بعد كل عملية "استشهادية" يسقط فيها مدنيون اسرائيليون، يعيش الناس في الضفة وقطاع غزة ومعهم المراقبون السياسيون والصحافيون، وقائع مشهدين يتكرران كل مرة: الأول، يعلن مصدر اسرائيلي رسمي عن وقوع عملية انتحارية جديدة ويحمل عرفات وسلطته مسؤولية قتل مدنيين اسرائيليين. ويؤكد أن اسرائيل سترد على العملية، والمجلس الوزاري المصغر دعي الى اجتماع طارئ لتحديد طبيعة الرد. ويسرع الرئيس بوش وأركانه الى ادانة العملية، وتقديم التعازي الحارة الى رئيس الحكومة الاسرائيلية وذوي الضحايا. ودائماً تكون التعازي الأميركية مقرونة باتهام السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات بالتقصير في محاربة الارهاب وملاحقة الارهابيين. ويتبع الموقف الأميركي موقف مشابه من دول الاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان. وعادة تحرص القيادة الفلسطينية على أن تسبق بوش والآخرين، في ادانة العملية وادانة قتل المدنيين من الطرفين. في المشهد الثاني، يبدأ الفلسطينيون والصحافيون تلقط أخبار العملية. ويختفي قادة القوى الوطنية والاسلامية والمسلحون والمطاردون من الشوارع. ويغادر أبناء القرى المدن عائدين الى قراهم قبل إحكام الاغلاق. وفي رام الله يتوجه مراسلو شبكات التلفزة الى مقر رئيس السلطة الفلسطينية ومحيطه، لتغطية وصول القوات الاسرائيلية ومحاصرة المقر. ويسرع الناس لتأمين حاجاتهم ويتجمعون أمام المخابز والمحال التجارية وبسطات خضار يدفعها أصحابها وسط الشوارع غير آبهين بتعطيل السير. وداخل هذه الأماكن وأمامها يتجدد الجدل حول جدوى العمليات الاستشهادية ونتائجها، ويتبادل الناس تقديراتهم لطبيعة الرد الاسرائيلي ومكانه، وفي معظم الأحيان تكون تقديراتهم دقيقة، تساهم في تمكين المطلوبين والمطاردين من اللجوء الى مخابئ آمنة خشية المداهمة والاعتقال. اعتقد ان هذين المشهدين مرشحان للتكرار على خشبة مسرح الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي طالما بقي شارون رئيس حكومة يشارك فيها حزب العمل. ونتائج عملية "الطريق الحازم" التي شرع الجيش الاسرائيلي في تنفيذها لن تكون أفضل من نتائج عملية "السور الواقي" التي استمرت 6 أسابيع. وقدر الفلسطينيين والاسرائيليين ان يعيشوا هذه الحال شهوراً طويلة لأسباب عدة منها: أولاً، ان الوضع على الأرض تجاوز مناشدة عرفات ودعوات السلطة الفلسطينية لوقف العمليات ضد المدنيين الاسرائيليين داخل اسرائيل. ولم تعد حركة "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"الجبهة الشعبية" ونسبة كبيرة من كوادر وعناصر "كتائب الأقصى" التابعة لحركة "فتح"، تلتفت الى هذه الدعوات بل هي ترفض التجاوب معها، خصوصاً بعد نجاح الثنائي بيريز - شارون في دفع الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي الى ادراج أسماء حركاتهم وتنظيماتهم في خانة القوى الارهابية. وبعدما أصبح قادة هذه القوى وكوادرها وأفرادها مطاردين دولياً، ومشاريع شهداء في قوائم المؤسسة الأمنية الاسرائيلية، وقرر بعضهم، بمحض إرادته، الانتقام والاستشهاد في سبيل الله والذهاب للجنة والانضمام الى عزيز سبقه. وبيانات هذه القوى تؤكد أنها ماضية في "خطها الجهادي" وتسعى الى تطوير مفعول عبواتها الناسفة. وأظن أنها تبقى قادرة على تنفيذ عمليات