في محافظة البقاع وقضاء عكار في لبنان بقية من منازل طينية، أكثرها متداعٍ خالٍ من سكانه، وبعضها لا يزال مأهولاً. ولا ريب في ان عدم إقدام اصحابها على هدمها، على رغم امتلاكهم مساكن اسمنتية، تعبير عن تعلق بالتراث لا يرقى - على اية حال - الى مستوى القيام بجهد منظّم للإبقاء عليها باعتبارها شيئاً موروثاً فحسب، بل - ايضاً - باعتبارها حلقة في سلسلة تطور العمارة في لبنان، ارتبطت بأنماط إنتاج زراعية حرفية، وارتبطت بعادات وتقاليد ومستوى تحضُّر واستقرار. والملاحظ ان بقاء المأهول من هذه المنازل الطينية مأهولاً مردّه الى فقر اصحابه وعجزهم المطلق عن بناء منازل اسمنتية بديلة. وأما المنازل المتداعية فمتروكة لعوامل التعرية الطبيعية تنحتها، أو لضرورات التوسع السكاني العمراني تزيلها. والوعي بقيمة هذه المنازل وعي فطريّ. إلا انه سرعان ما يصبح وعياً معقولاً حين تناقش المسألة مع اصحاب المنازل، إذ لا يندر ان يزورهم باحثون وطلبة جامعيون وصحافيون، يصورون، ويعاينون، ويطرحون اسئلة جدية، وهذا يتفق مع ملاحظة لاحظتها مديرة معهد الفنون في الجامعة اللبنانية الفرع الأول الدكتورة سمر مكي، في شأن قصور التنوخيين الباقية في بلدة عبيه. فقد قالت لنا - في مقابلة معها - ان الناس في عبيه يعربون عن احساسهم بالحرج حين يكتشفون ان العالم كله يهتم بمنازلهم فيما هم غير قادرين على صيانتها الى النهاية. المشكلة اكثر حدة في بلدة الفاكهة من البقاع الشمالي، فالمنازل الطينية هناك أقلّ مستوى، من وجهة معمارية، من منازل التنوخيين المبنية بالحجر والعقود والزخارف في بلدة عبيه... إن بقية المنازل الطينية في احياء مستقلة مهجورة، او بين المنازل الإسمنتية الحديثة لا تسمح بإجراء مقارنة إلا مع منازل من جنسها، منازل لها هندستها الخاصة، وتقنيات بنائها الخاصة، وعناصرها الوظيفية الخاصة. وإن نسيجاً طارئاً، يتداخل فيه المبنيُّ بالطين والمبنيَّ بالإسمنت، يشي بأنّ الضيعة كانت كلها مبنية بالطين وجذوع الأشجار، ثم طرأت عليها عوامل تحضر مفاجئة سريعة بفعل عوامل مفتعلة تتمثل في وجود طبقة ميسورة في منطقة البقاع سبب يسارها زراعة المخدرات والاتجار بها. فالفاكهة التي لم تشتغل بالمخدرات زراعةً أو إتجاراً، نعمت بأموال الميسورين التي نشَّطت، الى امس قريب، حياكة السجاد اليدوي، وقد كانت الفاكهة آخر معاقل هذه الحرفة في لبنان، قبل ان تنهار الحرفة جرّاء منافسة السجاد المنسوج آلياً، وجراء مكافحة زراعة المخدرات في المنطقة. والناظر في تكوين المنزل الطيني في بلدة الفاكهة يرى منزلاً ذا وظائف معقدة ارتبطت بنمطي انتاج كانا سائدين الزراعة والحرفة، وبعادات المجتمع الحرفي الزراعي، فالمنزل وحدة سكنية مستقلة تدخل في علاقات ارتفاق معقدة راسخة مع سائر الوحدات في الحي الواحد، وفي الضيعة كلها هي علاقات الارتفاق المعروفة في اي مدينة اسلامية، مع ملاحظة ان مادة البناء مستدركة من البيئة القريبة. ولئن تشابهت المنازل الطينية في الفاكهة، من بعض الوجوه، فإن المنازل المتداعية الباقية لا تخفي تمايزاً طبقياً بين السكان، يشي بذلك حجم المنزل وعدد طبقاته وما ألحق به من مرافق وحدائق. وعلى العموم، هو منزل مكعب الشكل، سقفه جذوع اشجار وتراب محدول بالمحدلة والماعوس، وفيه تنوع وظيفي في الغرف، بين وظيفة المهجع، ووظيفة