تعتبر محاكمة الزعيم الفلسطيني المناضل مروان البرغوثي من زاوية القانون الدولي محاكمة لإسرائيل ولمدى احترامها للقانون الدولي، كما انها من ناحية اخرى تعتبر تأكيداً للحق في المقاومة ضد الاحتلال. فقد اعتقل البرغوثي في الاراضي الفلسطيني التي تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية على ايدي قوات الغزو الإسرائيلي، واتخذ الاعتقال شكل الخطف، كما تم نقله الي إسرائيل وأودع أحد سجونها ثم قدم للمحاكمة بعد فشل المحققين الإسرائيليين رغم التعذيب في تغيير موقفه وحمله على الاعتراف بالتهم التي قدم الى المحكمة الإسرائيلية في تل ابيب من اجلها، وتتلخص هذه التهم في قيادته "لكتائب شهداء الاقصى" وهي منظمة تعتبرها إسرائيل إرهابية ساهمت في قتل المدنيين الإسرائيليين والمستوطنين وبعض عناصر جيش الاحتلال، كما اتهم البرغوثي بالتحريض على قتل الإسرائيليين. ولا شك ان هذه المحاكمة يجب أن تكون فرصة لمحاكمة الإجرام الإسرائيلي والاعلان للعالم عن مشروعية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال. وقد ذكرني مشهد مثول البرغوثي امام القضاء الإسرائيلي شامخاً ومتحدياً بالمشهد الجليل الذي لا تزال ذاكرة العرب والمسلمين تسترجعه في مثل هذه المناسبات، وهو مشهد محاكمة الشيخ عمر المختار كبير المجاهدين الليبيين الذي ادهش سلطات الاحتلال الايطالي عندما وجدوه شيخاً كبيراً وقوراً لا يقوى على القتال ولكن عزيمته تحرك الجبال وتبث البطولة في شباب الأمة الليبية. ومن المصادفات العجيبة التي تظهر التناقض الفادح بين احكام القانون الجامدة وبين نبض الواقع الحي، فقد اعترف الشيخ بكل التهم التي وجهت اليه مما يؤهله للإعدام فصار الرجل الى نهايته فخوراً معتزا وهو مؤمن بأن نهاية حياته بداية لحياة الامة بأكملها، وأن في موته على هذ النحو إحياء للقضية العادلة الابدية التي اصطف على مذبحها ملايين الشرفاء منذ بدء الخليقة والى ان يرث الله الارض ومن عليها، وهو الموقف نفسه الذي وقفه سقراط مع فارق في التفاصيل. من ناحية أخرى، فإن محاكمة المقاومة الفلسطينية أمام القضاء الإسرائيلي، ووفق القانون الإسرائيلي وهو أحد فصول المهزلة المعاصرة يستدعي الى الذاكرة ايضاً تلك المفارقة الغريبة التي تحدث عنها الجنرال شارون في مذكراته، والتي توشك ان يطلع عليها القارئ في تحليل متسلسل خلال ايام، فيها على ما أسماه بجهاد العصابات الصهيونية التي تكاثرت على الساحة الفلسطينية بعد أن تدربت واستعدت ليوم اللقاء مع المقاومة العربية فكانت المواجهة بين جيوش عربية نظامية احاطت بها ظروف لا نظن المقام مناسب لتكرارها، وبين عصابات قطعت شوطاً طويلاً ضمن المشروع الصهيوني في التدريب ضمن صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وتسابقت هذه العصابات في المرحلة الاولى في مهاجمة القوات البريطانية إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، ويقول شارون إن هذه العصابات التي كانت تعادي الجيش البريطاني وتعتبره عقبة في سبيل الإسراع في إقامة الدولة العبرية كانت يقابلها عصابة أخرى، كان شارون احد اعضائها وهي عصابة "الهجناه" التي رأت المصلحة الصهيونية ليس في مواجهة قوات الانتداب وانما في مهادنتها ومساعدتها على ان تهم بالرحيل ما دام الانتداب قد أوشك على نهايته، فتفرغ الساحة بعد ذلك للمواجهة الحاسمة بين العصابات الصهيونية واعدائها من الفلسطينين والعرب. ويقول شارون انه شعر بغصةٍ كبيرة عندما تمكنت عصابة "الهجناه" من القبض على بعض الفدائيين الصهاينة الذين اغتالوا بعض عناصر الجيش البريطاني وتم إعدامهم، فشعر شارون في ذلك الوقت ان دماء هؤلاء "الطاهرة" هي الاولى بالذكرى والخلود ومثل هذه العناصر هي الاولى بالبقاء لانها تموت من اجل حياة المشروع الصهيوني. ولا نظن ان شارون وهم يحاكم البرغوثي يشك لحظة واحدة في أن المقارنة ليست واردة بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة الصهيونية، فالمقاومة الصهيونية عنده ضد اي معترض للحق الصهيوني تتمتع بمشروعية مطلقة ويجب أن يخلد ضحاياها في سجل الشرف الصهيوني ما دامت فلسطين كلها، كما يزعم في مذاكراته، هي إسرائيل، ومن ثم فإن سحق إسرائيل للشعب الفلسطيني في فلسطين هو الفصل الثاني في الجهاد الصهيوني حتى نفرغ فلسطين كلها للصهاينة وتتحرر من الفلسطينيين، كما تحررت، حسب زعمه من الانتداب البريطاني. علماً بأن هذا الزعم ليس وهماً فردياً يصيب احاد الناس ولكنه عقيدة قومية تتربي عليها اجيال اليهود فيصبح يوم قيام الدولة في فلسطين وطردهم