قالت السيدة الشابة انها تمثل شعب "مابوش"، سكان تشيلي الاصليين. تكلمت عن فلسطين بحزن، عن مصادرة الارض، عن اتلاف المزروعات، عن التعالي والتمييز والاضطهاد المستندة الى العِرق او الدين. هم، شعب المابوش، في جبال تشيلي الوعرة واحياء الصفيح في المدن البائسة، يتابعون اخبار فلسطين، قالت. وتنفطر قلوبهم ويتذكرون حالهم. كنت انتظر الدمعة، احس بها خلف الجفون. الا انها تمالكت نفسها واستمرت تتكلم بهدوء حزين. هي، بلونها الاسمر المائل الى الحمرة، وعيونها المسحوبة الى الاطراف، ووجناتها البارزة، وتقاطيعها الدقيقة، وشعرها الاملس الاسود الطويل المربوط خلف رأسها، والحلي الفضية المشغولة بزخرفة والموشّاة بالاحجار الفيروزية والحمراء، تتدلى من اذنيها وعنقها، هي تشبه البطاقات البريدية او الصور الملونة التي ترافق التحقيقات الصحافية في المجلات الغنية ونصف الجادة. بعدها، تكلم ممثل "حركة الفلاحين بلا ارض" البرازيلية. قال انهم سيرسلون الى اطفال فلسطين كرات قدم، لأن كرة القدم هي سفيرة البرازيل الى العالم. الا اني لست ههنا بصدد كتابة تقرير عن الاجتماع الذي عقده في باريس مؤخراً المكتب التنفيذي لمنظمة VIA CAMPESINA الفلاحية العالمية، الذي قرر تبني يوم الارض الفلسطيني، وادراجة في جدول اعماله وارسال وفد تضامني الى فلسطين. بل يشغلني ذلك التعايش، ان لم يكن الانسجام، بين المشترك الذي يجمع البشر والتفرد الذي يميزهم... فقدت مع الوقت وكثرة المشاغل، متعة الجلوس مباشرة خلف الزجاج في مقاهي الرصيف المنتشرة في باريس، والتطلع الى العابرين، سحناتهم وقاماتهم وملابسهم، وطريقة مشيهم وكلامهم ومقدار حركات ايديهم وهم يتكلمون، ومقدار الضحك الذي يبيحونه لانفسهم وهم يضحكون... مقدار الصخب. كان استعراض لأمم الأرض كلها. حتى الاسكيمو. وتعلمت حينها ان العرق الاصفر اعراق وكذلك الاسود وكذلك "الهنود الحمر"، سكان اميركا الاصليون. لا بد انه كان بين العابرين في تلك الايام "هنود" مابوش. فلا يوجد من لا يعبر في شوارع باريس. الا ان باريس تفضل لندن ونيويورك، المدينتين الكوزموبوليتيتين الاخريين، بإصطفاف مقاهي الرصيف متلاصقة، توفر جميعها واجهات زجاجية رحبة. ثم انها كانت ما زالت ايام باريس الذهبية في السبعينات والثمانينات. وكنت آتيها زائرة فحسب، فيكون الجلوس المديد في المقهى احد واجباتي. وكانت اديث بياف ما زالت حاضرة في الجو، وكان الجو ما زال ساحراً، عابقاً بمزيج اللوعة والشوق والحزن والامل. المصائر التي تغنيها اديث بياف وتمنح صوتها المجروح تلك الكثافة المطابقة للزمن: أهو الواقع أم هذه نوستالجيا؟ واين الحدود بينهما، وايهما يستوطنه اليقين اكثر، ايهما مؤكد اكثر؟ مزيج اللوعة والشوق والحزن والامل. هل التباس المصائر هو ما يجمع بين البشر؟ هل هو، من بين ازدحام المعطيات الانسانية، النقطة الوصل؟ اهو "جميل" ام "جميلة"، انثى ام ذكر، ام النقطة الوصل بينهما، الراقص، الممثل، المغني، فردريك، مؤدي العرض المسرحي "ديفا". هل "فريدي" هو قصته الملتبسة تلك، ام هو هي جوزفين بيكر، بيلي هوليداي، جانيس جوبلن، اديث بياف بالضرورة!، الحاضرين على المسرح بواسطة تماثيل عابرة، شفافة، مصنوعة من قضبان وخيطان وظلال. ام كلثوم التي تتصدر القاعة والعرض، الا انها تحضر، مع نحّاتتها، بواسطة "فريدي"، ثلاثتهم في حركة حائرة في كيفية احضار قامة الست، الهامة والألم معاً، لتصبح موضوع حب وليس عبادة: مأساة بياف ومارلين وجوزفين بيكر وبيلي هوليداي وجانيس وجوبلن... وجميل / جميلة، يتراصفون كما تتراصف الصور المسحوبة على رقائق شفافة فيطلع من تراصفها شكل آدمي، هو الفرادة والمشترك. تذكرت ممثلة شعب مابوش، التي تعرف، لدهشتي، فلسطين. معرفة، ليس كتلك التي كانت توفرها الأمميات في مهرجانات ومؤسسات ضخمة متحجرة، تشبه العمارة التي انتجتها، بنايات متشابهة تقوم على اعمدة شاهقة، تزين ساحاتها تماثيل صارمة، هادفة، حماسية، متماسكه... بل معرفة حميمة، انفعالية، متواضعة، تشي بحدودها، تسرع الى ملاقاة المصائر التي تستحضرها. "ديفا" هو العمل الذي "وقّعت عليه" مي غصوب وعرضته لنا في باريس منذ ايام. "وقّعت عليه" تعبير اجنبي، الا اني لم اجد ما يعادله بالعربية لقول ما هو اكثر من الكتابة، للوفاء بالبناء المعقد للعمل، منحوتات ورقص ونص وتداخل اشخاص، يجر الواحد الآخر، ليس كحلقات السلسلة، بل على انهم متميزون ومتطابقون في نفس الوقت. الفرادة والمشترك من جديد، تماماً كما تنسجم، من دون تشابه، الهندية المابوش واديث بياف وباريسوفلسطين. يا الهي! ها ان فلسطين تخرج عن اطارها المألوف وتذهب بعيداً الى اماكن واوضاع ومناسبات وتداعيات غير متوقعة. هل هي بهذا تقترب من الميثولوجيا، فلسطين النوستالجيا، فلسطين الفكرة، بينما فلسطين القائمة هناك، في الحياة اليومية، تجوع وتعرى، تُذلّ وتقهر، تستباح وتقتل. تقول جانيس جوبلن انها كانت تمارس الحب مع الآلاف من على خشبة المسرح، ثم تذهب وحيدة الى البيت. اي وحشة، اي انكسار، اي "يا وحدنا" أطلقت مرة من بيروت ويمنع الحياء اليوم انطلاقها مجدداً. تمنعها عزة النفس وغصة في الحلق و... الدهشة.