المخزن، ووظيفة المطبخ الذي يتوزع بين الداخل والخارج، ووظيفة الحرفة، ففي الداخل مطبخ ومدفأة للتدفئة والطبخ، وفي الخارج تنور أو طابونة لإعداد الخبز، وهكذا... ويميز الغرف عموماً ارتفاع جدرانها، حيث تتسع الغرفة لنول الحياكة، كما يميز المهجع منها وجود "اليوك" الذي يُجمع فيه الفراش بعد استعماله، ووجود نافذة داخلية مقفلة لوضع جرة الماء والإبريق وسائر ادوات تخزين المؤونة. ولقد شكلت المنازل الطينية، خصوصاً في بلدة يونين البقاعية، منذ سنوات عدة، جاذباً لطلبة قسم العمارة في معهد الفنون التابع للجامعة اللبنانية الفرع الأول، بتوجيه من مديرة المعهد الدكتورة سمر مكي، وهي باحثة في هذا المجال، وقفت بعض بحوثها على المنزل الطيني. وترى الدكتورة مكي ان المنزل الطيني ظاهرة موجودة في العالم العربي، مشرقه ومغربه، وأنه موروث من بلاد ما بين النهرين، و"من حسنات العمارة الطينية قابليتها للتكيف مع المناخ المتبدل"، وتشير الى انها عرفت ايضاً في العمارة الفرعونية. هذا يؤكد واقعة الاحتكاك وتبادل الخبرات ما بين الأمم. ولكن كيف لنا ان نتصور افادة المهاجرين الأوائل الى الفاكهة مثلاً، من هذا الاحتكاك؟ أليس الأجدى ان ننطلق من واقعة التفاعل ما بين الساكن والبيئة الطبيعية التي احاطت به؟ - طبعاً... ثمة علاقة مباشرة... ثمة جدلية مستمرة ما بين الإنسان وأرضه. وأنا أنطلق من حقيقة ان العمارة الطينية هي عمارة وظيفية تتصل مباشرة بحاجات الإنسان، وبهذا المعنى هي لا تكون مستوردة... مع ذلك فالبيت الطيني في بلادنا بدأ متأثراً بالبيت الرافدي، ومتأثراً - جزئياً - بالبيت الفرعوني. ونحن نجد البيت الطيني في جبيل ابتداء من الألف الخامسة قبل المسيح، وقد شرعنا نرى الأعمدة الخشب في الداخل، وهي سبعة اعمدة: ثلاثة على حائط وثلاثة على حائط آخر، وفي الوسط عمود سابع سمي "عمود الحكمة"، ومنشأ التسمية ان السقف يبدأ في الانشطار ابتداء من ثلث المسافة، ولذلك سندوه ب"عمود الحكمة" هذا. ولكن هذا الاصطلاح يعزُّ على الساكن الفلاح... إنه "تنظير" من قبل "النخبة". - طبعاً، الناقد والمؤرخ هما من يطلق التعابير... المهم ان "عمود الحكمة" بقي في البيوت الطينية في لبنان والجوار... وقد أُخذ من شجرة تزرع بالقرب من منزل الأهل: يزرع الأب شجرة ويقول: هذه شجرة ابني فلان... يكبر الابن، وتكبر الشجرة لتصبح عمود بيته. هل شوى الساكن اللبناني بيته الطيني في مرحلة ما؟ - لا... فالشيّ كان في بلاد ما بين النهرين، وقد عرف ب"الآجر"... الفراعنة شووا ايضاً. نلاحظ ان البنّاء في الفاكهة لم يعقد سقف البيت الطيني... - عندما بنى طبقة واحدة لم يعقد... عقد عندما بنى طبقتين. لو نتحدث عن عناصر البيت الطيني من الداخل... - العمارة العالمية الحديثة تستند الى المضمون الوظيفي نفسه الذي لبيت الطين... ثمة ازرار تضغطها فتخرج لك من الجدران أسرة أو مطابخ. معنى ذلك ان الفلاح اللبناني سبّاق الى استغلال المساحات الأفقية والمساحات العمودية. - لقد استغلها الى أبعد الحدود، وكانت الغرفة عنده متعددة الوظائف... نتذكر "الكبكة" التي تتدلى من السقف، وهي لحفظ الطعام... في البيت كان ثمة ما سمّاه الفلاح "براداً"، وهو غرفة مستطيلة داخلية لحفظ المؤونة... كذلك جعل للعتبة وظائف مختلفة، وجعلها مرتفعة حيث يمر الهواء ويتجدد في الداخل.