ما الذي دهى السينما، وهوليوود بخاصة حتى تقع في فخ محاولة المطابقة بين حياة عالم الرياضيات الفذ جون ناش وشريط "عقل جميل" راسل كراو؟ هل لأنه، وبعد 11 أيلول سبتمبر 2001، أستُنفِذ الفيلم الوثائقي في أقوى حصونه، أي التلفزة، وأنكشف على انه مجرد رواية بصرية لوجهة نظر محددة؟ هل لهذا حدث في السنة نفسها ان صُنِع شريط عن قصة واقعية تروي حياة عالِم رياضيات مأزوم وغرائبي؟ هذا الفيلم يحاول ان يأخذ شرعيته من القول انه وثَّق لحياة ذلك العالِم! فهل معنى هذا ان ما لدينا هو أقصى ما يستطيع الفن السابع، الحيز الاسطوري للّعب والوهم والخيال، ان يكونه في مطلع الالفية الثالثة؟ الواقع وما بعده الفيلم مأخوذ من كتاب ألفته الصحافية سيلفيا نصار في العام 1988، وله العنوان نفسه، ونال جوائز عدة. وبعد عرض الفيلم سعت مجموعة من الصحف الفنية ومواقع كثيرة في شبكة الانترنت، الى الحصول على رأي الكاتبة في مدى التطابق بين الرواية والفيلم. وأفردت صحيفة من وزن "يو أس اي تو دي" صفحة خاصة، على موقعها على الشبكة الدولية للكومبيوتر للحديث عن هذا الامر بالذات. ووصل البعض الى التساؤل عن الشبه بين كراو والعالِم! ولكن، ما هي بالضبط اهمية ان يأتي الشريط "مطابقاً للواقع" أو مجافياً له؟ هل ان على السينما ان تكرر ما فعله التلفزيون بنشاط، في التخلي عن المخيلة لمصلحة ما يُسمى "الحياة الواقعية"؟ ولعل برامج من نوع "الكاميرا الخفية" وما اليها، هي نماذج لهذا النشاط الدؤوب. هذا النشاط الذي وصل الى ذروته في برنامج "لوفت شوري" الفرنسي الذائع الصيت. ففي هذا البرنامج، تُصَوِّر الكاميرات الخفية المبثوثة في منزل صغير، التفاصيل اليومية الكاملة لمجموعة من المتطوعين تعيش فيه. وتشمل التفاصيل كل شيء حميم، بل تبدو الحميمية المكشوفة أهم ما يجذب أعين المشاهدين. ولكن، كيف يمكن للحقيقة ان تبقى "حقيقية" بعد ان تتخلى عن أستار حميميتها وشفافية خصوصيتها، التي هي من مواضع صنع الحقيقة فيها؟ وتبدو هذه العلة مع السينما مضاعفة تماماً. ففي نضوب المخيلة، تصبح "الوقائع" مخرجاً سهلاً. ومثلاً، قيل عن القرن العشرين انه مُوَثَّق تماماً، وفي شكل لم تعرفه القرون التي سبقته، منذ بدأ الكتابة! اذاً، هناك فيض جاهز، وما على الكاميرات الا ان تدور. أهي مصادفة ان يرشح لمجموعة كبيرة من جوائز الاوسكار فيلم يباهي صُنَّاعهُ بواقعيته، في السنة نفسها التي أعلنت فيها صناعة تلفزة الخبر، من "سي ان ان" الى "الجزيرة"، ان ما تصوره هو "رؤيتها" الخاصة، وروايتها البصرية عن "الحقيقة"؟ أي مفارقة مؤلمة لفن كان جميلاً، وقوامه سحر الخيال وانفلات الابداع، والى الحد الذي قد يغري "الواقع" بتقليد مُتَخَيَّل الافلام. لم يقل فديريكو فيلليني، مثلاً، ان "روما" هي روما الحقيقية، لكنها هكذا كانت لديه! في السنوات الاخيرة، بدت هوليوود ميَّالة الى ركوب سهولة استعادة الماضي القريب، وعلى حدود الوثائقية، في افلام مثل "نيكسون" و"مالكولم اكس" و"فورست كامب" و"13 يوماً" و"علي" وغيرها. هذيان الشيزوفرينيا وهلاوسها يحكي فيلم "عقل جميل" قصة عالم الرياضيات جون جيروم ناش، الذي نال جائزة نوبل في العام 1994 عن انجاراته في مجال "نظرية اللعب".ووصفه بيان الاكاديمية السويدية يومها بأنه "ألمع عالم رياضيات في النصف الثاني من القرن العشرين". لكن الالسن في جامعة برنستون كانت تلوك لناش لقباً آخر: "شبح قاعة المكتبة"! فهو لم يكن مسجلاً في الكادر الاكاديمي للجامعة ولم تتبناه أي جامعة أخرى. ولم يكن حتى مسجلاً في "الاكاديمية الاميركية للعلوم"، ولا اسم له في موسوعة "من هو؟". في المقابل كان اسمه ملأ كتب الرياضيات وابحاثها. وقرأت أجيال من دارسي الرياضيات "معامل توازن ناش" و"حلول ناش في التفاوض" و"نظرية ناش - مرسير". وكانت انجازاته بارزة في حقول متعددة، من الهندسة الى الاقتصاد والاستراتيجيا وعلوم الكومبيوتر، و... نظرية اللعب. اما هو نفسه فكان مغموراً ومنسياً. وربما أعتبره البعض ميتاً! والحال انه بدلاً من ذلك حوّل حياته الخاصة انجازاً خارقاً. فقد استطاع ان يتغلب بنفسه على مرضه العقلي، بدعم لا يضارع من زوجته أليسيا وولاء نادر من زملائه من اختصاصيي الرياضيات في برنستون. وكان الاطباء قد شخصوا مرضه على انه "شيزوفرينيا بارانوية"، وهي من أقوى الاضطرابات العقلية والنفسية. وعلى هذه الصورة من تقاطع "العقل" و"نقيضه"، حاكت نصّار كتابها الذي أعاد الفيلم صوغه، ورواه على طريقته. يستهل الفيلم بمشهد ممتع. انها بداية العام الدراسي في العام 1948، في جامعة برنستون الاميركية، حيث تجتمع نخبة "الادمغة المتعطشة للعلم"، بحسب عبارة تتردد كثيراً في الفيلم. وتدور الكاميرا لتعطي جو نخبة العلم في أداء بصري متين. ففي موطن العلماء، يكون السابقون المبدعون أسطورة حية يقلدها الجميع. أحد "علماء المستقبل" اسمه "نيلز"، ونراه يحمل غليوناً ليقلد صورة عالم الفيزياء الشهير نيلز بور، الذي تقاسم جائزة "نوبل" في الفيزياء مع اينشتاين وأشرف على مشروع القنبلة الذرية. لكن تقليد هؤلاء الاساطين ينطوي على قسوة، فالكل يعلم ان الابداع هو في الفرادة، وليس في تقليد الآخرين. وعلى الجميع العيش مع هذا التناقض والعمل بمقتضاه. وتستدرج الكاميرا صورة شخص يبدو نافراً منذ اول لحظة. ويظهر كراو، وعيناه تتطلعان دوماً الى "مكان آخر"، كأنما تبحثان عن مجهول لا يعرفه الا صاحبهما. انه يحس ويقول انه الافضل، ولا يقلد أحداً. أنه يهجس بأنه سيبدع ما لم يصل اليه أي عقل قبله. ويدخل الى غرفته صديق اسمه هيرمان بول بيتاني. وسرعان ما يتحرر الصديق من ملابسه، بينما يبدو كراو مرتبكاً. هل حاول الفيلم ان يقول ان العالِم كان "مثلياً"؟ فالحال ان كراو يظهر لاحقاً وكأنه يعاني مشكلة في علاقته مع الجنس الآخر، ويتلقى صفعة على الوجه جزاء فقدان الدراية في مقاربة الاناث. وعلى اي حال، ينجح الفيلم في تفادي الدخول الى مثل هذه القناة الضيقة. صديق داخل العقل وسنستعيد علاقته بهيرمان مراراً وتكراراً في الفيلم. فالحال ان هذا الصديق لا وجود له الا في عقل كراو. لا يراه أحد غيره، ولا يعرفه احد سواه، ولا يظهر اسمه في كشوفات الجامعة، ولا يتحدث الا اليه. انه نموذج لما يسميه الطب النفسي هلوسة، وبالاحرى هلوسة مركبة Complex Hallucination، وستزداد تعقيداً وتركيباً مع مرور الوقت. وهنا نصل الى نقطة يمكن ان يفتح النقاش عن "واقعية" الفيلم فيها. والحال ان هذا ليس عصياً على المساءلة في هذه النقطة بالذات، على رغم كل الضجيج المثار عن "مطابقة" الفيلم قصة العالِم ناش! ففي سيرته الذاتية المدونة على موقع جائزة نوبل، يذكر ناش بوضوح ان مرضه بدأ في العام 1959، عندما كان مدرساً في معهد ماساشوستس، وهو عين ما ذهبت اليه نصار في كتابها. ولكن الفيلم اختار شيئاً آخر. وجعل ناش مريضاً فصامياً مستغرقاً في هلوسات بصرية مركبة منذ مطلع شبابه! والارجح ان ذلك أوقع الفيلم في بعض الالتباس من وجهة علمية. فالحال ان انواعاً أخرى من الشيزوفرينيا هي التي تبدأ في سن مبكرة. وفي تلك الاحوال تكون الهلوسات مركبة وقوية. ويمكن السير في هذا النقاش خطوة أبعد. والمعلوم ان ناش اعطى افضل ما لديه في الزمن الممتد بين الاعوام 1950 و1959، ثم انخفض مستواه بعد ذلك، على رغم استمراره في العطاء. ومنذ الكتابات الاولى عن الشيزوفرينيا، لاحظ العالم الالماني يوجين كريبلين، ان مستوى الذكاء عند مرضى الشيزوفرينيا يتفاوت بين مريض وأخر. ووافق الطبيب الالماني مانفرد بلولر، وهو الذي صاغ مصطلح شيزوفرينيا، هذا الرأي. ويجعل المرض صاحبه في اداء عقلي أقل مما كانه قبل بدء المرض. فهل "الاقرب الى الواقع" هو السير في مثل هذه الخطوط، أم التخبط الذي سار فيه الفيلم؟ اضطرابات العقل فتنة للسينما! وفي المقابل، بدا كراو مبدعاً في اداء دوره. وبدا تصويره عيش المريض هلوساته الفوارة، وكذلك صراعه معها، على قدر كبير من الامتاع والقوة. والمفارقة ان السيرة "الواقعية" لناش لا تعطي هذه الهلوسات البصرية وزناً كبيراً. وهي المشاهد التي تجمع كراو مع الممثل ايد هاريس، الذي ادى دور بارشر. ويفترض انه عامل في ال"سي اي ايه" وفي وزارة الدفاع، ويدافع عن البلاد ضد العملاء الشيوعيين الذين يتبادلون الرسائل السرية مع موسكو. وينجح في توظيف كراو لفك تلك الشيفرة الخفية التي تبث في مقالات تبدو عادية في الجرائد. ويقبل كراو على العمل بقوة، قبل ان يسقط في يد الاطباء النفسانيين الذين يقولون ان هيرمان وبارشر مجرد جزء من هلوسات مركبة من اختراع كراو. ويدخل في صراع مع المرض، وكذلك مع العلاجات المتسلطة. ونراه يقاوم "صدمة الانسولين"، وهو علاج كان يعطي مريض الشيزوفرينيا الانسولين