رصد أكثر من 10 آلاف طائر مائي في محمية جزر فرسان    جامعة الفيصل تحتفي بيوم العطاء وتكرم الأميرتين موضي بنت خالد ونوف بنت عبدالرحمن    شمال جدة يسجل أعلى هطول أمطار في السعودية خلال 5 ساعات    أمانة جدة تباشر جهودها الميدانية للتعامل مع الحالة المطرية    ميدان فروسية الدمام يعلن نتائج الحفل الثاني لموسم 1447ه    وزارة الثقافة توقع مذكرة تفاهم مع مركز الملك فيصل لتعزيز التعاون العلمي والثقافي    توسع شركة الفنار للمشاريع عالميا بافتتاح مكاتب جديدة في الصين والمملكة المتحدة    حرس الحدود‬⁩ بقطاع حقل يحبط تهريب مادة الحشيش المخدر    صندوق الاستثمارات العامة يستعرض تجربته في تعزيز النزاهة والشفافية    تعليم الطائف يُطلق حملة 10KSA الدولية    صحفيو مكة يستضيفون عبدالعزيز خوجة في لقاء عن الصحافة السعودية    تميز الجناح الإسباني يجذب زوار معرض المنتجات العربية والعالمية بمكة    حي حراء الثقافي يعزّز التجربة السياحية    أمطار على منطقة القصيم    البديوي يلتقي النائب الأول لرئيس أذربيجان    تراجع أسعار النفط    الرعاية المنزلية: خدمة إنسانية تقلل عبء المستشفيات    رئيس وزراء الصين: عواقب الرسوم الجمركية تزداد وضوحا    زيلينسكي: أوكرانيا ستطلع أمريكا على خطة السلام المعدلة اليوم    إصابة 30 شخصا بعد زلزال قوي في اليابان    بنصف مستوى سالم    القيادة تهنئ رئيس سوريا بذكرى يوم التحرير لبلاده    ولي العهد وأمير قطر يشهدان التوقيع.. اتفاقية لتنفيذ مشروع قطار السعودية – قطر السريع    إطلاق 37 كائناً فطرياً في «محمية الحجر»    «الشمالية».. محطة الطيور المهاجرة    4.8 % نمو الناتج المحلي    ولي العهد وأمير قطر يتفقان على تعزيز التعاون والروابط التاريخية.. قطار كهربائي سريع بين الرياض والدوحة    متحدث الجوازات: تفعيل الجواز شرط للسفر بالهوية الوطنية بعد التجديد.. ولا يشمل الإصدار لأول مرة    تمطيط    حماس منفتحة على مناقشة تجميد السلاح.. إسرائيل تضع حدوداً جديدة لغزة ب«خط أصفر»    هل ينشر الإنترنت الجهل؟    موجز    ولي العهد والرئيس الفرنسي يبحثان الأوضاع الإقليمية والدولية    القوات الخاصة للأمن البيئي تشارك في معرض (واحة الأمن) بمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل ال (10) بالصياهد    الرسالة الأهم.. أنت تختلف عنهم    ماجدة زكي تبدأ تصوير رأس الأفعى    «مندوب الليل» يجسد أحلام الطبقة الشعبية    برعاية وزير الرياضة| انطلاق بطولة مهد الدولية للقارات في نسختها الثانية    إطلاق «هداية ثون» لتطوير الخدمات الرقمية بالحرمين    في الجولة السادسة من دوري أبطال أوروبا.. إنتر لاستغلال ظروف ليفربول.. وبرشلونة يواجه فرانكفورت    الميكروبات المقاومة للعلاج (3)    إحالة منشأة إلى النيابة لبيعها أجهزة طبية مخالفة    "التخصصي" يتوّج بثلاث جوائز    إحالة منشأة إلى النيابة لتداول أجهزة طبية مخالفة    أسطح منازل الرياض مؤهلة لتغطية 40% من استهلاك الكهرباء بالطاقة الشمسية    الاجتماع الأول للجنة الصحة المدرسية لمناقشة مهامها ضمن إطار انضمام محافظة بيش لبرنامج المدن الصحية    أين وصلت محادثات السلام؟    