الانتقال من دائرة الحركة الاسلامية الى بناء محافظ علماني غير معادية للدين يشكل الجانب الاكثر طرافة وأهمية في المشهد السياسي التركي الراهن. وهو ما يحاول ان يشرحه بصعوبة قياديو "حزب العدالة والتنمية" للطبقة السياسية المحلية والرأي العام التركي والحكومات الغربية ووسائل الاعلام، خصوصاً للاسلاميين حيث لا تزال جميع هذه الاطراف متمسكة بالاعتقاد بأن هذا الحزب جزء من ظاهرة الاسلام السياسي يتميز عن غيره بخطاب معتدل. والحقيقة ان هذا الاصرار على عدم تفهم هذه التجربة ودوافعها ومرتكزاتها النظرية من شأنه ان يساهم في اجهاض حوار طالما حالت دونه ظروف واوضاع معقدة ومتداخلة. فالاقوال والتصريحات والشعارات التي يرددها اصحاب هذا الحزب لا علاقة لها بالتصنيفات التقليدية للحركات الاسلامية الحالية. فالمسألة هنا ليست مجرد اضفاء بعض التعديلات الشكلية على الخطاب السياسي الحركي، او اعادة ترتيب المقولات الايديولوجية ضمن النسق نفسه السياق التغيير الذي تحددت ملامحه الرئيسية منذ اواسط عشرينات القرن الماضي، وانما هي محاولة تجدف في الاتجاه المعاكس وتحاول ان تتخلص من مأزق فكري وسياسي بتأسيس طرح مختلف. ومن هذه الزاوية يجب التوقف عند هذا الامر واعطاؤه حقه من البحث والنقاش، لانه لا يخص فقط الاتراك وانما قد ينعكس مستقبلاً على مناطق وتجارب عدة. ولدت الحركة الاسلامية لتعيد الربط من جديد بين الدين والدولة بعد ان الغيت الخلافة العثمانية، وتعاظم دور الاحزاب والتيارات الفكرية الداعية الى تبني العلمانية بفتح العين او ميول الانظمة والحكومات نحو افراغ الاسلام من مضامينه السياسية والتشريعية والاكتفاء بأبعاده الروحية والاخلاقية، ولتأكيد اهمية السعي الى اقامة "الدولة الاسلامية" توالت الجهود النظرية من اجل ترسيخ عدد من المقولات المركزية مثل "الحاكمية" و"الاسلام منهج حياة". الدولة الاسلامية هدف استراتيجي لدى الغالبية العظمى من الاسلاميين، يرون فيها اداة حاسمة في تنفيذ الشريعة واخراج المسلمين من الازمات التي يعانون منها. وفي سبيل هذا الهدف قامت عشرات المحاولات وقدمت تضحيات جسيمة منذ اكثر من ثمانين عاماً، واستعملت مختلف الوسائل: العمل السري وتأسيس الاحزاب والتنظيمات الجماهيرية، واكتساب مواقع مؤثرة في الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني ومختلف النشاطات الخيرية والمالية والتعليمية لاكتساب اسلحة وأدوات الضغط السياسي، ودخول الانتخابات من أجل السيطرة على البرلمانات، والمشاركة في تشكيل الحكومات، مروراً بالثورة الشعبية، والتمرد المسلح والتخطيط للانقلابات العسكرية أو التحالف مع الجيش، وصولاً الى بناء تنظيمات دولية مسلحة تنشد الدخول في مواجهة شاملة مع الغرب وحلفائه على شاكلة "القاعدة". جهود ضخمة وحصيلة مثيرة للقلق على رغم ضخامة الجهود التي بذلت، والتضحيات الجسيمة التي قدمت، وتعدد التجارب التي انجزت فإن الحصيلة جاءت ضعيفة، ان لم تكن مخيفة ومثيرة للقلق على اكثير من صعيد. فالذين لم يبلغوا السلطة قضوا جزءاً كبيراً من حياتهم يمارسون المعارضة في ظروف سيئة وفي ضوء موازين قوى محلية تزداد اختلالاً يوماً بعد يوم. اما الذين