من بين نظرات عدة على كتاب "أزهار الشر" للشاعر الفرنسي بودلير، ومن بين تفسيرات تطاول هذا الكتاب "الاستثنائي" في الشعر الفرنسي، ثمة نظرتان شاملتان يمكن لكل منهما ان تستوقفنا، ولكل منهما انصارها المدافعون عنها بحدة وحماسة. النظرة الأولى يرى اصحابها ان الشاعر الفرنسي الملعون انما شاء ان يعكس في ترتيب عناوين اقسام الكتاب الستة الرئيسة، رغبته في ان يضفي على عمله هذا صرامة بنية القصيدة، اية قصيدة، مصوراً عبر تلك البنية تاريخ روح ما، في لحظات تجربتها الجوانية. والشاعر في تقسيمه ل"أزهار الشر" الى اقسام تحمل على التوالي العناوين التالية: "كآبة ومثل اعلى"، "لوحات باريسية"، "الخمر"، "ازهار الشر"، "ثورة"، و"الموت"، يكون قد وضع نفسه في صورة من مادة "المشهد المخيب للواقع وللتجارب التي لا منفذ لها" ومن "بعد ما سعى، عبثاً للوصول الى عزاء له في الفراديس الاصطناعية بغية نسيان آلامه"، الى تأمل عميق حول الشر نفسه وحول اليأس الفظيع الذي يؤدي إليه ذلك الشر أو يخلقه. وضمن هذا الإطار، تكون مفهومة تلك الصرخة المرعبة التي يطلقها بودلير ضد منظومة الوجود، قبل ان يعثر على نهاية النفق في الموت نفسه. في مقابل هذه النظرة التي اعتاد اصحابها ان يدافعوا عنها بكل حرارة مستندين الى قراءة - تبدو لآخرين ميكانيكية وقسرية بعض الشيء - ثمة نظرة اخرى اساسية، على "أزهار الشر"، تقر أصلاً بأن في النظرة الأولى امكانات حقيقية للفهم، غير ان تبنيها، بالنسبة إليهم، انما يقف بالتضاد التام مع جوهر هذا العمل الشعري، ومع اسلوب بودلير نفسه، كما مع وظيفة الشعر. إذ ان اصحاب هذه النظرة الثانية يرون ان اضفاء اي بعد "انتظامي" على عمل بودلير هذا، إنما يحوله من شعر الى هندسة عقلانية. ويستشهد هؤلاء بكون بودلير نفسه كان صاحب نظرة الى الشعر تخلصه من مثل هذه الافتراضات، لا سيما في بعدها المرتبط بالاهتمامات الأخلاقية، ناهيك عن تشكلها العقلاني. قد يكون، بالنسبة الى هؤلاء مجال للدنو من مثل هذه الاهتمامات، لكنها لا يمكنها بأي حال من الأحوال ان تفرض على الشاعر اية انتظامية بنيوية. ولحل هذه المعضلة، المتعلقة اصلاً بالرابط بين الشكل والمضمون، أو بين البنية والمعنى في "أزهار الشر"، يقول اصحاب هذه النظرة ان في الأمر تعبيراً ينبغي اصلاً ان يكون رمزياً عن الثنائية الأصلية التي كانت تعيش في طياتها روح الشاعر، والتي كانت تدفعه من دون هوادة، مرة نحو قمم النشوة، ومرات الى هاوية الخطيئة وأعماقها. والمهم هنا ان بودلير كان على وعي بهذه الازدواجية، لكنه كان على وعي ايضاً بأنه يشاطر فيها كل انسان آخر لاسيما ذاك الذي ينادي قائلاً: "يا أخي، يا قارئي، يا شبيهي". ويستنتج اصحاب هذه النظرة ان بودلير، لأنه تبنى ونمّى في داخله وفي شعره هذه الازدواجية الجوهرية، جعل نفسه معبراً عن شتى توجهات الروح، وهذه، مهما كانت متعارضة فيما بينها، عرفت كيف تدرك تعبير بودلير عنها، ومن هنا كانت - اصلاً - حداثته المؤسسة. إذاً، بالنسبة الى الكثر كان كتاب "ازهار الشر" الذي صدرت طبعته الأولى - التي اثارت ضجة كبيرة وحوكمت وحوكم صاحبها، ودين واضطر الى محو ست قصائد، كما سنرى - في العام 1857، تاريخ بداية الحداثة الشعرية. اي بداية ارتباط الشعر مرة وإلى الأبد، بجوانية الروح. صحيح ان الشعر ارتبط دائماً بتلك الجوانية بحيث يصعب القول إن بودلير كان رائداً في ذلك. لكن الذي حدث هو ان جوانية الروح كوظيفة اساسية للشعر، في ذلك الحين، نزلت مذاك الى "الساحة العامة"، وصارت قانوناً، خصوصاً انها كانت واحدة من اولى المرات التي يحاسب فيها القانون شاعراً على شعره. قبل ذلك حوسب العلماء ورجال الدين والمفكرون والفلاسفة... الخ. لكن الشعر ظل في منأى ليس طبعاً في تاريخ الثقافة العربية - الإسلامية، بيد ان هذا موضوع آخر ليس مكانه هنا، ظل يعتبر هلوسات على حدة. مع بودلير و"أزهار الشر" تغير