في الذكرى الخمسين لانتهاء الثورة الجزائرية، عادت قضية الجزائر الى المعترك الثقافي سواء في الجزائر بلاد المئة مليون شهيد أم في فرنسا التي لعبت دور المستعمر طوال عقود. وفي الذكرى الخمسين هذه أعادت الصحافة الفرنسية والجزائرية قراءة القضية الجزائرية من وجهات مختلفة. وبينما تتهيأ فرنسا لاحياء سنة الجزائر في العام المقبل، تبدو الجزائر غارقة في شجونها الداخلية. لم يحدث ان واجه رجل ما الثقافة كما فعل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة مساء يوم الثلثاء 12 آذار مارس الماضي. صحيح ان الثقافة في الجزائر لم تكن من أولويات كل رؤسائها منذ الاستقلال - الأمر الذي يفسّر الارهاب في نظر بعض المثقفين - ولكن ما حدث في ذلك اليوم يخرج عن نطاق المواجهة الثقافية التقليدية المعروفة في البلدان العربية بدرجات متفاوتة! مساء ذلك اليوم... لم يقصد الرئيس بوتفليقة مواجهة الثقافة بقرار ينص مثلاً على سجن هذا المثقف أو ذاك أو مصادرة كتاب - ولو ان كتاب هشام عبود "مافيا الجنرالات" غير موجود في الأسواق الجزائرية - أو ملاحقة الفنان فرحات مهنا المعروف بدعوته الى الاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل أو توقيف جريدة "ليبرتيه" الفرنكوفونية التي نشرت كاريكاتير الوسام ديلام الذي يبين ان بعض الجنرالات قرروا اغتيال بوضياف! ما يحدث في الجزائر ثقافياً يؤكد ما سبق ان قلته في مقال سابق وينفيه في آن. زرت الجزائر اخيراً متلبساً ولاعباً دور المحاضر العصري والقاضي على صورة المحاضر التقليدي الذي زار الجزائر في السبعينات وأدهش أمثالي - المراهقين - يومها - ببطنه المنتفخ ونظاراتيه السميكة ولغته العربية الفصحى والخشبية" وإلقائه المطول المنوّم الى أجل غير مسمى! لماذا واجه بوتفليقة الثقافة مساء احياء الامازيغية! والمطلب الثقافي الذي ما زال يمتزج بالصراع السياسي والايديولوجي في شكل لم تعرفه الجزائر منذ الاستقلال؟ فرض هذا السؤال نفسه عليّ صباح الثلثاء التاريخي وأنا انتقل من مقر جريدة الى اخرى "لأتوسّل" شخصياً و"أرغم" الزملاء القدامى والجدد عدم التضحية بالمحاضرة التي ألقاها كاتب هذه السطور في قاعة الموفار بدعوة من مركز الثقافة والاعلام التابع لوزارة الثقافة. فعلت ذلك تحت وطأة مانشيتات كل الجرائد العمومية والخاصة - حتى لا أقول المستقلة - التي أفرزت وضعاً صحافياً غير مسبوق في تاريخ التغطيات. لم أقع أسير الرعب المفروض لأنني كنت انتظر حضور السياسيين بحكم موضوع المحاضرة - "رؤية عن" ايلول سبتمبر - وكنت أعرف مسبقاً ان كل قادة الاحزاب بمم فيهم قادة الاحزاب الإسلامية سيفضلون خطاب الرئيس بوتفليقة أمام ممثلي "العروش" البربر عبر الحرب الشرسة القائمة بين بن لادن الذي يفترض أنه قتل في أفغانستان وبوش الذي يستعد كما يقال لضرب دول "محور الشر" المحسوبة هي الاخرى على الارهاب! للأسف خطب الرئيس بوتفليقة لحظة ظهور كاتب هذه السطور في قاعة الموفار أمام جمهور مشكل من بعض "مرضى" الثقافة وطلبة الجامعة وصحافيي بعض الجرائد وأصدقاء وصديقات كاتب هذه السطور علاوة عن اشقائه وأمه وحماته!! مساء احياء بوتفليقة للأمازيغية واعترافه بها كلغة وطنية الى جانب اللغة العربية لم يكن كاتب هذه السطور الشخصية الوحيدة التي راحت الحدث السعيد على حد تعبير المؤرخ الجزائري الكبير والمتمرّد محمد حربي: "أنا سعيد لكن لا أعتقد ان الجراح ستنغلق عن قريب"، وكثيرة هي النشاطات الثقافية التي برمجت مساء خطاب الرئيس ولم يحضرها إلا "مرضى" الثقافة كما قلت. ما زال الكثير من المثقفين التقدميين والقوميين والمتعاطفين مع الاصوليين لئلا أقول الاصوليين الجدد والليبراليين المعربين والفرانكوفونيين على السواء يجرون وراء المناصب السياسية والاحزاب المتاجرة بالثورة والشهداء والارهاب والمزكية للحكم العسكري بدل الديموقراطية خشية على مصالحها وليس دفاعاً على الجزائر وحمايتها من الاصوليين. هذا النوع من المثقفين والاعلاميين الذين تحوّلوا الى نواب في مجلسي الشعب والأمة توقفوا عن العمل الذي قالوا عنه قبل أعوام قليلة انه مبرر وجودهم، انقطعوا عن الإبداع وأصبحوا يسخرون في الفنادق الفخمة من الثقافة بأنواعها كافة متهمين رؤساء الجمهورية الجزائرية ووزرائها المكلفين بالثقافة التضحية بالثقافة!! ولئلا يبدو كاتب هذه السطور ذاتياً وغارقاً في حسابات "شخصية" مع الرئيس بوتفليقة واتباعه من السياسيين والمثقفين الانتهازيين والقبليين والجهويين، أؤكد ان الكثير من الفنانين التشكيليين ومنهم صونيا برداسي وناديا رمضاني والمثقفين أمثال الكاتب محمد مبتول - الذي حاضر هو الآخر أمام جمهور يعد على الأصابع بمناسبة تقديم لكتاب "الجزائر في مواجهة تحدّي العولمة" - والمسرحيين وخاصة الشبان منهم قد راحوا ضحية تاريخ كامل وعريق من العقم الثقافي الناتج من حكم سياسي أفرغ التنمية من توازنها المفروض والمطلوب اعتماداً أولاً وأخيراً على شيء يسمى الثقافة في كل الأماكن والأزمان. ولئلا نربط التضحية بالثقافة من خلال اليوم الذي تسابق فيه المثقفون الانتهازيون على مأدبة الحكام بمناسبة الاعتراف بمطلب ثقافي قيل أنه وظّف لأغراض سياسوية جديدة... نضرب موعداً مع قراء "الحياة" من الآن لنتحدث عن شهيد بين ثقافيين تاريخيين راحا ضحية العقم الثقافي الخارج عن اطار مبرر المناسبات. انهما الروائي الكبير مولود فرعون والفنان المسرحي البارز عبدالقادر علولة، ولقد مرّت ذكرى اغتيالهما في صمت مطبق قبل تاريخ خطاب الرئيس بوتفليقة. معذرة سيادة الرئيس!!