الأمر يبدو أكثر من مصادفة تاريخية: فقد تزامنت بالضبط تقريباً الذكرى السنوية ال 14 لاغتيال اسرائيل القائد الفلسطيني من فتح خليل الوزير أبو جهاد الذي كان يعتبر راعي انتفاضة 1987، مع اعتقال مروان البرغوتي، أبرز قادة الانتفاضة الحالية. هذا التوافق الزمني يشكل تعبيراً عميقاً عن استمرارية الحركة الفلسطينية، التي نجحت في الصمود أمام الموجات الاسرائيلية المتتابعة من الغزو والقمع والمجازر. فهناك دوماً جيل جديد يتقدم ليأخذ مكان الذين يسقطون في ساحة الكفاح، ولا تجد اسرائيل أمامها مرة بعد مرة سوى حركة وطنية فلسطينية متجددة تواصل التحدي. لكن الكلام هنا ليس عن الماضي بل عن الحاضر والمستقبل. فمع كل ضربة اسرائيلية جديدة، كل اغتيال أو حصار أو مجزرة، تلد المقاومة الفلسطينية رموزاًً جديدة. وها هو الآن مخيم اللاجئين في جنين ينهض رمزا للانتفاضة، فيما يرى العالم في أوجه الفلسطينيين المحاصرين في مدنهم وقراهم الرفض المطلق للخضوع. أما عرفات المحاصر في قبوه فيقف اليوم أشمخ وأرفع كرامة وأقوى تمثيلاً للفلسطينيين مما كان عليه خلال أي من زياراته للبيت الأبيض. لقد انتهت مرحلة "الترتيبات الأمنية" والاتفاقات الموقتة، ولن يقبل الفلسطينيون بعد الآن بأشكال الاخضاع هذه. واذا كان الأميركيون والاسرائيليون لم يفهموا هذه الرسالة بعد - وهناك ما يشير الى انهم يتعامون عنها - فهي واضحة بما لا يقبل الشك: لقد عاد الفلسطينيون، خصوصاً اجيالهم الجديدة، الى الجذور، الى الصراع ضد الكولونيالية. ان الاحتجاجات التي نظمها الفلسطينيون في انحاء العالم، والنشاط التنظيمي الواسع خلفها، تقوم على وعي جماعي متجدد بحق ذلك الشعب المستلب المشرد في وطنه. وانتظمت اجيال جديدة من الفلسطينين، من بينها حتى من لم يتح له تعلم لغته الوطنية، في حركات عبر القارات تطالب بحقوقها المهدورة، رافضة الانصياع للمشروع الأميركي - الاسرائيلي الداعي الى التواطؤ مع نظام كولونيالي يقوم على العزل العنصري. لكن هذه الحركات التي تركز على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة - حركة "العودة" هي الأشهر في الخارج - هي امتدادات لظاهرة أكبر نمت تحت أنف الاحتلال الاسرائيلي. انها قصة فشل اسرائيل من خلال أوسلو والاتفاقات التي تلت في شرذمة الفلسطينيين وتحجيم قضيتهم لكي لا تتعدى مشكلة مجموعة سكانية يجب حصرها والسيطرة عليها ضمن الحدود التي تريدها اسرائيل. المفارقة هي ان سياسة اسرائيل، المدعومة من أميركا، لاخضاع الفلسطينيين واجبارهم على التنازل عن احلامهم وانسانيتهم كانت بالضبط ما اعطى دفعة قوية لوعيهم بهويتهم. وكانت اسرائيل والولايات المتحدة اعتبرتا الاتفاقات الجزئية وسيلة لارجاع الهوية الفلسطينية من مستوى شعب أصلي مسلوب في أرضه وفي الشتات الى مجموعات سكانية صغيرة ومتفرقة في الضفة الغربية وغزة. وسعى هذا المشروع القصير النظر الى انهاء تحدي الفلسطينيين لسلبهم من قبل اسرائيل في 1948 ثم 1967. وقام هذا الموقف على افتراض ان التركيز على الاتفاقات والترتيبات في الضفة الغربية وغزة سيعفي القيادة الفلسطينية من مسؤولياتها تجاه المجموع الفلسطيني الأوسع. وضمنت اسرائيل والولايات المتحدة في هذا السياق جعل أمن اسرائيل القوة الدافعة لكل مفاوضات، وحتى للتسوية الدائمة. ودارت العملية كلها، كما برهن المسؤولون الأميركيون والاسرائيليون، على محور واحد، هو انهاء "التهديدات الأمنية" لاسرائيل، وليس الاعتراف بحقوق الشعب المسلوب. هذه هي العقلية والسياسة التي أحبطت في النهاية اهداف اسرائيل، لانها ادت، عكس المطلوب، الى اعادة اشعال الوعي الجماعي والتصميم على المقاومة. واذا كان اليسار الفلسطيني وعدد من المثقفين عارضوا اتفاقات أوسلو لاستبعادها الاستقلال فإن تبلور التحرك الشعبي تطلب وقتاً أطول. انطلقت هذه الحركة من مخيمات اللاجئين، حيث جذور القضية. وبدأ اللاجئون في المخيمات داخل وخارج فلسطين في تنظيم أنفسهم منذ 1995، في نشاط يذكّر بالمراحل الأولى من تشكيل حركة المقاومة الفلسطينية بعد 1948 . وتنامت الحركة ببطء لكن بثبات مع تزايد خطر عزل السكان في