حدد الرئيس جورج بوش في خطابه أخيراً أمام الاممالمتحدة مطالب دعا الرئيس صدام حسين الى الاستجابة لها وإلا فكل الخيارات مفتوحة. والمطالب قد تبدو سهلة مقارنة بالحرب، لكنها بالنسبة الى الرئيس العراقي تعجيزية لأنها بمثابة اعلان وفاة، اذ ان الرئيس صدام حسين خبر المآل النهائي لمثل هذه المطالب وآخرها التجربة اليوغوسلافية. والمطالب الأميركية تذهب الى مقتل لأنها تدعو مع عودة المفتشين الى ضمان الديموقراطية وحقوق الاقليات وانتخابات حرة تحت اشراف المنظمة الدولية لتشكيل حكومة تنفتح على الجميع. وتبقى هذه المطالب موضع اهتمام المعنيين في الشأن العراقي والازمة المتصاعدة مع الولاياتالمتحدة، وما يشغلهم معرفة الرد العراقي والمدى الذي يذهب اليه، على رغم القناعة بأنه لن يكون مشجعاً وليس فيه مرونة، خصوصاً بالنسبة الى الانفتاح الديموقراطي الذي هو خط أحمر في بغداد. لكن التراجع الذي يلوح كشعرة معاوية هو عودة المفتشين الدوليين. هذه الاستنتاجات مردها طبيعة النظام القائم وفلسفته وخلفياته القاطعة، زاد رسوخها من خلال معلومات أفادت بأن الرئيس صدام حسين عقد اجتماعاً لبعض كبار معاونيه لبحث ما ورد في الخطاب، وفي نطاق التحليل مرت الاحاديث على مطالب الرئيس الأميركي التي عقب عليها الرئيس صدام حسين بلهجة عراقية ساخرة: هل يأخذها من دبش؟ دبش شخصية خرافية عراقية يذكرها العراقي عند مطالبته بأشياء يستحيل ان يعطيها. وسواء كان ما نسب الى الرئيس العراقي صحيحاً أو ملفقاً فإنه يعكس حقيقة الموقف واستحالة تلبية المطالب الأميركية، خصوصاً في مجال الديموقراطية. فالرئيس العراقي ليس من النوع الذي يفرط بالحكم ولا هو بالجاهل لمقصد المطالب الأميركية، كونها جسر العبور الى اطاحته بغير الحرب وهو من الوعي ما يستحضر به مصير الرئيس اليوغوسلافي. والحقيقة ان ما يحول دون الانفتاح الديموقراطي طبيعة النظام العراقي الشمولية والايديولوجية، فالأولى تفرض احتكار السلطة والتفرد بالحكم والثانية تعتبر نظام الحكم "ثورة مستمرة" رسالتها لن تنتهي وأهدافها مفتوحة على كل الاهداف القومية، والعراق بموجب ذلك هو القاعدة المحررة للأمة العربية. يضاف الى ذلك ان شخصية العراقي حادة بطبعها وعنيدة في سلوكها ومعتدة بنفسها تميل الى اقصاء الآخر، ديموقراطية مع النفس وديكتاتورية مع الغير، وفي ارثها وتراثها ما يجعلها متطلبة، وليس مصادفة ان نشاهد في الرسوم التاريخية ان يلعب العراقيون القدماء برمي الرؤوس المقطوعة على بعضهم بعضاً، في حين يلعب المصريون القدماء اللعبة نفسها ولكن برمي الزهور. والمفارقة المحيرة على رغم ذلك هي ان حكام العراق القدامى لم يحكموا كآلهة وإنما كملوك فيما حكام مصر القدماء حكموا كآلهة، وأن العراق كان موطن شريعة حمورابي ومدرسة الاجتهاد والرأي. وكان الدكتور علي الوردي موفقاً في تشخيص معادلة هذه المفارقة المحيرة بقوله "ان شخصية العراقي فيها شيء من الازدواج، فالعراقي اكثر من غيره هياماً بالمثل العليا ودعوة اليها في خطاباته ولكنه في الوقت نفسه من اكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته". وفي الواقع فإن العراقي يجد في السلطة مجالاً واسعاً وخطراً لتجسيد تلك