الوضع. أو لعل المحاكمة في ذاتها هي التي غيّرته، إذ نبهت "الساحة العامة" الى الفعل الذي كان في امكان الشعر ان يقوم به. من هنا فإن تاريخ "ازهار الشر" هو تاريخ محاكمته ومنعه وطبعه وإعادة طبعه، بقدر ما هو تاريخ كتابته وعلاقته بصاحبه، وجوهر ما فيه من شعر، قد يدهشنا اليوم انه، في سياق الشعر الفرنسي واستخداماته للغة وتعبيراته الجوانية، لا يزال شديد الحداثة وكأنه كتب في الأمس القريب فقط. المجموعة الشعرية المسماة "أزهار الشر" والتي نشرها بودلير للمرة الأولى في العام 1857 - كما أشرنا - كانت في الأصل تضم كل الإنتاج الشعري الذي حققه بودلير منذ العام 1840. وكان هذا يريد ان يعطي المجموعة عنواناً هو - في معادل معرفي معنوي/ قوي - يحيل الى "البرزخ" - بالجمع - Les Limbes، وهو كان بين الحياة والموت. لكن صديقاً لبودلير نصحه يومذاك بأن يبدله ففعل وأعطى المجموعة اسمها الذي عرفت به لاحقاً. وما ان نشرت المجموعة باسمها الجديد "أزهار الشر" وكانت تضم اضافة الى قصائد معروفة ومنشورة لبودلير، مجموعة قصائد كان الشاعر نشرها من دون توقيع، معبراً فيها عن هيامه بسيدة المجتمع مدام ساباتييه، حتى ثارت العواصف في وجهه واتهم ب"المروق الأخلاقي"، وصودرت نسخ الكتاب. وعند نهاية المحاكمة، وضع الشاعر في السجن بتهمة "الإساءة الى الأخلاق العامة". وعلى اثر هذا كله اضطر بودلير الى إصدار طبعة جديدة من مجموعته، في العام 1861، اتت منقحة وسحبت منها ست قصائد كانت أثارت البلبلة. لكن هذه القصائد اضيفت لاحقاً وبعد عقود طويلة بحيث تشكل جزءاً اساسياً من الكتاب كما نعرفه الآن، وكما انتشر في العالم اجمع وصار قانوناً للشعر، شكلاً ومعنى، بحيث ان اي شاعر، خلال العقود المنهية القرن التاسع عشر والبادئة القرن العشرين، ما كان يمكنه ان يعتبر شاعراً حقيقياً إلا إذا سار على منوالها، وعلى منوال جوهرها الذي يمكننا الآن ربطه بالنزعة الرومانسية، تلك النزعة التي عرفت كيف تعطي الشاعر احساساً بالحرية مع احساس باللاجدوى وبالآفاق المسدودة امام الروح المتطلعة. ولعل الفقرة من "أزهار الشر" التي تعبر عن ذلك اكثر من اية فقرة اخرى، هي التي يقول فيها الشاعر: "إذ نهبط الى قاع الهاوية. هل يهم بعد ذلك كثير ان يكون المآل السماء أو الجحيم؟ الصيرورة هي الوصول الى عمق المجهول، بحثاً عن الجديد". ولد شارل بودلير، الذي ستصنع له "ازهار الشر" مكانته في مقدم الأدب الفرنسي والعالمي، في العام 1821. وكان في الخامسة حين فقد أباه، الذي كان يختلط بالأوساط الفنية ويمارس الرسم بين الحين والآخر. وشارل، ما ان انهى دراسته العليا، حتى طفق يعيش في باريس حياة بوهيمية طليقة، سنجده لاحقاً يعبر عنها في اشعاره، وبدأ يرتبط بصداقات مع اشهر أدباء وشعراء وفناني المدينة في ذلك الحين. وإذ قلقت أسرته من جراء ذلك بعثت به الى الهند حيث تجول لفترة، كما زار جزر موريس وجزيرة بوربون ليكتشف هناك - كما سيقول - جذور "الفراديس الاصطناعية" والأجواء الغرائبية. لكنه سرعان ما عاد الى باريس وبدأ ينشر قصائده متأثراً بقراءته لهوفمان وتيوفيل غوتييه واللورد بايرون. اما الاكتشاف الأكبر بالنسبة إليه فكان الكاتب والشاعر الأميركي إدغار آلان بو، حيث راح يترجم الى الفرنسية مجموعات من قصصه، في الوقت الذي كان يدافع فيه بحرارة عن موسيقى فاغنر التي كانت غير مرغوبة كثيراً في الأوساط المثقفة في زمنه. وكانت تلك المرحلة هي التي أُعقبت بصدور "ازهار الشر" والمحاكمة. ما أوقع بودلير في مزيد من كآبة ويأس ظلا مسيطرين عليه طوال الأعوام العشرة التالية، وحتى رحيله في العام 1867 وهو بعد في السادسة والأربعين. وطبعاً لم يكن "أزهار الشر" كتاب بودلير الوحيد، إذ انه أصدر خلال حياته "الفراديس الاصطناعية" و"ريتشارد فاغنر وفانهاوزر" و"قصائد نثرية صغيرة" الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لشعر النثر.