السودان يقف بين تفاقم الأزمة الإنسانية ونقص التمويل    الرياض أول مدينة سعودية تنضم رسميًا إلى شبكة المدن العالمية    الشيخ البصيلي يختتم المحاضرات التوجيهية لمراكز الدفاع المدني بعسير    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية الذوق العام    صلاح يهدد بالاستبعاد عن مواجهة انتر ميلان    الأهلي يتفق على تمديد عقد ميندي    ⁨الإسلام دين السلام لا إرهاب وعنف⁩    لا تلوموني في هواها    هيئة «الشورى» تحيل تقارير ثلاث جامعات للمجلس    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله.. ويعلن انضمام أمانة الرياض لعضوية المنظمة العالمية "ISOCARP"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف وجه لألف عام - "أزهار الشر": بودلير يفتتح "جوانية" الكتابة
نشر في الحياة يوم 08 - 04 - 2002

من بين نظرات عدة على كتاب "أزهار الشر" للشاعر الفرنسي بودلير، ومن بين تفسيرات تطاول هذا الكتاب "الاستثنائي" في الشعر الفرنسي، ثمة نظرتان شاملتان يمكن لكل منهما ان تستوقفنا، ولكل منهما انصارها المدافعون عنها بحدة وحماسة.
النظرة الأولى يرى اصحابها ان الشاعر الفرنسي الملعون انما شاء ان يعكس في ترتيب عناوين اقسام الكتاب الستة الرئيسة، رغبته في ان يضفي على عمله هذا صرامة بنية القصيدة، اية قصيدة، مصوراً عبر تلك البنية تاريخ روح ما، في لحظات تجربتها الجوانية. والشاعر في تقسيمه ل"أزهار الشر" الى اقسام تحمل على التوالي العناوين التالية: "كآبة ومثل اعلى"، "لوحات باريسية"، "الخمر"، "ازهار الشر"، "ثورة"، و"الموت"، يكون قد وضع نفسه في صورة من مادة "المشهد المخيب للواقع وللتجارب التي لا منفذ لها" ومن "بعد ما سعى، عبثاً للوصول الى عزاء له في الفراديس الاصطناعية بغية نسيان آلامه"، الى تأمل عميق حول الشر نفسه وحول اليأس الفظيع الذي يؤدي إليه ذلك الشر أو يخلقه. وضمن هذا الإطار، تكون مفهومة تلك الصرخة المرعبة التي يطلقها بودلير ضد منظومة الوجود، قبل ان يعثر على نهاية النفق في الموت نفسه.
في مقابل هذه النظرة التي اعتاد اصحابها ان يدافعوا عنها بكل حرارة مستندين الى قراءة - تبدو لآخرين ميكانيكية وقسرية بعض الشيء - ثمة نظرة اخرى اساسية، على "أزهار الشر"، تقر أصلاً بأن في النظرة الأولى امكانات حقيقية للفهم، غير ان تبنيها، بالنسبة إليهم، انما يقف بالتضاد التام مع جوهر هذا العمل الشعري، ومع اسلوب بودلير نفسه، كما مع وظيفة الشعر. إذ ان اصحاب هذه النظرة الثانية يرون ان اضفاء اي بعد "انتظامي" على عمل بودلير هذا، إنما يحوله من شعر الى هندسة عقلانية. ويستشهد هؤلاء بكون بودلير نفسه كان صاحب نظرة الى الشعر تخلصه من مثل هذه الافتراضات، لا سيما في بعدها المرتبط بالاهتمامات الأخلاقية، ناهيك عن تشكلها العقلاني. قد يكون، بالنسبة الى هؤلاء مجال للدنو من مثل هذه الاهتمامات، لكنها لا يمكنها بأي حال من الأحوال ان تفرض على الشاعر اية انتظامية بنيوية. ولحل هذه المعضلة، المتعلقة اصلاً بالرابط بين الشكل والمضمون، أو بين البنية والمعنى في "أزهار الشر"، يقول اصحاب هذه النظرة ان في الأمر تعبيراً ينبغي اصلاً ان يكون رمزياً عن الثنائية الأصلية التي كانت تعيش في طياتها روح الشاعر، والتي كانت تدفعه من دون هوادة، مرة نحو قمم النشوة، ومرات الى هاوية الخطيئة وأعماقها.