انتحارية جديدة داخل اسرائيل حتى إذا أعادت اسرائيل احتلال المدن الفلسطينية، مثلما حصل خلال وفور انتهاء عملية "السور الواقي"، لا سيما أن الحديث يدور عن تسلل بضع أفراد وليس حركة وحدات عسكرية فدائية أو نظامية كبيرة. ولدى هذه التنظيمات مخزون كبير من الانتحاريين. الى ذلك، فقد أصحاب النداء عرفات والسلطة القدرة على المقاومة باستثناء التمترس عند الحقوق. ولم يعودوا قادرين على حماية شعبهم من بطش الاحتلال، وتساووا معه في الحاجة الى من يوقف اذلالهم ويحميهم من عقلية شارون الانتقامية. يدعون الناس الى الصبر في مواجهة القهر الاسرائيلي ولا يستطيعون توفير لقمة العيش لهم، أو تقديم وعد نظري بقرب رفع الحصار والاغلاق ووقف المطاردات والمداهمات والاعتقالات والاغتيالات. وليس في الأفق ما يبعث الأمل في النفوس وينبئ بعملية سياسية بديلة لعملية السلام التي قتلها شارون. وإعادة احتلال المدن الفلسطينية تحرر السلطة من مسؤولية محاربة الارهاب، إذا لم يلغ وجودها لصالح حالة من حالات الفوضى العارمة. ويعرف جورج تينيت مدير الCIA ان السلطة الفلسطينية غير قادرة على تلبية طلب بوش - شارون وقف العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين، وسمع عرفات يقول ان تدمير المؤسسة الأمنية الفلسطينية وانعدام الأفق السياسي شلا قدرة السلطة على وقف هذه العمليات. ثانياً، تجاوز الوضع الميداني الخطة التي كان الرئيس بوش يستعد لاعلانها. ولم يعد الحديث الأميركي اللفظي عن قيام دولة فلسطينية، دائمة أو موقتة، مجهولة الزمان والمكان، ومؤتمر دولي مجهول الحضور، قادر على اخراج الناس في الضفة والقطاع من حال اليأس من عملية السلام مع الاسرائيليين، والاحباط من الدور الأميركي في معالجة النزاع. وبعد اعلان هذه الخطة تفاقمت خطورة الوضع لأن بوش أجاز لشارون ان يعاود احتلال كل الضفة ووفر له أكبر غطاء لممارساته. ولم بفعل بوش وأركانه سوى الاستمرار في مواقفهم المعروفة وكذّبوا بذلك كل ما قيل عن تغيير وتفهم أميركيين لوجهة النظر العربية، وفضلوا تشجيع شارون على المضي قدماً في أعمال القتل والتدمير، معلنين ان هذا حق اسرائيلي مشروع في الدفاع عن النفس. غض بوش وأركانه النظر عن قتل الأطفال وترويع المدنيين الفلسطينيين وتجويعهم، وتجاهلوا ان أعمال شارون ساوت الموت بالحياة عند كثير من الفلسطينيين. ولم يسمع الناس في الضفة والقطاع انهم يعتزمون استخدام نفوذهم القوي في اسرائيل لوقف احتلال المدن الفلسطينية، وإزالة حاجز من حواجز القهر والإذلال التي نصبها الاسرائيليون على مداخل المدن والقرى والمخيمات. ثالثاً، بعد فشل "عملية السور الواقي" التي نفذها الجيش الاسرائيلي في نيسان ابريل الماضي، في اخضاع قيادة السلطة وتدمير البنية التحتية ل"الارهاب" وفشله في اعتقال "الانتحاريين" وقادتهم... الخ، فقد شارون واركانه الامنيون والسياسيون صوابهم، واندفعوا بسرعة نحو بناء "جدار واق" من الاسمنت والاسلاك الشائكة والخنادق العميقة بموازاة الخط الاخضر وبعمق 2 - 10 كلم داخل الاراضي الفلسطينية. ونسي بن اليعيزر رئيس حزب العمل وزير الدفاع، الدرس الثمين الذي استخلصه قائده ومعلمه رابين من تجربته الغنية: ان لا حل عسكرياً للنزاع العربي - الاسرائيلي وتحقيق امن اسرائيل والاسرائيليين لا يتم سوى عبر المفاوضات وبناء الطرفين علاقات سلمية لبنة لبنة، وان الفصل العنصري والاسلاك الشائكة وحقول الالغام والخنادق...