الخصائص في طبيعته. واذ يفصح الرئيس بوش عن ذلك ويحدد بايجاز موضوعة تحقيق الديموقراطية والتخلص من اسلحة الدمار الشامل كمطالب لنزع فتيل الحرب المحتملة، يكون من الضروري معرفة الموقف العراقي. فموضوع الديموقراطية وحقوق الانسان والانتخابات... الخ لا يجد ولن يجد حيزاً في تفكير النظام القائم. وبعد انتهاء الحرب العراقية - الايرانية حاول النظام الايحاء بذلك وقدم مشاريع جديدة للدستور وقوانين الاحزاب والصحافة، لكن المحاولة الشاحبة انتهت بالاطلاع على مسودة المشاريع المقترحة لأن كل فقراتها وبنودها التي اطلقت الحريات قُيدت بموافقة رئيس الجمهورية. وفي اعقاب انهيار المنظومة الاشتراكية وفشل الانظمة الشمولية، كان المنطق يحتم الانفتاح الديموقراطي أو في الاقل قدراً من هامش الحرية. وفي أواخر 1991 التقى الرئيس صدام حسين مع الصحافيين اثر كتابات بعضهم عن الديموقراطية، وخاطبهم: "أريدكم ان تتنبهوا الى ان الاميركيين يريدون بالحديث عن الديموقراطية تحقيق ما عجزوا عنه بالعمل العسكري خلال العدوان على العراق... انني لا اسمح بعد اليوم بالكتابة في هذا المجال". اما موضوعة اسلحة الدمار الشامل، فالغاية الاميركية منها معروفة ولكن السؤال الذي يرد هو: هل يمتلك العراق اسلحة الدمار الشامل وهل هو على وشك صنع سلاح نووي؟ اذا كان العراق يمتلك مثل هذه الاسلحة فهل سيقوم بتدميرها وتسليمها كما طالب بوش؟ ولو قام العراق بذلك فهل من ضمان لأمن الحكم فيه؟ اذا افترضنا ان الرئيس صدام حسين يمتلك اسلحة الدمار الشامل فانه قطعاً لن يسلمها من دون ضمانات اكيدة وقاطعة بأن الازمة مع نظامه تنتهي الى هذا الحد ولا تتعدى ذلك الى اسقاط الحكم. اذ ان اي حاكم يوضع في الموقف نفسه سيختار التصرف نفسه لأن البديل بالنسبة اليه صعب للغاية اذا لم يكن مستحيلاً، كما ان موقفاً هكذا لا يحسبه الرئيس صدام حسين تضحية للعراق وانما هو قربان التنازل للولايات المتحدة. ومع تأكيدات مطلعين بأن العراق قبل تدمير منشآته النووية كان يحتاج الى سنوات لتطوير سلاخ نووي، يصبح ما تدعيه الادارة الاميركية في هذا الصدد يدعو الى الارتياب. فبوش وتوني بلير سبق ان ذكرا ان العراق يحتاج الى ستة اشهر للوصول الى ذلك، لكن بوش عاد وذكر امام المنظمة الدولية ان العراق يحتاج الى سنة لامتلاك السلاح النووي، ناسياً ما قاله كولن باول قبل ايام منه من ان العراق يحتاج الى تسع سنوات. وأهمية ما يقوله باول ينبع من انه وزير خارجية الولاياتالمتحدة وهو قبل ذلك صاحب أعلى منصب عسكري فيها. والعراق في النتيجة سيجد نفسه في هذا المجال كبالع الموسى لا يستطيع ادخالها أو اخراجها، لأنه سيجد ان موضوع أسلحة الدمار الشامل لن يجد الحل الشامل الذي يريد كما انه لن يحصل على الضمان الذي يطالب به بعدم شن الحرب عليه، واذا ما سمح بدخول المفتشين من دون شروط، فإن المسألة الأهم في نظر الولاياتالمتحدة هي قيام العراق بتسليم أسلحة الدمار الشامل أو تدميرها بنفسه، وهذا امر لن يحدث لأن العراق ينفي وجود هذه الاسلحة من جهة ولأنه لا يمكنه القيام بذلك من جهة أخرى، اذا افترضنا وجودها من دون تسوية تضمن عدم المس بالنظام. السكرتير الاعلامي السابق للرئيس صدام حسين.