وطنهم في كنتونات متفرقة، وتلاشيهم في النهاية كلاجئين بلا جذور، وضاعف من هذا الخطر تزايد وتيرة الاستيطان. وكان فلسطينيو اسرائيل رحبوا بعملية السلام أول الأمر، لكنهم وجدوا بالتدريج انها تهدد كفاحهم من أجل المساواة والحقوق الوطنية. ذلك ان عدم اعتراف اسرائيل بحقوق الفلسطينييين الوطنية يسرى أيضا على مواطنيها الفلسطينيين ويحولهم الى غرباء في وطنهم. خلال ذلك استمرت التفاوضات في انقطاع كامل عن الحركة الشعبية المتصاعدة. وفي نيسان أبريل 2000 شكّل الفلسطينيون وأنصارهم الأميركيون حركة "العودة"، بعد مؤتمر دولي نظمه في بوسطن "معهد الأبحاث لعموم العالم العربي". وكان ذلك من بين مظاهر الطرح المتزايد لقضية العودة، التي أصبحت محورا للنشاط الفلسطيني في كل مكان. هكذا بحلول تموز يوليو 2000 عندما حاول رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك اجبار ياسر عرفات على التخلي عن حق العودة، جاء ذلك ليعبر إما عن انكار الاسرائيليين ومسانديهم الأميركيين لحقيقة تطورات الوضع الفلسطيني أو احتقارهم لها. اذ لم يكن عرفات في قمة كامب ديفيد يمثل فلسطينييالضفة الغربية وغزة فحسب بل الشعب الفلسطيني بأسره: الشعب الذي بدا في المراحل الأولى من أوسلو في حال من التراجع والتشرذم، ثم بدأ بالنهوض ردا على رفض اسرائيل وأميركا الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. وكان على عرفات ان يحصل في تلك القمة على الاستقلال والحقوق الوطنية، من ضمنها حق العودة. لكن اسرائيل لم تعرض شيئاً من هذا. واتضح ان تصور اسرائيل لدولة فلسطينية لا يتجاوز ان يكون نسخة جديدة من النموذج الكولونيالي المعروف: كيان من أربعة معازل متفرقة من دون سيطرة على المجال الجوي أو المياه أو الحدود - أي لا استقلال أو سيادة أو دولة. هذا "العرض الاسرائيلي السخي" السيء الصيت الذي قدمه باراك في كامب ديفيد كان نقطة التحول الحاسمة التي أسقطت كل الأوهام عن عملية أوسلو واعادت توحيد الوعي الفلسطيني بالمصير المشترك. وكان التأثير الأهم للموقف الاسرائيلي الأميركي تأجيج روح المقاومة في حركة فتح نفسها، وهي المرتكز الرئيسي لقوة عرفات و"عملية السلام". فقبل أقل من شهرين على اندلاع الانتفاضة الثانية أعلن مروان البرغوتي، الذي كان وقتها الزعيم الأكثر نفوذا وشعبية في صفوف فتح بعد الرئيس عرفات، انها "انتفاضة معسكر السلام"، ما شكّل عملياً تأكيداً من فتح على موت "عملية أوسلو" والعودة الى المقاومة. وأكد لي مروان البرغوتي لاحقا في حديث ان لا عودة الى وصفة كامب ديفيد. أعطى نفوذ فتح ومكانتها التاريخية وحجمها دفعة حاسمة لروحية المقاومة الجماعية التي كانت أصلا قد بدأت في الانطلاق. وهكذا فإن الهيكل التنظيمي الأساسي لفتح، عكس التوقعات الأميركية والاسرائيلية، وحتى بعض الفلسطينيين، حافظ على جذوره الشعبية بالرغم من كل القيود التي فرضتها عليه الاتفاقات المتوالية. وأنعشت عودة فتح الى موقعها القيادي كل مجموعات منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تتوقف عن النشاط التعبوي والتنظيمي خلال تلك الفترة الصعبة من الاتفاقات، الأمنية الطابع عموما. كما وجدت الانتفاضة الداخلية تجاوباً وامتداداً قويين من تنظيمات الشتات الآخذة في البروز. ثم اكتمل التحام الحلقات الثلاث التي يتكون منها المجموع الفلسطيني عندما ضم فلسطينيو اسرائيل صوتهم الى الانتفاضة عن طريق اعمال الاحتجاج والنشاط السياسي، بالرغم من القتل والقمع علي يد اسرائيل. واكتسب الالتحام مزيداً من القوة بفضل حملة شارون الوحشية، الهادفة ليس الى اخضاع الشعب الفلسطيني فحسب بل الى القضاء المبرم عليه. لقد اغتالت اسرائيل أبو جهاد، رمز الانتفاضة الأولى، لكن ذكراه لا تزال تلهم فلسطينيي الانتفاضة الثانية. واعتقلت البرغوثي لكنه، على رغم الضربة التي وجهها الاعتقال للحركة الفلسطينية، يبقى مثلا في الشجاعة لدى الجيل المقبل من القادة الفلسطينيين. هكذا فان اسرائيل، خصوصا شارون، تخلق قادة جددا لن ينتظروا "عروضاً" أميركية أو اسرائيلية، بل سيطرحون بقوة وثبات مطالبهم الوطنية. * كاتبة فلسطينية.