كان شارل بودلير، الشاعر الفرنسي الشهير، قد مات منذ زمن طويل، حين حقق في الأول من حزيران يونيو 1949، أكبر انتصار في مساره الشعري. اذ ان القضاء الفرنسي اصدر في ذلك اليوم الذي لن ينساه محبو الشعر بعد ذلك ابداً، حكمه بأن يعاد الاعتبار لمجموعة "أزهار الشر" التي كان حكم آخر صدر في العام 1857 "قلم أظافرها" وانتزع منها ستاً من أجمل قصائدها، كما قال النقاد على الدوام. كان على "أزهار الشر" أن تنتظر اثنتين وتسعين سنة، قبل أن تصدر مكتملة، وبأمر واضح من القضاء الفرنسي. وشارل بودلير الذي كان قد رحل عن عالمنا في العام 1867 وهو غير دارٍ أبداً بالمصير الذي سيكتبه التاريخ لمجموعته الشعرية الأساسية كان عليه أن "ينتظر" بعد موته 82 سنة قبل أن يرقد، أخيراً، مطمئناً راضياً. صحيح انه لا يزال هناك حتى اليوم من يرى في "أزهار الشر" مجموعة من الشعر الاباحي الذي لا يجوز أن يطلق من عقاله وأن يقرأ بحريّة، ومن المعروف ان معظم الطبعات التي صدرت فيها المجموعة طوال ما يقرب من مئة عام، ومعظم الترجمات التي تحققت لها الى اللغات الأخرى، ومنها بالطبع اللغة العربية التي نقلت اليها أشعار "أزهار الشر" مرات عدة، انطلقت كلها من الطبعة المنقوصة التي كان القضاء الفرنسي تدخل لجعلها هي الطبعة المتداولة. منذ بداية اربعينات القرن الفائت كان شارل بودلير بدأ يشتغل على مجموعته الشعرية تلك، والتي كانت في الأصل تتألف من خمسة أقسام تضم مئة قصيدة، وكان بودلير يرى أن تلك القصائد انما تلخص شعره كله، وانه اذا صدرت مجتمعة على النحو الذي يرتئيه، لن يكون في حاجة لأن ينشر أية أشعار أخرى. وبالفعل اكتملت المجموعة بعد عمل وجهد دام خمسة عشر عاماً. وصدرت في طبعة أولى يوم 25 حزيران يونيو 1857، عند الناشرين "بوليه - مالاسي" و"برواز". خلال الأيام الأولى التي تلت صدورها، لم يقبل القراء بالطبع على شراء المجموعة بشكل جنوني. كان مصيرها في ذلك الحين مصير أية مجموعة أخرى: يشتريها هواة الشعر وهم نادرون، ويقرأونها في ما بعد، أي حين تتيح لهم أوقات فراغهم ذلك. أما إذا قرر النقاد أن يكتبوا عنها فلن تكون الكتابة الا بعد أسابيع وربما بعد شهور. كان ذلك هو المصير الطبيعي لأي عمل شعري. ولكن، كما أن خصوم الشيء هم الذين، في أغلب الأحيان، يحددون له مكانته، نشر في صحيفة "الفيغارو"، وبعد ثلاثة أسابيع فقط من صدور "أزهار الشر" مقال عنيف ضدها يتهمها بالإباحية حمل توقيع شخص شبه مجهول يدعى غوستاف بوردين. وهكذا انتقلت "أزهار الشر" من حالتها كمجموعة شعرية الى قضية عامة، اذ ان المقال سرعان ما فعل فعله، وفي الوقت الذي كان فيه مئات، وربما ألوف القراء يتدافعون لشراء المجموعة في طبعتها تلك وقراءتها، بحيث اصبح بودلير بين ليلة وضحاها أشهر شاعر في فرنسا، في ذلك الوقت كان القضاء قد أمسك بالقضية وأمر بمصادرة النسخ الباقية من "الأزهار" الشريرة في المكتبات. ثم بعد مداولات صدر الحكم: يعاد نشر المجموعة شرط أن يمحو الشاعر منها ست قصائد هي الأكثر اباحية ولا أخلاقية في المجموعة. واضافة الى ذلك فرضت على الشاعر وناشريه عقوبات ماليّة ضخمة. ومنذ ذلك الحين اضحت "أزهار الشر" مجموعة شعرية ملعونة، حتى بصيغتها المخففة، وستظل تلك حالها الى أبد الآبدين. مهما يكن فإن المجموعة، وقد اقتطعت منها القصائد المدانة، عاشت حياتها بعد ذلك، إذ فور صدور الحكم صدرت منها طبعة ناقصة كما أمرت المحكمة، وفي العام 1861 صدرت، في بروكسيل، الطبعة الناقصة ولكن بعد أن اضيفت اليها خمس وثلاثون قصيدة جديدة. وفي العام 1868 صدرت طبعة أخرى، وذلك في العام التالي لموت شارل بودلير، وهذه الطبعة الجديدة التي أشرف عليها ثيوفيل غوتييه الكاتب الذي كان بودلير أهدى اليه المجموعة الأصلية، سميت ب "الطبعة النهائية" اذ اضيفت اليها خمس وعشرون قصيدة أخرى سبق ان طبعت سراً في بروكسيل. ومنذ ذلك الحين ظلت الطبعة الأخيرة هي المعتمدة، حتى كان الأول من حزيران 1949 حيث صدر حكم المحكمة باعادة القصائد المنتزعة الى المجموعة. وتم ذلك بناء لطلب تقدمت به "جمعية أهل القلم" استناداً الى قانون كان صدر يوم 26/9/1946 استخدمته المحكمة لتعيد الى المجموعة التي يعتبرها تاريخ الشعر "فاتحة الشعر الحديث" في العالم، صورتها الأولى التي شاءها لها مؤلفها الصورة.