توالت خلال الأيام الأخيرة ردود الأفعال والمواقف العربية بشأن احتمالات التغيير في العراق بشكل ملفت للنظر، غير أن الكثير من هذه المواقف وبعضها رسمية يصر وبشكل سافر على تجاهل المأساة المريعة التي يعيشها الشعب العراقي على يد نظامه اضافة الى انها تظهر تعالياً فجّاً وتؤشر مع الأسف الشديد الى ازدراء صريح لإرادة هذا الشعب وآماله كما وتنطلق من ازدواجية مفرطة في المعايير، مما يعني ان معظم النقاش المفتوح بشأن هذه القضية الحيوية للمستقبل العربي، بمقدار ما هو مهم وضروري، يتم غالباً بطريقة لا مسؤولة وفي ظل مناخ غير صحي وغير موضوعي يسوده أحياناً نفاق قد يصل الى حدود اللاأخلاقي. ينبغي أن نسجل أولاً أن هذا النقاش، إذا ما اسميناه ذلك تجاوزاً، يجري من طرف واحد، إذ لا يمتلك الشعب العراقي الذي ينبغي أن يكون حاضره ومستقبله هدف القضية المطروحة وجوهرها رأياً أو صوتاً يسمع، بينما يهيمن الآخرون أو يمتلكون فرصة الوصول الى القنوات السياسية والديبلوماسية والإعلامية للتعبير عن آرائهم بحرية مما يفقد هذا النقاش معناه وجديته وحتى شرعيته. ان حرص الذين يدلون بمواقفهم تجاه العراق سواء الذين يطرحون آراءهم باسم الشارع العربي أو اولئك المعبرين عن سياسات بلادهم الرسمية، لا يبدو متواكباً مع حرص مماثل على أن يكون للشعب العراقي فرصة شبيهة للتعبير عن رأيه في قضية تمس وجوده وحياته ومستقبله. تركز المواقف "المعلنة" لرفض التغيير في العراق على ما يروج لها أصحابها ذاتهم من مخاوف قد تنشأ من احتمالات الضربة الأميركية المتوقعة للنظام العراقي، وهي مخاوف تركزت حتى الآن على إمكان تقسيم العراق الى كيانات صغيرة على أساس ديني أو طائفي أو اثني، وإمكان ان يطلق ذلك عملية تغيير شاملة في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها وتأثير ذلك على النظام العربي. بعضهم الآخر يتمادى في التعبير عن مخاوفه بالافتراض بأن نظاماً جديداً في بغداد قادم على ظهر الدبابات الأميركية ولا بد أن يكون حليفاً قوياً للولايات المتحدة وبالنتيجة لاسرائيل مما سيؤدي الى تقويض ما تبقى من توازن هش لمصلحة اسرائيل وسيتيح للدولة العبرية الامكانية لفرض شروطها للتسوية النهائية على العرب والفلسطينيين. ليس باستطاعتي أو أي أحد أن يجادل بعدم إمكان أن يحدث كل ذلك أو بعضه أو حتى أن يضع المقدمات له، فمن المؤكد ان عملية تغيير نظام الحكم في العراق وبالطريقة التي يخطط لها الأميركيون ستضع المنطقة على مشارف عهد جديد لا يمكن استشراف معالمه بعد، لكنني استطيع أن أجادل أولاً بأن استمرار الوضع الحالي في العراق بالتوترات الداخلية والخارجية المحيطة به هو أشد خطورة على مستقبله ومستقبل المنطقة بكاملها من تجاهل محاولات البحث عن حلول له وأن أجادل ثانياً بأن النظام العربي الحالي هو أضعف وأكثر هشاشة من أن يستطيع أن يبتكر حلولاً جذابة لأزماته الوطنية المستعصية ناهيك عن أن يجد حلاً للمشكلة العراقية. ان الكلام عن أخطار تقسيم العراق وتغيير خريطة المنطقة والتحالف بين أي نظام جديد في بغداد مع الولاياتالمتحدة واسرائيل مفيد من ناحية توفير بعض الشحنات العاطفية للمهيجين في الشارع العربي وذرائع لبعض القيادات السياسية من تلك التي ينقصها الخيال والعزيمة على التعامل مع وقائع العصر وحقائقه الجوهرية والتي تصر على التخندق وراء متاريس الماضي وترفض فتح نوافذ بلدانها على رياح التغير والتجديد التي تهب في العالم. ومع ذلك فلا بأس من محاججة هذه المواقف العربية في هذه المخاوف، خصوصاً انها أصبحت الشماعة التي يلقي عليها النظام العربي تردده وفشله في بلورة خطاب سياسي منطقي وموقف شجاع وموضوعي من القضية العراقية والتي تركها للولايات المتحدة تقرر مستقبلها بما تشاء في الوقت الذي بقي العالم العربي متفرجاً أو عاجزاً أو متأمراً. لقد مل العراقيون عرباً