الخ تقتل بذور السلام، وتعمق الكراهية في نفوس الناس على الجانبين. في الايام الاخيرة تجاوز الموقف الاسرائيلي كل الخطوط الصفر والحمر، وتسابق اركان اليمين الاسرائيلي في الدعوة الى الانتقام وإعادة احتلال الضفة وقطاع غزة، واستكمال تدمير السلطة واجهزتها المدنية والأمنية وطرد رئيسها عرفات، وطالب بعضهم بقتله. ورفع رئيس جهاز الامن "الشاباك" آفي ريختر توصية باعادة احتلال كامل مدن الضفة والقطاع والبقاء فيها حتى الانتهاء من اقامة المناطق العازلة واتمام بناء السياج الامني. وقرر شارون بموافقة اركان حزبه استدعاء جزء من قوات الاحتياط وتوسيع رقعة انتشار الجيش وتعميق تواجده في الاراضي الفلسطينية. ونفذ قادة الجيش القرار الذي انتظروه طويلاً وبسرعة احتل معظم المدن الفلسطينية ويحضر لاحتلال البقية. ويأمل اركان المؤسسة الامنية بالنجاح هذه المرة في تحقيق ما فشلوا في تحقيقه في عملية "السور الواقي" وما تلاها من عمليات عدوانية صغيرة وكبيرة، وتدمير "اوكار الارهاب" حسب تعبير شارون ووزير دفاعه بن اليعيزر في مؤتمر الكونغرس الصهيوني الذي عقد في القدس يوم 20/6/2002، ونسي شارون ان توغله في الاراضي اللبنانية وتعميق عملياته الحربية في حرب 1982 اسفرا عن مجازر صبرا وشاتيلا ولم يقض على منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها. وبصرف النظر عن المدة الزمنية للاحتلال الجديد يمكن الجزم سلفاً بأن شارون واركانه الامنيين والسياسيين لن يجدوا من يتعاون معهم في محاربة الارهاب وفي ادارة شؤون الناس وتأمين متطلبات حياتهم اليومية. واذا كانت القيادة الاسرائيلية فشلت في بناء "الادارة المدنية" قبل اكثر من ربع قرن فلن تنجح في بنائها الآن. ولن ينجح الاسرائيليون في بناء قوة شرطة عملية او الاعتماد على القوة الموجودة. فرجال الشرطة والامن الفلسطينيون سئموا، قبل الاحتلال الجديد، زيهم الرسمي ومهماهم ودورهم في اعتقال مدبّري العمليات الانتحارية، وبعضهم صار يتعاطف، سياسياً وفكرياً، مع الاستشهاديين بخاصة ان الجيش الاسرائيلي اذلهم وأهان آباءهم وامهاتهم واخوانهم واخواتهم، ودمر مقارهم واعتقل مئات منهم. وسيكتشف الاسرائيليون بسرعة ان مساندتهم مغامرات شارون الحربية وسياسته الانتحارية اوقعتهم في ورطة سياسية امنية، اعقد واصعب من التي زجهم فيها عام 1982، عندما توغل في العمق اللبناني ودخل مدينة بيروت، وارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا. اعتقد ان الوضع في الاراضي الفلسطينية يتجه بتسارع شديد نحو تدهور دراماتيكي خطير يفتح على احتمالات عدة. من جهة، نقل شارون مشروعه الاصلي خطوة نوعية، وقرر توجيه ضربة قاضية للسلطة الفلسطينية واعادة تركيبها على اسس جديدة غير التي بنيت عليها. في المقابل يرفض الفلسطينيون الاستسلام للاحتلال الجديد والقديم. وبيانات "حماس" و"الجهاد الاسلامي" و"كتائب عز الدين القسام" تؤكد انها ماضية في عملياتها الاستشهادية ضد المدنيين الاسرائيليين غير آبهة بالاصوات الفلسطينية الوازنة التي ارتفعت أخيراً ودعت الى وقف هذا النمط من العمليات، وحصر مقاومة الاحتلال في حدود الاراضي المحتلة عام 1967. * كاتب فلسطيني