والمهم هنا ان بودلير كان على وعي بهذه الازدواجية، لكنه كان على وعي ايضاً بأنه يشاطر فيها كل انسان آخر لاسيما ذاك الذي ينادي قائلاً: "يا أخي، يا قارئي، يا شبيهي". ويستنتج اصحاب هذه النظرة ان بودلير، لأنه تبنى ونمّى في داخله وفي شعره هذه الازدواجية الجوهرية، جعل نفسه معبراً عن شتى توجهات الروح، وهذه، مهما كانت متعارضة فيما بينها، عرفت كيف تدرك تعبير بودلير عنها، ومن هنا كانت - اصلاً - حداثته المؤسسة.
إذاً، بالنسبة الى الكثر كان كتاب "ازهار الشر" الذي صدرت طبعته الأولى - التي اثارت ضجة كبيرة وحوكمت وحوكم صاحبها، ودين واضطر الى محو ست قصائد، كما سنرى - في العام 1857، تاريخ بداية الحداثة الشعرية. اي بداية ارتباط الشعر مرة وإلى الأبد، بجوانية الروح. صحيح ان الشعر ارتبط دائماً بتلك الجوانية بحيث يصعب القول إن بودلير كان رائداً في ذلك. لكن الذي حدث هو ان جوانية الروح كوظيفة اساسية للشعر، في ذلك الحين، نزلت مذاك الى "الساحة العامة"، وصارت قانوناً، خصوصاً انها كانت واحدة من اولى المرات التي يحاسب فيها القانون شاعراً على شعره. قبل ذلك حوسب العلماء ورجال الدين والمفكرون والفلاسفة... الخ. لكن الشعر ظل في منأى ليس طبعاً في تاريخ الثقافة العربية - الإسلامية، بيد ان هذا موضوع آخر ليس مكانه هنا، ظل يعتبر هلوسات على حدة. مع بودلير و"أزهار الشر" تغير الوضع. أو لعل المحاكمة في ذاتها هي التي غيّرته، إذ نبهت "الساحة العامة" الى الفعل الذي كان في امكان الشعر ان يقوم به.
من هنا فإن تاريخ "ازهار الشر" هو تاريخ محاكمته ومنعه وطبعه وإعادة طبعه، بقدر ما هو تاريخ كتابته وعلاقته بصاحبه، وجوهر ما فيه من شعر، قد يدهشنا اليوم انه، في سياق الشعر الفرنسي واستخداماته للغة وتعبيراته الجوانية، لا يزال شديد الحداثة وكأنه كتب في الأمس القريب فقط.