وأكراداً وسنّة وشيعة ومن باقي الأعراق والأديان والطوائف سماع نغمة التقسيم هذه مثلما ملوا الدفاع عن وحدويتهم وتمسكهم برغبة العيش المشترك في بلادهم، واعتبروا الترويج لمثل هذه الأقاويل ترهات وسخفاً مثلما هو اهانة وطعناً ليس بإرادتهم واحاسيسهم وقناعاتهم بل بهويتهم الوطنية، كذلك ليس بمستطاع العراقيين انكار التجاوزات وأيضاً بعض اسوأ الجرائم التي حصلت في ظل الاضطهاد والعنف وسياسات الاحتكار التي مارستها الأنظمة ولكنهم مصممون على رغم ذلك على ابداء التسامح والفهم والتعبير عن التعاطف مع بعضهم بعضا والأمل في مستقبل موعود بالحرية والعدل والانصاف. والسؤال الذي يطرحه العراقيون هو هل بلدهم هو البلد العربي الوحيد الذي يتشكل من هذه الفسيفساء الوطنية، ولماذا يتناسى من يروج لهذه المخاوف ان كل الأقطار العربية بلا استثناء قائمة على هذا التنوع العرقي والديني والمذهبي الذي يشكل فسيفساهم الاجتماعي. هل على العراقي أن يكون أكثر تحديداً ويذكر الآخرين بأنهم أيضاً عرب وأكراد وبربر وشراكسة، جنوبيون وشماليون، حضريون وبدو وقبائليون، مسلمون وموارنة وأقباط وارثوذكس، شيعة وحنفيون ومالكيون وحنابلة وشافعيون وزيديون ووهابيون وعلويون ودروز. واستكمالاً للسؤال، هل على العراقي أن يفتح كامل الخريطة العربية الانثروبيولوجية والاجتماعية لكي يواجه المشككين بصلابة هويته الوطنية ويطرح عليهم الشكوك نفسها. لماذا يكون تنوعهم تعبيراً عن النسيج الوطني ويكون تنوع العراق شرخاً ونذيراً بالتقسيم؟ هناك أيضاً الخشية من أن يؤدي التغير المقبل في العراق الى البلقنة وتمزيق المنطقة وتغيير خريطتها السياسية وهو كلام ينطوي على كمية هائلة من الارتجال والخفة واللامسؤولية، إلا إذا كان المقصود به هو التأكيد على هشاشة النظام العربي وانكشاف عوراته وضعفه وانعدام أية مناعة له أمام التحديات والتطورات المحتملة. فماذا يعني القول بأن خريطة المنطقة ستتغير بسبب تغير نظام الحكم في بغداد سوى الإقرار بأن هذه الخريطة، سواء أكانت سياسية أم جغرافية، هشة، وأن النظام العربي قابل للتفكيك وأن دوله لم تستطع بعد كل هذه السنين من الانعتاق من الإرث الاستعماري الذي لا يزال يتحكم في مصيرها ومسارها. ان مثل هذه المخاوف تعكس اخفاق الدول العربية في تحصين مجتمعاتها ضد غوائل الزمن ونوائبه المتمثلة في التهديدات والمخاطر التي تحيط بها من نظام دولي لا يرحم الضعف والاستكانة والتشويش والارتباك كما تؤشر الى فشلها في أن تضع ثقتها في شعوبها وفي مؤسساتها الوطنية، فراحت تعلق كل ذلك على شماعة تغير محتمل في العراق. يروّج بعض المهيجين الى أن عملية التغير تستهدف إحلال نظام موال لأميركا في بغداد وهو أمر يرون انه سيجعل العراق من ناحية أقوى حليف للولايات المتحدة في المنطقة، كما انه سيوفر الفرصة لطلاق العراق من عالمه العربي ويمهد لتحالف عراقي - أميركي - اسرائيلي من شأنه أن يضع جدول أعمال جديد للمنطقة ويتيح لاسرائيل فرض تسويتها على الفلسطينيين والعرب. والواقع ان هذا الاستنتاج هو أكثر ما يعبر عن تلك الازدواجية في المواقف العربية من مسألة التغير في العراق، اذ يكشف بشكل جلي، على العكس مما يترنم به مروجيه، عن تهافت الكثيرين في عالمنا العربي وراء الانفراد بالعلاقات مع واشنطن والجري وراء احتكارها واقامة التحالفات معها على حساب بعضهم بعضاً ومصالحهم المشتركة، والأمثلة على ذلك لا تعوز أي محلل نبيه. اليوم ينسج معظم الدول العربية علاقات خاصة مع الولاياتالمتحدة تتراوح بين التحالفات الاستراتيجية وكفالة الحماية تحت المظلة الأمنية والعسكرية الأميركية، واستضافة قواعد وقوات وأساطيل أميركية واجراء المناورات العسكرية مع الجيوش الاميركية الى التنسيق الأمني والشراكة السياسية والاقتصادية الكاملة، بينما تسعى من لا تمتلك مثل هذه العلاقات مع واشنطن الى استرضائها والاذعان لها بشتى الطرق والوسائل، وإذا كان هذا هو الأمر فإن من المنطقي ان نسأل ماذا تبقى لأي نظام عراقي جديد أن يقدم لواشنطن من خدمات وأن يوفر لها من مصالح لا تتوافر لها في الوقت الحاضر مهما كانت درجة تبعية هذا النظام وموالاته أو عمالته لواشنطن؟ هذا التأويل لا يبدو كابوساً قد يستيقظ عليه العالم العربي كما يراد من ترويجه بمقدار ما هو نكتة سمجة، فإذا كان ثمة من قلق حقيقي بهذا الشأن فهو يبدو ناتجاً من الخشية من دخول منافس آخر إلى عش الغرام الأميركي. ويستدعي الترويج للمخاوف من إمكان أن يؤدي التغيير في العراق إلى اضعاف الموقف العربي والفلسطيني بشأن التسوية السلمية مع إسرائيل إلى التذكير بحالتين مماثلتين على الأقل في التاريخ العربي القريب، وهما توقيع مصر على اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل عام 1979 وانضمام نصف العالم العربي إلى التحالف الذي قادته أميركا لاخراج العراق من الكويت عام 1991. ففي الحال الأولى قيل في باب تجريم مصر التي كانت تحمي مصالحها الوطنية وتسترجع أراضيها المحتلة إنه لولا كامب ديفيد لما غزت إسرائيل لبنان عام 1982 ودمرت منظمة التحرير الفلسطينية. وفي الحال الثانية، وبصدد الموقف العربي المشارك في التحالف الأميركي لتحرير الكويت قيل ان تدمير القوة العراقية هو الذي حرم العرب من العمق الاستراتيجي للعراق ومهد للقيادة الفلسطينية المشاركة في مؤتمر مدريد ومن ثم تقديمها للتنازلات المهينة في اتفاق أوسلو. طبعاً ان هناك من سيقول إن كل حكم على أي من التطورات التاريخية هو أمر نسبي مرهون بمنظور قائله والوقائع التي تحيط به، لكن ألا يستدعي ذلك الآن أن ينظر من يروج لهذه المخاوف من العرب في المرآة جلياً لكي يرى من كان حقاً وراء الانهيارات العربية أمام إسرائيل وماذا تبقى فعلاً من تنازلات تقدم للدولة العربية لكي يسهلها النظام العراقي المقبل؟ إذا كان لا بد من فتح نقاش عربي بشأن التطورات المحتملة في العراق، فمن الأولى أن يكون جدياً ورصيناً وبعيداً عن النفاق السياسي وغير مشبع بروح القبلية وعصبوية الأنظمة الشمولية وانتهازية بعض الأحزاب والتنظيمات ووصوليتها وهوجة الغوغاء وزعيقها، ليس بإمكان أحد أن ينفي ان هناك تحديات ومخاطر تنتظر العراق والعرب جميعاً خلال المرحلة المقبلة، وان هناك فرصا لتعزيز الهيمنة الأميركية وتربص إسرائيل لترسيخ وجودها وقوتها في المنطقة، لكن الوقوف أمام عجلة التاريح التي تمثلها الرغبة الجامحة للشعب العراقي في الخروج من الاستبداد إلى الحرية لن يمثل فقط شرخاً جديداً في جسد الأمة العربية، ولكنه سيضيف أيضاً المزيد من عوامل عدم الاستقرار والانهيار السياسي والحضاري. الخطاب العربي الرسمي تجاه القضية العراقية ملتبس بما يحمله من رفض للعمل العسكري الأميركي ودعوة بغداد إلى إعادة المفتشين وتنفيذ قرارات مجلس الأمن في آن واحد. وما يزيد من تناقضه هو أن الدول العربية أقل قدرة ورغبة واستعداداً مما تصرح به للوقوف أمام الرغبة الأميركية. هذا الموقف لا يلبي مطالب النظام العراقي الذي يظل يحمل الشكوك والهواجس ورغبات الثأر، خصوصاً تجاه الدول التي تؤوي القواعد العسكرية الأميركية وترتبط معها بعلاقات خاصة، بينما يبقى لدى الكثير من العراقيين قناعة بأن بعض العرب يعاقبونهم بسبب ما ارتكبه نظامهم من أخطاء ويريدون أن يظل العراق معزولاً وضعيفاً ومهيض الجناح كما هو عليه الآن. ذلك ان تغييراً ايجابياً في نظامه وإعادة بنائه سيعيده عزيزاً وقوياً يمارس دوره العربي والإنساني الحضاري. هناك حاجة للتخلي عن هذا النفاق والازدواجية والخروج بمبادرات يمد فيها العرب أياديهم إلى اخوانهم العراقيين لكي يشدوا من أزرهم في توقهم ومسعاهم للحرية والكرامة والعدالة، ففي ذلك الكثير من الخير والأمن والاستقرار للجميع. * كاتب عراقي.