ضد المدنيين الاسرائيليين، باستخدام الذريعة القائلة بأن كل مواطني اسرائيل من اليهود، ومن ضمنهم النساء، يخدمون في جيشها. وتمثل اسرائيل، في منظور هذه المجموعة من رجال الدين، هدفاً مشروعاً للجهاد بأي شكل بسبب اغتصابها لأرض اسلامية. فهي حرب عادلة عوّضت بشكل مناسب عن انهيار الجهاد بدعم "طالبان" وبن لادن. وهكذا، كانت احدى نتائج 11 ايلول ان الشرق الاوسط حلّ مكان جنوب غربي آسيا كموقع اساسي للتوترات في العالم الاسلامي، وهذا تأرجح آخر للبندول بين المنطقتين، وهو تبادل للمواقع بدأ في الثمانينات. وكان الشرق الاوسط اصبح ناضجاً لهذا التحول منذ اطلاق الانتفاضة الثانية في ايلول سبتمبر 2000 من جانب ياسر عرفات. اعتبر عرفات ان عملية اوسلو للسلام كانت خداعاً، لأن الاحتلال الاسرائيلي استمر وحرمت السلطة الفلسطينية من مواردها. وفي مواجهة انتقادات اتهمته بالاستبداد والفساد وعدم كفاءة بطانته، كان الرئيس الفلسطيني يأمل بأن تساعده انتفاضة فلسطينية خاضعة للسيطرة على ان يستعيد ما فقده من مكانة عبر انتزاع تنازلات من اسرائيل. على الجانب الاسرائيلي، شعر ارييل شارون فوراً بأن تقديم نفسه كحام للدولة العبرية المعرضة للخطر سيسهّل طموحه الى السلطة. وتمكن شارون، بفضل رحلته الاستفزازية الى مسجد الاقصى وجولته على جبل الهيكل في القدس، من الانتصار على بنيامين نتانياهو وتولي زعامة "ليكود"، ثم خلف إيهود باراك كرئىس للوزراء. وكان هذا المشهد المهتاج الذي يزخر بالمكائد - حيث يعتقد كل طرف ان باستطاعته ان يستفيد الى أقصى حد من عمليات استعراض القوة - هو الذي انتقل اليه مركز الاهتمام الاساسي في اعقاب 11 ايلول. وبالنسبة الى شارون، الذي دأب منذ ذلك الحين على طرح المعادلة "عرفات = بن لادن"، كان كل هجوم انتحاري يعزز دعم واشنطن لتل ابيب، ويوحّد على نحو متزايد العاصمتين في "الحرب على الارهاب" التي يخوضانها معاً. وهذا، بدوره، يضمن لشارون غض النظر من جانب جورج دبليو. بوش بينما يعيد الجيش الاسرائيلي احتلال اراضي فلسطين ويدمر بنيتها التحتية ويغرق سكانها في دوامة البؤس. وبالنسبة الى الفلسطينيين، يتضح ان الخلط بين الكفاح الوطني والارهاب كما يجسّده منفذو العمليات الانتحارية يمثل كارثة سياسية في نظر العالم، وأيضاً بالنسبة الى المثقفين والمدنيين في الضفة الغربية وغزة والقدس الذين يطالبون بوقفها فوراً. وباحتجاز الانتفاضة كرهينة لم يحقق المتطرفون الاسلاميون الذين يخوضون الجهاد سوى انتصار موقت ووهمي، لكنه انتصار يدفع السكان الفلسطينيون الذين يسحقهم القمع ثمناً باهظاً له. كيف نخرج من هذا المأزق ونزيل شبح الجهاد فيما نسمح لشعوب المنطقة بأن تعيش في أمن وكرامة؟ هل الخيار العسكري هو الخيار الوحيد، أم ان تأثيراته المعاكسة أسوأ من الهدف الذي يسعى الى تحقيقه؟ تتباين الآراء حول هذه النقطة على جانبي الاطلسي. يعتقد كثيرون في واشنطن ان هجوماً على بغداد واستبدال صدام حسين بحكم موالٍ للغرب هو وحده يمكن ان يكمل الرد الخاطف على اعتداءات 11 ايلول، ويحل في غضون ذلك النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. وحسب هذه الخطة، سيؤدي سحق كل الآمال بأي ملاذ آمن لاعداء اميركا أيضاً الى حفز انبعاث مذهل للنشاط الاقتصادي، يُفترض انه سيفيد المنطقة بأكملها. ومن شأن الانفجار الاقتصادي المنتظر، الذي تحرّكه متطلبات عملية اعادة الاعمار الهائلة للعراق وتموّله مبيعات النفط العراقي بعد رفع الحظر، ان يجتذب الوظائف والاستثمار الى المنطقة، ويخلق رخاءً يتقاسمه العرب والاسرائيليون على السواء. في اوروبا، يخشى بعض الزعماء ان يؤدي مثل هذا الهجوم الى زعزعة استقرار حكومات موالية للغرب - بدءاً بالانظمة ذات الثروة النفطية - واثارة ازمة طاقة عالمية، والغاء النجاحات التي تحققت باستئصال شبكات بن لادن الارهابية بتحفيز مشاعر العنف العبثي الذي يحرّك اولئك الذين يسعون الى الاستشهاد عبر الجهاد. وهي مخاوف تزداد حدة في العواصم العربية والاسلامية حيث يقترن الركود الاقتصادي الذي تفاقم منذ 11 ايلول بضغوط ديموغرافية متواصلة من الشبان العاطلين. ويُخشى ان تؤدي عملية عسكرية ضد بغداد الى اثارة تأييد شعبي للعراق وتفجير براميل بارود اجتماعية في هذه الدول، واخيراً التسبب بانفجار في المنطقة عجزت عن تحقيقه الهجمات على البرجين التوأمين والبنتاغون. هذه هي الورطة التي يواجهها الرئىس بوش بعد عام على 11 ايلول. فالولاياتالمتحدة، بجبروتها العسكري الذي لا ينافسه أحد على الارض، حرة في ان تقرر كما تشاء. وعندما تفعل ذلك يجب ان تقرر ما اذا كانت العاصفة التي يمكن ان تطلق على بغداد ستخمد آخر نيران الجهاد، أم انها على العكس ستؤجج الشرر الذي يهدد باشعال الشرق الاوسط كله. بروفسور في معهد الدراسات السياسية في باريس، وهو مؤلف كتاب "الجهاد، مسار الاسلام السياسي" دار "هارفرد يونيفرسيتي برس"، آي. بي. توريس، 2002.