لكي يهبط سكر الدم لديه الى ادنى حدود ممكنة. والهدف من ذلك، هو حرمان الدماغ من السكر، وحضه على ترك الهلوسات التي تشبه حال "العيش في حلم مستمر". وينطبق الوصف على علاج الصدمة الكهربائية، الى ان يصل المريض الى خلاصه بنفسه. وتذكر هذه الامور بافلام ربما كان بعضها اكثر متانة من "عقل جميل"، فاضطرابات العقل فتنت السينما دوماً! ومن هذه الاشرطة "شايننغ" للمخرج ستانلي كوبريك من بطولة القدير جاك نيكلسون الذي برع في تصوير مدى الاضطراب الداخلي الذي يترافق مع الهلوسات، وكذلك هناك الفيلم الجريء "جان دارك" الذي لامس حدود الهالة الدينية المحيطة بالقديسة الفرنسية الشهيرة. وفي منحى الخلاص، يحضر فوراً فيلم "شاين" للمثل جيوفري راش، الذي صور حياة مبدع آخر مصاب بمرض فصامي، هو الموسيقار ديفيد هيلفجوت. وفي الصراع مع العلاج النفسي والادوية والصدمات، يبرز فيلم "طيران فوق عش الوقواق"، من اخراج ميلوش فورمان وتمثيل جاك نيكولسون ايضاً. ونذكر هنا ان لهذا الفيلم الاخير دوراً في حض العلماء على تلطيف اسلوب الصدمة الكهرباء، فصارت تعطى في أسلوب شديد اللين. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فان السينما العربية أساءت كثيراً لمرضى الشيزوفرينيا، نتيجة عدم التبصر العلمي. وعلى وجه الخصوص، يمكن هنا ذكر فيلم "بئر الحرمان" الذي جمع الراحلة سعاد حسني مع محمود ياسين. وللاسف، خلط الفيلم بين الفصام Psychosis، وهو اضطراب نفسي - عقلي قوي، وبين حال ازدواج الشخصية Double Personality، اي عندما يعيش المرء في شخصيتين لهما هويتان مختلفتان. وكلما عرض هذا الفيلم على الشاشات، زادت الاساءة وسوء الفهم! المحنة هي ... العقل! يفتتح كتاب سيلفي نصار عن ناش على عتاب زملائه له، خلال وجوده في مصح للامراض العقلية. "كيف استطعت ان تصدق هذياناً من نوع ان حضارة كونية ترسل لك رسائل مشفرة على هيئة أخبار عادية"؟ ويرد ناش "كانت أفكار الهذيان تأتيني في الطريقة نفسها التي تأتي بها افكاري المبدعة في الرياضيات، فلماذا لا أصدقها"؟ هكذا رد ناش. وأختتم ناش سيرته المدونة في موقع نوبل، بالسخرية من العقلانية، وخصوصاً من نظرتها الى الافكار الهذيانية! اعلن انه يعتقد ان "العقلانية تضع قيداً على تصوّر الفرد لعلاقته مع الكون". ولعل اشد ما فات الفيلم هو الامساك بهذا الامر. فالمحنة لم تكن في معاناة ناش هلوسات وضعته في تنافر مع من حوله، بما مع ذلك زوجته وطفله. انها المعاناة الداخلية، معاناة العقل لذاته وهذيانها هو ما يمض. والحال ان ناش عالم رياضيات فذ، اي انه اختبر العقلانية في ارفع اشكالها وأرقاها وأكثرها اقناعاً للعقل الانساني. ثم جاءت أفكار أخرى: كيف "يعرفها" اذا كانت الاداة التي يريد ان يمتحنها بها، اي العقل، هي نفسها موضع النزاع! لقد هرب الفيلم من هذا الامر الى الهلوسات البصرية. هل يرجع ذلك الى سبب معين؟