كلمة الدكتور نقولا زيادة في تأبين والدي، ذكرتني بمقابلتي له أول مرة ذات صيف بعيد في بيروت... هو أيضاً في كلمته يعود بذكرياته الى صيف أبعد. حتى متى نحتفظ بما يهمس الصيف في الذاكرة؟ * * * أثناء دراستي في الخارج، في لبنان وفي الولاياتالمتحدة، كنت أنتظر الصيف على مثل الجمر لأسارع الى أحضان أهلي أينما كانوا، في الوطن أو في مصيف ما. لم يكن مقياس درجة الحرارة، هنا أو هناك، يدخل في حساباتي أبداً. كان الصيف يأتي بأجمل أغاني الفرح... والشتاء يأتي بأشجى أغاني الحنين. وحين عدت نهائياً اختلطت الأمكنة والأزمنة والمشاعر والإبداع. ظل وطن الطفولة ذاكرة لا تعرف المواسم... ووطن الجسد أرضاً لا تؤمن بالحدود وشعراً يتدفق مع اختلافات الفصول... روحاً جوزائية وآفاقاً من الماء للماء. * * * القيظ يواصل ذروة وهجه في هذا الشهر ويستمر حاملاً شعلته وأوارها يتلظى حتى تخفت تدريجياً إذ تهدئ من حدتها نسمات أيلول. الصيف اللاهب يذكرني بالطفولة... ويأتي بإحساس تغيّر جذري. كنت في الطفولة أنتظر الصيف بشوق... والصيف يعني اجازة المدرسة وساعات ممتدة من الوقت لملئها بما لا يتسع له وقت الموسم الدراسي المكتظ بمتطلبات المدرسة. كان موسم الحرية... القيود يحتكرها جبروت الشمس فقط... وأنا طفلة لا تعترف إلا بإغراءات الفضاء وأكوام الرمل البحري النفاذ الرائحة تكومها الشاحنات لمشروع بناء عند هذا البيت أو ذاك... لا أخضع كثيراً لحال الجو أو فرضيات أمي وهي تحذرني من الخروج للعب في الخارج بين الظهيرة والعصر... وتطلب مني أن أتجنب أشعة الشمس المحرقة. كان إغراء اللعب بحرية خارج مجال مراقبتها، أكبر من أن أستسلم وأبقى رهينة الجدران... والخيار الأفضل هو ألا تضيع أي لحظة من موسم المتعة والحرية تلك... ولا حتى ساعات الظهيرة. * * * أنا من مواليد الصيف... لا أعرف هل أنا من برج الجوزاء أو برج السرطان... وكانت ولادتي في ليلة شديدة الحر على خط التماس بينهما... ولذلك بكل تجاهل علمي أحسب لي ايجابيات كل منهما وأحذف السلبيات... أصبح امرأة الجوزاء الأثيرية القادرة على امتطاء أحلام التحليق، ووريثة السرطان أغوص الى الأعماق كحورية بحر لا تخيفها احتمالات الغرق. وبين الأثير المستقبلي والخضم التاريخي تكونت... هلاماً في محارة خليجية لامسها ندى الصيف والشعر فتفتقت عن شاعرة. ولدت في البحرين، جزيرة جذورها في خرافات التاريخ، وأعيش في الظهران، مدينة جعلت جغرافيا الصحراء أسطورة خرافية. تتعايش في انفعالاتي كل الأزمنة وكل الأمكنة. أتصور أنه في تلامس الجوزاء الهوائية والسرطان المائي تأتي تلك الحالات من التداخلات الإبداعية المزدوجة العمق، مثلما تأتي تلك الضبابية التي تتضاعف في أجواء الخليج الى تناوب بين سموم ورطوبة... تجبرنا ان نقايض بأزيز مكيفات تحاول تدجين حرارة الجو وامتصاص أبخرته. وفي تحولات انفعالاتنا نكاد لا نسمع ما يهمس الصيف منذ الأزل. ثريا العريض