لقد عرفناك، عبدالباقي الهرماسي، واحداً منا، رعيل السبعينات من الاكاديميين العرب، ممن حملوا منارة علوم المجتمع الحديثة كتابة وعلى مدارج الجامعة وفي الندوات المتعددة في البلدان العربية والمحافل الدولية، وها أنت الآن تتحمل مسؤولية الاشراف على العلوم والفنون والفكر في بلدك المحبب، تونس، كمسؤول رسمي بصفتك وزير الثقافة. لستَ الوحيد في صفوفنا ممن تركوا حرم الجامعة والتحقوا بأروقة السلطان ايماناً منهم بما في موقع القيادة من طاقة تمكنهم من تعميم الفائدة على المستوى القومي. وقد سبق أن دعا زميلنا الآخر، سعدالدين إبراهيم في مصر إلى التعاون مع النظام السياسي السلطوي بحجة أن التقدم لا يأتي من طريق الاعتزال والرفض. وقد قمتَ أنتَ وهو بالتجربة شخصياً، ولعل الأصح بالمجازفة على حسابكما من دون تأييد صريح، ولو من دون اعتراض، من سائر أعضاء السرب. والآن وقد مرّ على تجربتك في التعاون مع الحكم، أنتَ وسعدالدين إبراهيم، ردحاً من الزمن، وقد انتهى إبراهيم إلى حيث ندري جميعاً ضحية مجازفته. أين أنت الآن من كل هذا؟ وهل تفيدنا تجربتك شيئاً حول طبائع السلطات وعلاقتها بأهل الفكر؟ اقتصر هنا على سؤالين تعود أسبابهما إلى زمن قصير. أولاً الحجر على الكتب في تونس. لقد اتصل بي الناشر في "دار الساقي" في بيروت ليخبرني بأن السلطات التونسية منعت دخول كتابي الجديد "الديموقراطية وتحديات الحداثة" إلى الأسواق التونسية، وتكون بذلك تونس هي البلد الوحيد الذي يقوم بالحجر على الكتاب ومن دون أن نعلم أسباب تلك الخطوة المعادية للفكر والعلوم. والحدث الثاني ما تنقله إلينا الصحف اليومية عن التضييق على الحريات الصحافية في تونس. لا أظن أنك أنتَ الذي أصدر قرار منع دخول كتاب "الديموقراطية وتحديات الحداثة" إلى تونس، ولا أنتَ المسؤول الذي يضيّق الخناق على الصحافة. ولكن المشكلة هي أن صون الحريات التي تعني الكتب ووسائل الإعلام هي من اختصاص الوزارة التي تقوم أنت بالاشراف عليها، وزارة الثقافة بالذات، والكتاب الذي مُنع ليس بياناً خطابياً ولا مانيفستو ثورياً، ولا هو كتاب يعالج البلدان العربية أو أي بلد معين، بل هو دراسة أكاديمية تركز على بحث منهجية الفكر الديموقراطي، وبالتالي هو ذو طابع فلسفي وتأسيسي بعيد من الإثارة من أي نوع كان. فهل يا تُرى قد نام الناطور أو أنه أخذ غفوة؟ من المعروف في بلدان العالم العربي أجمع أن ما من وزارة ثقافة تقوى على وزارة الداخلية، ونحن لا نطالب بانجاز المعجزات، إنما نبحث عن أثر الدور التثقيفي لوزير الثقافة. ولا أرى أنسب من قضية الكتاب العربي فرصة أو ذريعة للمسؤول الثقافي ليبرهن فيها عن فاعليته وتأثيره في نظام الحكم، خصوصاً أن الكتب التأسيسية من أمثال الكتاب المذكور لا تأثير سياسياً مباشراً لها كي يخافها السلطان، فهي إن اتتها الظروف قد تؤثر في المدى البعيد، وبعد أن يكون جيلنا قد رحل عن هذه الدنيا. المقصود أن السلطات التونسية انتهكت في هذه الحال الحد