تحتل جائزة الملك فيصل العالمية في قلوبنا - نحن الأكاديميين- مكانة خاصة، لا لأنها من الجوائز ذات القيمة المادية الكبيرة فحسب، ولكن لكونها أيضاً أول جائزة عربية إسلامية تمكنت في زمن قياسي من الوصول إلى العالمية فعلاً، والتقينا بفضلها في الرياض ثلة من أجلّ العلماء، لم نكن لنحلم بلقائهم والاستماع إليهم والاستمتاع بمحاضراتهم التي يسافر إليها الآخرون. وقد أسعدتنا مؤسسة الملك فيصل الخيرية، من خلال احتفالاتها السنوية بتوزيع الجائزة، بليالٍ نادرة تتجلى فيها هيبة العلم وتواضع العلماء ويقدّر فيها الحاكمُ العالمَ، وتزدحم الخواطر بذكريات الماضي البعيد، عندما كانت الدولة الإسلامية تتقدم العالم في مختلف فروع العلم والمعرفة والأدب والطب والعلوم والفنون والمعمار. رغبت منذ فترة طويلة في كتابة خواطري عن هذه الجائزة ولكنني كنت أؤجل الكتابة بسبب المشاغل الكثيرة، ولمناسبة الاحتفال بمنحها شعرت بأن الوقت حان للتعبير عن تلك الخواطر، لعلي بذلك أفي، ولو بقليل من واجب أكاديمي متابع لمسيرة هذه الجائزة العظيمة عن كثب، وأستميح القارئ عذراً بأنني سأركز على جائزتي الطب والعلوم لكونهما الأقرب إليّ بحكم تخصصي، ولعلّ بعض الأخوة من المفكرين والأدباء يجدون في ما أكتبه حافزاً للكتابة عن الجوائز الأخرى، فهي وسام على صدورنا ومصدر فخر واعتزاز لنا جميعاً. انقضى ربع قرن على تأسيس جائزة الملك فيصل العالمية، واستطاعت منذ السنوات الأولى لإنشائها أن تحقق مكانة طيبة بين الجوائز العالمية، ولفت نظري ما تجده من اهتمام خاص لدى الجامعات والمؤسسات التعليمية العالمية الكبرى. وهو اهتمام نابع - في تقديري - من كونها جائزة عربية إسلامية. والدليل على ذلك أن من يتأمل كلمات الفائزين بها في مجال الطب والعلوم - ومعظمهم من غير المسلمين - يجد أنهم يعبرون عن اعتزازهم الخاص بها على رغم فوزهم بعشرات الجوائز الأخرى، ولم يفتهم ذكر الدور الرائد لعلماء المسلمين في تطوير الطب والعلوم، مما يثلج الصدور حقاً. من ناحية ثانية، قد يتساءل البعض: كيف تكون الجائزة في الطب والعلوم إسلامية إذا كان معظم الفائزين بها من غير المسلمين؟ والواقع أن المقياس الحقيقي الذي يحدد هوية هذه الجائزة في نظري هو موضوعها. فمعظم الموضوعات الطبية التي منحت من أجلها تخص المجتمعات الإسلامية في المقام الأول وبلدان العالم الثالث عموماً، مثال ذلك الرعاية الطبية الأولية والملاريا والبلهارسيا والتراخوما وعمى الأنهار وإسهالات الأطفال والتهابات الكبد الوبائية ومكافحة الأمراض المعدية. بل إن مرض الإيدز قد أصبح طاعون أفريقيا بمجتمعاتها المسلمة وغير المسلمة أكثر من كونه مرضاً خاصاً بالغرب. وهنا يبرز فارق رئيس بين جائزة الملك فيصل العالمية وجائزة نوبل في الطب مثلاً. فجائزة نوبل الطبية تركز على التقدم التقني ولا تعير اهتماماً للأمراض التي ذكرنا على رغم أنها تفتك بالملايين، وهذه هي القيمة الحقيقية لجائزة الملك فيصل العالمية. على أن هذه الجائزة لا تهمل الجوانب التقنية والطبية الحديثة لما لها، أو ما سيكون