شاركوا مع غيرهم في الحكم فوجدوا انفسهم في لعبة اشبه بلعبة الباب الدوار، يخرجون من حيث دخلوا من دون ان يغيروا شيئاً او تحزن لخروجهم الجماهير. اما الذين انفردوا بالحكم فقد تورطوا في السياسات ذاتها التي مارسها غيرهم، فقمعوا ومنعوا الآخرين ولجأوا الى التعذيب ورفضوا الاعتراف بحرية الصحافة وحق التنظيم السودان وايران وافغانستان ونظموا محاكمات غير عادلة، ولجأوا الى تنفيذ شروط وتوصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، واشعلوا النار في الاسعار وواجهوا احياناً مطالب العمال بإنزال قوات الامن والعساكر حصل ذلك في اكثر من مرة في ايران. وفي الاثناء تراكمت الاخطاء وتطرفت بعض الجماعات، ولجأت الى الارهاب، واثارة ردود فعل على جميع الاصعدة المحلية والاقليمية والدولية، فوجدت الحركات الاسلامية نفسها في مواجهة لم تخطط لها ولم تستعد لها. وهكذا اتفقت جميع الدول ومراكز القوة والمصالح في العالم لوضع كل العراقيل امام الساعين الى اقامة مشاريع للدولة الاسلامية. البحث عن الخروج من النفق في هذا السياق اخذ يتعمق نقاش داخل بعض الدوائر والحركات، لكنه في تركيا سرعان ما تطور ونضج وتشكل في حزب سياسي يتمحور النقاش حول البحث عن افضل السبل لاخراج هذه الحركات من النفق الذي حشرت فيه طيلة المرحلة السابقة. وقد تفاوتت التعاليق والآراء، فهناك من طالب باصلاح بعض الاخطاء الذاتية سواء على الصعيد الحركي والتنظيمي او في ترتيب الاولويات السياسية، وهناك من وضع كامل المسؤولية على العوامل الخارجية والمؤامرة الدولية على الاسلام، وهناك من دعا الى الصبر والتريث وتجنب التسرع في انتظار حدوث تدخل إلهي يحسم المسائل لصالح المسلمين، وهناك من يرى التمسك بالمشروع والاصرار على تنفيذه مهما تراكمت الحواجز وتعددت المحاولات. هل تكون العلمانية المؤمنة الحل المفقود؟ في تركيا، وبعد فشل محاولتي حزبي "الرفاه" و"الفضيلة" اكتسب الجدل بعداً أعمق أدى الى انشقاق داخل العائلة الواحدة. فقطاع مهم من شباب الحركة الاسلامية دفع الجدل الى أقصاه وغير مجراه تماماً عندما وضع تساؤلات أساسية حول طبيعة المشروع السياسي للحركة الاسلامية المعاصرة. لقد تساءل هؤلاء: لماذا لا نتخذ من العلمانية التي تسمى في فرنسا اللائكية اطاراً نظرياً للدولة، لا باعتبار ذلك تكتيكاً فرضته موازين القوى داخل تركيا، ولكن إيماناً صادقاً بكونه مخرجاً للمأزق الايديولوجي الذي تعانيه الحركات الاسلامية منذ ميلادها؟ وقبل الاسترسال مع هذا الطرح، تجدر الاشارة الى أن الفارق في هذه النقطة بين أربكان الأستاذ وتلامذته الذين خرجوا من تحت جبته، يكمن في أنه كان المبادر في اختيار هذا المسار، غير أنه وقف في وسط الطريق خوفاً من نتائجه التي ستتجاوز العامل التكتيكي الذي فرضته المرحلة حماية لوجود الحركة الاسلامية، في حين قرر الآخرون مواصلة السير للوصول الى خط اللاعودة. وهو ما جعلهم في نهاية المطاف يعلنون بأنهم أصبحوا خارج دائرة تصنيفات الحركة الاسلامية، ويرفضون وصفهم بالاسلاميين، ويحاولون اقناع العالم بأنهم يشكلون حزباً علمانياً محافظاً. فهم تخلوا عن إيمانهم بالدولة الاسلامية، وأعلنوا أنهم