الأدنى للحريات، وبخلاف وزارات الإعلام في الدول العربية الموكل إليها ترويج الفكر والمعلومات من وجهة نظر حكومية تنقصها الأمانة ويدفع ثمن ما تروّجه من تضليل المواطن العادي، فإن وزارات الثقافة تعتبر طاقة ايجابية يمكنها أن تساعد على رفع مستوى الحضارة، فإن طالبنا عن حق بإلغاء وزارات الإعلام لا يمكننا أن نفعل الشيء ذاته في حق وزارات الثقافة. أما قضية الصحافة فهي أكثر خطورة وتأثيراً على الفضاء السياسي العام الذي يخص المواطنين جميعاً ويشكل حلقة الوصل بين المجتمع المدني والحكومة. والموضوع المثار تونسياً وعربياً ليس قيام وزير الثقافة أو وزير الإعلام بإقصاء وزارة الداخلية أو أجهزتها عن كل ما يتعلق باختصاصهما، فهو مطلب قصوي ليس في المنال في الأوضاع العربية القائمة، إنما المطلوب تحديد الهامش الأساسي واللائق لحرية الكلمة ولحقوق المواطن في معرفة ما يتعلق بالشأن العام، وهو شأنه بالذات. والكلام عن المجتمع المدني يعيدنا إلى تجربة الزميل سعدالدين إبراهيم المحزنة والمقلقة في آن. فهو وإن لم يتبوأ مناصب رسمية، فإنه اشترك مع السلطات في مهمات عدة من اختصاصه منذ أيام السادات، وتكررت التجربة في عهد الرئيس مبارك حتى فترة وجيزة من واقعة انقضاض النظام عليه. إن النظام الذي اعتقد سعدالدين أن في إمكانه التعاون معه وحمله على أخذ السياسات الديموقراطية والاصلاحية لم يقبل بالهامش المتواضع الذي ارتآه الاستاذ الكريم على رغم تدني المستوى المطلوب. التجربة أظهرت أن الأنظمة السلطوية لا تعترف بفضاء عام سياسي في ذاته خارج حدودها، فما من عمل إلا بإرادتها ورضاها. ومن هنا كانت واقعة سعدالدين الذي ظنّ أن النظام السلطوي الذي يظهر في العلن وكأنه سائر في طريق الاصلاح ليس في الواقع سوى مناور على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً. فإن لم تكن التجربتان التونسية والمصرية قدمتا الدليل الى أن العالم الأكاديمي قادر على التأثير من خلال تحمل المسؤولية في الحكم والتعاون مع النظام السلطوي، فأين يا تُرى يكمن دوره الأفعل في الظروف المعروفة بيننا؟ وهنا لا يسعنا إلا أن نقول إنه ما دامت نتائج العمل في ركاب السلطان لا جدوى منها، فالأفضل أن يوظّف أهل العلم نشاطهم السياسي في العمل السياسي خارج النظام، بصورة خاصة في الأحزاب السياسية التي تتسع لأعداد كبيرة منهم، أو في غيرها من منظمات المجتمع المدني. ليس هناك من شك أن المجال الأصلح لأهل الفكر في الأنظمة السلطوية هو المعارضة العاملة بوسائل سليمة على الاصلاح والديموقراطية، فالذي يقف في وجه السلطان يوسّع الفضاء العام السياسي وينشطه، أما الذي يعمل في خدمته فإنه يضيّق الخناق على المنافذ القليلة المتوافرة والمتأزمة أصلاً. أينما كان موقع الفرد منا، فنحن في الاعتبار الأخير مربّون، وما لأمة قامت تنشئتها على الكتمان والتغابي مكان جدير بالحياة أو شأن بين الأمم. * كاتب لبناني. أستاذ جامعي في الولاياتالمتحدة الأميركية.