لها مستقبلاً، من انعكاسات على الصحة العامة في المجتمعات الإسلامية، فقد منحت في الطب في موضوعات تقنية متقدمة كاستخدامات الهندسة الوراثية في الطب والتطورات الحديثة في علوم المناعة الجزيئية، كما منحت أيضاً في موضوعات تهم المجتمع الطبي في العالم بأسره، مثل داء السكري وتدني الخصوبة ولوكيميا الأطفال وأمراض القلب والشرايين. وفي هذه المناسبة يجدر أن نذكّر بأن أمراض القلب والشرايين أصبحت، في معظم الدول الإسلامية، تهديداً أكبر بكثير عما كانت عليه سابقاً، وذلك بسبب التغييرات في طرق حياتنا وغذائنا، ويتوقع العارفون بالأمر أن تصبح أمراض القلب والشرايين خلال العشرين عاماً المقبلة أشبه بالوباء العالمي الذي لا يفرق بين مجتمع غربي أو شرقي. وهذا أمر ربما تطرقت إليه لاحقاً، فما يهمني هنا هو التركيز على المشكلات الطبية المتفشية في المجتمعات الإسلامية والفقيرة في دول العالم الثالث، والتي وجدت اهتماماً خاصاً من جائزة الملك فيصل العالمية. وسأحاول بيان أهميتها للقارئ الكريم وتعريفه بالدوافع التي كانت، في ما يبدو، وراء اختيارها موضوعات للجائزة، إضافة إلى ذكر ملامح إنجازات الفائزين بها، ومدى افادة المجتمعات الإسلامية والبشرية عموماً. وسأبدأ بالحديث عن موضوع مكافحة العمى، الذي من أجله منحت جائزة الملك فيصل العالمية في الطب لعالم بريطاني هو الدكتور باري رسل جونز، وذلك لدوره الرائد في مكافحة مرضي التراخوما وعمى الأنهار، وهما أهم سببين للعمى في العالم، فمرض التراخوما يصيب أكثر من مئة وخمسين مليون شخص في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وغيرها وقد تسبب في إصابة ستة ملايين بالعمى، ويهدد خمسمئة وأربعين مليوناً آخرين بالعمى أو بالخلل الشديد في الإبصار، وهو متفشٍ في كل الدول العربية والإسلامية، وموجود في المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ويسببه ميكروب دقيق سريع الانتشار يؤثر، في شكل خاص، في الأطفال في المجتمعات الفقيرة والمزدحمة، وساهمت بحوث الدكتور جونز في توضيح هذا المرض وعلاجه وساهمت بدور بارز جداً في مكافحته. أما عمى الأنهار - ويسمى أيضاً عمى نهر الجور- فمتوطن في 36 دولة أفريقية، بما فيها السودان وعدد من المجتمعات الإسلامية في غرب أفريقيا، وفي جنوب الجزيرة العربية "اليمن" وغيرها من المناطق. ويسبب هذا المرض طفيلي ينقله الذباب الأسود الذي تكاد تستحيل مكافحته في مساحات شاسعة في أفريقيا، ولم يكن يعرف له علاج فاعل، وظل يصيب قرى بأكملها حتى أصبح جميع سكانها من العمي. أما الموضوع الثاني الذي خصصت من أجله إحدى جوائز الملك فيصل العالمية في الطب، كما ذكرت سابقاً، فهو مرض البلهارسيا الذي يتوطن في 74 دولة نامية، بما في ذلك كل البلدان العربية والإسلامية تقريباً، اذ يصيب نحو 200 مليون شخص، أي واحد من كل ثلاثين شخصاً في العالم، كما يهدد بإصابة 600 مليون آخرين، ويؤدي سنوياً إلى حدوث مضاعفات خطيرة كتليف الكبد ودوالي المريء وبعض الأمراض الخبيثة عند نحو 20 مليون شخص يموت منهم كل عام 800 ألف. إن هذا