للانكليز هو اليوم الوطني لإسرائيل، ولا نشك في أن طردهم للفلسطينيين من فلسطين إذا قدر لهم ذلك لا قدر الله سيكون هو الاولى بمكانة اليوم الوطني وقدسيته. اما من الناحية الموضوعية فإن المقارنة فعلاً ليست واردة بين الأعمال الإرهابية التي قام بها اليهود ضد القوات البريطانية وضد العرب الفلسطينيين اصحاب الحق في الارض وبين مقاومة الفلسطينيين للاغتصاب الصهيوني لما تبقى من اراضيهم، فإن العالم لا يختلف على ذلك الفارق بين الاحتلال الإسرائيلي والانتداب البريطاني بحيث لا يجد صعوبة في ان يخلص الى القول بأن مناهضة الانتداب من جانب من يعمل الانتداب لمصلحتهم هو الإرهاب ونكران الجميل. بينما مقاومة الاحتلال هي الحق المشروع في جميع العصور والشرائع، وربما كان هو الحق الوحيد المطلق الذي لم يعرف تطور القانون الدولي له اي درجة من درجاته النسبية حتى عندما كان يعترف بشرعية الاحتلال، لقد كانت شرعية الاحتلال تقترن بشرعية المقاومة. ومن المثير في محاكمة البرغوثي ان تتطرق المحكمة الإسرائيلية الى مدى احتصاصها في نظر هذه القضية، ولن ندهش إذا ابتدعت المحكمة نظريات جديدة لم يعرفها فقه القانون في كل العصور، فقد سبق للقضاء الإسرائيلي ان اكد اختصاصه في محاكمة "ايخمن" الالماني الاصل الذي اختطفه الموساد من الارجنتين العام 1960 بتهمة ارتكاب جرائم "الهولوكوست". ولم تكترث المحكمة الإسرائيية بدفوع الدفاع بأن هذه الجرائم لو صحت فإنها سابقة على قيام إسرائيل وأنه لا توجد أي رابطة قانونية بين المتهم وبين إسرائيل. وكان سكوت العالم على إعدام "ايخمن" دليلاً على أنه قبل بنتائج الإرهاب الصهيوني الذي نرى تجلياته في أوضح صورها في الوقت الحاضر، وبأن إسرائيل هي وكيل السلام عن كل يهود العالم حتى قبل قيام إسرائيل لأنهم يزعمون أن كلمة إسرائيل ومسماها كانا دائماً ماثلين في التاريخ ولكنهما لم يتجسدا إلا عندما سنحت الظروف في العام 1948، لأنهما عاشتا في ضمير الشعب اليهودي وتجسدتا في وجدانه قبل أن تصبحا واقعاً ملموساً في ذلك التاريخ، وأن هذا الواقع الملموس هو ثمرة تمسك الشعب اليهودي بذلك في وجدانه منذ تشتته الأول. فهل تستند المحكمة الإسرائيلية إلى أن المقاومة الفلسطينية هي إرهاب يهدد أمن المواطن الإسرائيلي وتقوم الإدانة وتطبيق القانون الإسرائيلي واختصاص القضاء على هذا الأساس؟ أم يجد القضاء الإسرائيلي الشجاعة الكافية لكي يؤكد أنه غير مختص بمحاكمة البرغوثي وأن عمله لا يمكن تجريمه لأن القانون الدولي هو القانون الواجب التطبيق، وأن القضاء الإسرائيلي لا يجوز له أن يتماشى مع بربرية السلوك الدولي للحكومة الإسرائيلية فيقر كما تريد مشروعية الاحتلال وسمو أمن المواطن الإسرائيلي على كل اعتقاد واعتبار أن يجرم كل مقاومة للاحتلال وسياساته. إننا نهيب بالعالم العربي والأممالمتحدة أن لا يقفا موقف المتفرج على هذه المحاكمة التي تريد أن تدين الحق وتُعلي الباطل وأن تَسُن سُنَّة سيئة قد تصبح قاعدة في السلوك الدولي، وأن تهب منظمات حقوق الإنسان التي طالما ارتفعت أصواتها ضد العالم العربي في كل مناسبة بحجة حماية حقوق الإنسان العربي من بطش حكوماته. فنحن أولى بأن تدافع عن الحق الفلسطيني ضد البطش الإسرائيلي، ولتكن المحاكمة مناسبة لكي تعلن هذه المنظمات ضرورة إطلاق سراح كل المعتقلين الفلسطينيين من دون قيد أو شرط لعدم ارتكابهم ما يبرر المحاكمة من وجهة نظر القانون الدولي وليس بموجب قانون الدولة المعتدية. كذلك يجب أن تعلن هذه المنظمات جميعاً إدانتها الواضحة لكل السياسات الإسرائيلية بدءاً باستمرار الاحتلال وهو بذاته عدوان مستمر، وكذلك بسياسات الاحتلال والعتب بأرواح المواطنين وهدم المنازل على رؤوسهم واعتقالهم ثم اغتيالهم وكذلك سياسة الاغتيالات التي يبدو أن العالم كله بما فيه العالم العربي قد غفل وأقرّ بأن اغتيال رموز المقاومة الفلسطينية يومياً داخل أراضيهم وهدم المنازل فوق رؤوسهم صار جزءاً من حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ولذلك يجب على العالم العربي وعلى الأممالمتحدة أن يؤكد حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وفي سلامة أعضاء المقاومة وحقهم في الحياة، فلم يحدث في التاريخ أن ظهرت دولة مثل إسرائيل تتبنى رسمياً سياسات الاغتيال والتنكيل والتمثيل بالضحايا وامتهان الأحياء والأموات ورفع الحصانة عن كل المقدسات، بما في ذلك دور العبادة فقد أصبح إله إسرائيل هو أمنها وأصبح الذين يتحدون هذا المفهوم العابث للأمن هم الخارجون على هذا الإله الجديد. * كاتب مصري.