ضد توظيف الاسلام في الصراع السياسي، ويلمحون بكونهم يميزون بين القانون والشريعة. وفيا لمقابل يعتبرون أنفسهم مختلفين عن بقية الأحزاب العلمانية التركية، فعلمانيتهم لا تكتفي بكونها غير معادية للدين، ولكن أيضاً هي علمانية مؤمنة تقر بأهمية القيم الدينية في تحقيق الرقي الاجتماعي. كما أن علمانيتهم لا تتنكر للهوية الاسلامية للمجتمع التركي ولتركيا، وهي تندرج ضمن محولات نظرية تهدف الى إعادة ترتيب العلاقة بين الديني والسياسي بعيداً عن كل أشكال التنازع أو التوظيف. لهذا هم يعطون أهمية للسلوك الأخلاقي الاسلامي، ويشجعون بشكل ضمني حال التدين بمفهومها العام من دون أن يحصروا وظيفتهم داخل هذا الاطار. كما انهم حافظوا على علاقة ايجابية بالتراث وبالتاريخ العثماني باعتباره يشكل التاريخ الوطني لتركيا، لكنهم يؤكدون بأنهم يتمسكون بالجوانب الايجابية فيه. أما الاضافة الأخرى التي لا تقل أهمية فهي هضمهم في ما يبدو لمستحقات الخيار الديموقراطي، حيث أعلنوا التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية، ولم يكتفوا بالتأكيد على مسألة الحريات بل أعلنوا عزمهم على حماية حقوق الانسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة لمواطنيهم، أو التعسف بتغيير نمط حياتهم عن طريق سلطة الدولة كما فعل غلاة العلمانية في تركيا وفي غيرها من البلاد فخانوا أول قاعدة في العلمانية وهي احترام حرية المعتقد وحق المواطنين في الاختيار. والحقيقة أن ما انتهى إليه حزب "العدالة والتنمية" ليس أمراً جديداً أو بدعة. انه رجوع الى ارهاصات النهضة العربية والاسلامية حيث كان المشروع الاصلاحي يهدف الى التخلص من إرث التجربة التاريخية وتأسيس دولة حديثة يباركها ويوصلها وعي ديني جديد. وحتى عندما قامت حركات التحرير الوطني، كانت معظم الأحزاب التي تمحورت حولها، على رغم الضبابية الايديولوجية التي كانت تغلف نظرتها للدولة، مثل حزب "الاستقلال" في المغرب، و"جبهة التحرير" في الجزائر، و"الحزب الحر الدستوري" في تونس قبل أن ينفرد به الحبيب بورقيبة، و"الوفد" في مصر، وغيرها أميل الى دولة المؤسسات التي تعلو فوق المصالح والأفراد والأحزاب والطوائف والطبقات والقناعات الدينية، من دون عداء للدين أو مس من حرية المعتقد أو تنكر للرصيد الحضاري والثقافي للأمة، كما كان التوجه العام يسير نحو إقامة دولة تكون في خدمة المجتمع وتحترم قدراً أدنى من الحريات وتسعى الى تحقيق حداثة متوازنة. لكن المشكلة ظهرت عندما أمسكت معظم تلك الأحزاب بدواليب السلطة فاستبدت بها، ووضعت الدولة في مكانة مقابلة ومضادة للمجتمع. من هذه الزاوية، وبقطع النظر عن نجاح حزب "العدالة والتنمية" أو فشله في معركته الصامتة مع الجيش وخصومه السياسيين، فإن التجربة تستحق التوقف من أجل فتح نقاش أوسع حول متطلبات المرحلة الجديدة في ضوء ما حصل خلال الثمانين سنة الماضية. بمعنى آخر أليست المجتمعات العربية والاسلامية حالياً في حاجة ملحة وعاجلة الى دولة تقوم على الحق والحرية والعدل، فتكتسب المجتمعات في ظلها المناعة والقوة وتستعيد بفضلها الثقافة الاسلامية حيويتها وتقوم بتجديد نفسها؟ * كاتب وصحافي من تونس.