المرض لا يوجد في الدول الغربية، ولكن لا أظن أن أحداً لا يعرف مدى أهميته في بلاد كمصر والسودان، كما أنه موجود في العراق وسورية وفلسطين والمملكة العربية السعودية واليمن وغيرها. وقد عرفه قدماء المصريين منذ آلاف السنين، كما عرفه سكان الجزيرة العربية منذ القدم كمرض ينتشر في الواحات. وهناك ستة أنواع من طفيليات البلهارسيا التي تصيب الإنسان لا ثلاثة كما يعتقد الكثيرون، اضافة الى اثني عشر نوعاً تسبب المرض في الحيوانات الزراعية والبرية، عدا عن الأنواع الكثيرة من بلهارسيا الطيور التي تسبب يرقاتها التهابات الجلد. إن البلهارسيا تسبب معاناة شديدة للمرضى لما تحدثه من تلف في الكبد والأمعاء والمثانة البولية، ولا تترك حتى البنكرياس والرئتين والدماغ والرحم وبقية أعضاء الجسم الأخرى. وقد يتبع ذلك مضاعفات شديدة في بعض الأحيان، ويكفي أن نذكر أن نسبة سرطان المثانة البولية بين المصابين بداء البلهارسيا أكثر بثلاثين ضعفاً منها عند غيرهم. كما يبلغ معدل الإصابة بطفيليات البلهارسيا بين الأطفال في بعض الدول الإفريقية أكثر من تسعين في المئة، وقد اتضح أنها تؤثر بدرجة كبيرة في تحصيلهم الدراسي، كما أنها تؤثر أيضاً في قدرة العمال الزراعيين على الإنتاج لما يصحبها من هزال وإعياء، ما يسبب خسارة اقتصادية قد تتجاوز بلايين الدولارات سنوياً، لا شك في أن الدول النامية في أشد الحاجة إليها. وأحسن المسؤولون في جائزة الملك فيصل العالمية باختيارهم هذا المرض البالغ الأهمية من النواحي الصحية والاجتماعية والاقتصادية كأحد موضوعات الجائزة في الطب. وقد نال الجائزة في هذا الموضوع عالم فرنسي مرموق يدعى أندريه كابرون وآخر بريطاني يدعى أنتوني بتروورث، وهما اسمان يعرفهما جيداً كل من يبحث في مجال البلهارسيا. وهما أمضيا سنوات طويلة يدرسان الجوانب الوبائية والمناعية لهذا المرض، من أجل التوصل إلى لقاحات للوقاية منه. فالعلاج الكيماوي لا يكفي إذ سرعان ما يصاب المريض مرة ثانية بعد علاجه، كما أن المبيدات المستخدمة للقضاء على القواقع الناقلة للمرض لم تنجح في الحد من انتشاره، بل على العكس تشير كل الدلائل إلى أن مشكلة البلهارسيا آخذة في التفاقم بسبب التوسع الزراعي ومشاريع حفظ المياه التي تقيمها الدول النامية لتوفير الغذاء لمواطنيها ورفع مستوى معيشتهم. وتسببت هذه المشاريع في توطن المرض في مناطق جديدة لم يكن يعرف فيها من قبل. وساهمت الدراسات التي أجراها كابرون وبتروورث في تذليل كثير من العقبات التي كانت تعوق المساعي الجارية لإنتاج لقاحات ضد هذا المرض، وبدأت بشائر ذلك الجهد تظهر من خلال التجارب الميدانية للتحصين ضد البلهارسيا في الحيوانات في كل من السودان والصين تمهيداً لتطوير لقاحات مماثلة في الإنسان. كذلك تجري حالياً دراسات مكثفة للتحصين ضده في مصر. وقد لا يمر وقت طويل قبل أن نرى هذه اللقاحات وقد أصبحت تستخدم لوقاية الإنسان. أليس من حق جائزة الملك فيصل العالمية أن تفخر بمشاركتها في تكريم مثل هذه الإنجازات الباهرة وتشجيعها؟ * كلية الزراعة - جامعة الملك سعود