المجموعة الشعرية المسماة "أزهار الشر" والتي نشرها بودلير للمرة الأولى في العام 1857 - كما أشرنا - كانت في الأصل تضم كل الإنتاج الشعري الذي حققه بودلير منذ العام 1840. وكان هذا يريد ان يعطي المجموعة عنواناً هو - في معادل معرفي معنوي/ قوي - يحيل الى "البرزخ" - بالجمع - Les Limbes، وهو كان بين الحياة والموت. لكن صديقاً لبودلير نصحه يومذاك بأن يبدله ففعل وأعطى المجموعة اسمها الذي عرفت به لاحقاً. وما ان نشرت المجموعة باسمها الجديد "أزهار الشر" وكانت تضم اضافة الى قصائد معروفة ومنشورة لبودلير، مجموعة قصائد كان الشاعر نشرها من دون توقيع، معبراً فيها عن هيامه بسيدة المجتمع مدام ساباتييه، حتى ثارت العواصف في وجهه واتهم ب"المروق الأخلاقي"، وصودرت نسخ الكتاب. وعند نهاية المحاكمة، وضع الشاعر في السجن بتهمة "الإساءة الى الأخلاق العامة". وعلى اثر هذا كله اضطر بودلير الى إصدار طبعة جديدة من مجموعته، في العام 1861، اتت منقحة وسحبت منها ست قصائد كانت أثارت البلبلة. لكن هذه القصائد اضيفت لاحقاً وبعد عقود طويلة بحيث تشكل جزءاً اساسياً من الكتاب كما نعرفه الآن، وكما انتشر في العالم اجمع وصار قانوناً للشعر، شكلاً ومعنى، بحيث ان اي شاعر، خلال العقود المنهية القرن التاسع عشر والبادئة القرن العشرين، ما كان يمكنه ان يعتبر شاعراً حقيقياً إلا إذا سار على منوالها، وعلى منوال جوهرها الذي يمكننا الآن ربطه بالنزعة الرومانسية، تلك النزعة التي عرفت كيف تعطي الشاعر احساساً بالحرية مع احساس باللاجدوى وبالآفاق المسدودة امام الروح المتطلعة. ولعل الفقرة من "أزهار الشر" التي تعبر عن ذلك اكثر من اية فقرة اخرى، هي التي يقول فيها الشاعر: "إذ نهبط الى قاع الهاوية. هل يهم بعد ذلك كثير ان يكون المآل السماء أو الجحيم؟ الصيرورة هي الوصول الى عمق المجهول، بحثاً عن الجديد".
ولد شارل بودلير، الذي ستصنع له "ازهار الشر" مكانته في مقدم الأدب الفرنسي والعالمي، في العام 1821. وكان في الخامسة حين فقد أباه، الذي كان يختلط بالأوساط الفنية ويمارس الرسم بين الحين والآخر. وشارل، ما ان انهى دراسته العليا، حتى طفق يعيش في باريس حياة بوهيمية طليقة، سنجده لاحقاً يعبر عنها في اشعاره، وبدأ يرتبط بصداقات مع اشهر أدباء وشعراء وفناني المدينة في ذلك الحين. وإذ قلقت أسرته من جراء ذلك بعثت به الى الهند حيث تجول لفترة، كما زار جزر موريس وجزيرة بوربون ليكتشف هناك - كما سيقول - جذور "الفراديس الاصطناعية" والأجواء الغرائبية. لكنه سرعان ما عاد الى باريس وبدأ ينشر قصائده متأثراً بقراءته لهوفمان وتيوفيل غوتييه واللورد بايرون. اما الاكتشاف الأكبر بالنسبة إليه فكان الكاتب والشاعر الأميركي إدغار آلان بو، حيث راح يترجم الى الفرنسية مجموعات من قصصه، في الوقت الذي كان يدافع فيه بحرارة عن موسيقى فاغنر التي كانت غير مرغوبة كثيراً في الأوساط المثقفة في زمنه. وكانت تلك المرحلة هي التي أُعقبت بصدور "ازهار الشر" والمحاكمة. ما أوقع بودلير في مزيد من كآبة ويأس ظلا مسيطرين عليه طوال الأعوام العشرة التالية، وحتى رحيله في العام 1867 وهو بعد في السادسة والأربعين.
وطبعاً لم يكن "أزهار الشر" كتاب بودلير الوحيد، إذ انه أصدر خلال حياته "الفراديس الاصطناعية" و"ريتشارد فاغنر وفانهاوزر" و"قصائد نثرية صغيرة" الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لشعر النثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.