لا تزال بعض المقاربات العربية لاسرائيل وشؤونها عاجزة عن الوصول الى مستوى المعرفة الحقيقية والعملية. ولعل النموذج على هذا حلقة برنامج مشهور لإحدى الفضائيات العربية ناقشت ظاهرة رفض الخدمة في الجيش الاسرائيلي، واستضافت لهذا الغرض "خبيراً" في الشؤون الاسرائيلية. وبينت معالجة الخبير لهذا الشأن، وما تفرع عنه من جوانب أخرى، كيف ان الايديولوجيا تقتل المعرفة، وتفضي الى ما يتاخم تقديم خدمة للقضية المعاكسة. فلم تكد تمضي بضع دقائق على البرنامج المذكور حتى أفاض الخبير بسلسلة من الاستنتاجات القطعية: المجتمع الصهيوني وهذه التسمية تحتاج الى مراجعة يعاني التفتت والتمزق، المجند هو الركن الأساس في المجتمع والدولة، حركة الرافضين تعبر عن هزيمة نفسية، الكيان الصهيوني والمؤسسة العسكرية يخلوان من الديموقراطية - وهذه نقطة ركز عليها كثيراً - هذا عدا مسائل أخرى كثيرة مثل انتشار المخدرات والسرقات، وبيع الأسلحة في الجيش الاسرائيلي. والاستنتاج النهائي الكلي الذي خلص اليه من الاستنتاجات الجزئية السابقة ان الجيش الاسرائيلي يعيش حالاً من التفكك والانفلاش. والحقيقة ان كل واحدة من العبارات الجازمة السابقة يعوزها التدقيق. فعبارة "المجتمع الصهيوني" - والمقصود المجتمع الاسرائيلي - تعطي وصفاً لا يطابق الموصوف. فالصهيونية حركة سياسية أقامت دولة اسرائيل. وهذا لا يصح على المجتمع. فليس كل فرد في اسرائيل صهيونياً، بمعنى انه ليس كل فرد في هذه الدولة ينتمي الى أحد الأطر أو الأحزاب السياسية التي يجمعها القوس الصهيوني الواسع. وحتى في الاطار العقائدي السياسي... فإن ثمة احزاباً سياسية غير صهيونية، سواء الى اليمين من الحركة الصهيونية أو الى يسارها. في كثير من الأحيان يكشف الخطاب عن مزايا الثقافة التي تحكم صاحب الخطاب أكثر مما تكشف الموضوع قيد المعالجة. أما قراءة الاختلافات والتباينات في المجتمع الاسرائيلي، وظواهر التعارض والتناقض بين مجموعاته المكونة له، وهي التي يعبر عنها هذا المجتمع بصراحة وعلانية ويعطيها الحق في أن تتمأسس في هذا الشكل أو ذاك، قراءتها على انها تمزق وتفتت انما تفصح عن ثقافة سياسية شمولية اعتادت اخفاء أو رفض التمايز والتعددية في داخلها، ما يجعلها تنظر الى أية ظاهرة من هذا النوع كتمزق وتفتت. وفي الامنيات نحن نتمنى ذلك، وفي الهدف نسعى الى خلق ذلك، أما في الواقع فإن الأمر على خلاف ذلك. وليس الأمر هنا اننا نود تجميل العدو. ولكننا نقف ضد أية رؤية "تجميلية" له وخلق أوهام وخيالات في رؤوسنا عنه. وقد درجت مدرسة فكرية في مجتمعاتنا على تقصي ظواهر "العيب" في المجتمع الاسرائيلي، وعرضها في صورة أكبر من حجمها، وبما يوحي أن هذا المجتمع آيل الى السقوط السريع. وقد يكون في أذهاننا اعتقاد كامن بأن هذا المجتمع، أو هذه الدولة التي هزمتنا هزائم متوالية لا بد من ان تكون نموذجية، كاملة الأوصاف، خالية من النواقص والظواهر التي تبرز في أي اجتماع بشري. ولذلك ما إن نقع على ما يعيب تلك الصورة المتوهمة حتى نسارع الى اعلانها، والقول انها بشائر الأفول. فهل قدم التاريخ حتى الآن مثالاً لدولة تنهار بفعل هذه الأسباب؟ لا أحد ينكر وجود تناقضات داخل اسرائيل، ولكن يجب النظر الى هذه التناقضات بالمنظور الصائب. ويجب أن يُنظر الى استيعاب النظام السياسي هذه التناقضات، وإعمالها ضمن حدود الوحدة القائمة. وما يحزن حقاً هو تركيز البرنامج المذكور، وضيفه الخبير، على غياب الديموقراطية في اسرائيل. ولو كان المقصود هو الحقيقة المعلومة بأن هذه الديموقراطية لا تشمل الفلسطينيين، لما كان ثمة داعٍ للنقاش. الا ان الكلام دار على غياب الديموقراطية بالمطلق في الحياة الاسرائيلية. ولكن كيف نفسر تداول السلطة، ووجود مؤسسات المجتمع المدني وهيئات الضغط المهنية أو القطاعية الكثيرة في اسرائيل؟ وكيف نفسر وجود الصحافة وبقية وسائل الإعلام التي تتمتع بحق الكشف والمتابعة والنقد؟ وكيف نفسر وجود قضاء مستقل في القضايا البينيهودية وأجهزة الرقابة؟ فما هي الديموقراطية إن لم تكن هذه الأمور؟ فهل وظيفتنا هي نقد عيوب الديموقراطية الاسرائيلية لتقويمها؟ كم كنا نتمنى حقاً ألاّ يكون في اسرائيل نظام سياسي ديموقراطي ينظم قواعد اللعبة السياسية والاجتماعية اليهودية في فلسطين! لأن الأمر، لو كان كذلك، لتقوض المشروع برمته، أو على الأقل لكان أقل منعةً وتطوراً مما هو عليه الآن، وكان سهل علينا مواجهته والقضاء عليه. والحقيقة التي يجب ان نعرفها، ونقر بها، ان ذلك الشكل من الحكم الديموقراطي الاسرائيلي الداخلي هو الذي منح هذه الدولة عوامل قوتها، وضبط تناقضاتها واستوعبها وجعلها ما هي عليه الآن. وغايتنا الاستراتيجية ينبغي ان تكون إضعاف تلك الديموقراطية لا نقد نواقصها. ... والمصاب بهزيمة نفسية، في الحقيقة، هو الجندي الذي يطارد الأطفال والنساء. فهو مهزوم انسانياً وحتى مهنياً. أما ذاك الذي يتحدى الاجماع، ويتحدى غسل الدماغ، فإنه يعبر عن حال معاكسة تماماً. وأكثر ما كنت أخشاه وأنا أسمع الخبير يصم أولئك الرافضين بتلك الصفة أن يكون ضابط التوجيه في الجيش الاسرائيلي يتابع البرنامج، لأنه حتماً سيسجله، كما هو، ويذهب به الى الضباط والجنود الرافضين ليقول لهم: هذا هو سبب رفضكم الخدمة لأنكم جبناء! ان الحد الأدنى من التقدير للمصلحة الوطنية، والحد الأدنى من احترام الحقائق، يقتضيان منا توجيه الثناء والتحية لهؤلاء الأفراد لا اتهامهم بالجبن. وللتوثيق على نوعية رافضي الخدمة، فإنني أشير الى ما جاء في "الحياة" 9 شباط/ فبراير 2002 في شهادة جندي قدمها الى صحيفة "معاريف"، وقال فيها ان "تأنيب ضميره" من الفظائع التي شاهد زملاءه ومسؤوليه يرتكبونها ضد المدنيين الفلسطينيين هو ما دفعه الى افشائها للصحيفة ليكون شاهداً. وإذا كان الجيش الاسرائيلي يعاني هزيمة نفسية، والمجتمع ممزقاً ومفتتاً، وكانت الدولة كلها على وشك الانهيار، فماذا ننتظر؟ لماذا لا نهجم؟ دمشق - اسماعيل دبج