كان موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محرجاً للادارة الاميركية التي رأت في معارضته لمهاجمة العراق سبباً لتحسين مستوى التعاون معه. وتوقع الرئيس جورج دبليو بوش ان يأخذ هذا التعاون طابع الاغراء الاقتصادي بحيث تقدم موسكو على الغاء العقد الذي وقعته مع بغداد سنة 1997. اي العقد الذي يمنح شركة "لوك اويل" اضافة الى وكالتين حكوميتين، حق تطوير حقول النفط الواقعة غرب منطقة القرنة على امتداد 23 سنة. وتقضي شروط العقد ان تُمنح شركة "لوك اويل" نصف الانتاج في حين ينال العراق نسبة الربع مثله مثل الوكالات الحكومية الروسية. وتقدر استثمارات هذه الصفقة بعشرين بليون دولار هي حصيلة انتاج تتوقع الدراسات ان يقفز عن كمية 667 مليون طن من النفط الخام. واعتبرت الصفقة مجزية للفريقين، خصوصاً ان موسكو كانت تأمل في تحصيل ديونها البالغة ثمانية بلايين دولار ثمن اسلحة. وبسبب نظام العقوبات بقي المشروع مجمّداً. ولكن اغراءات العراق ظلت ناشطة بدليل ان صدام حسين اعطى روسيا عقداً آخر بمبلغ بليون وثلاثمئة الف دولار ضمن برنامج الاممالمتحدة "النفط مقابل الغذاء"، اضافة الى تعهد بمنح الشركات الروسية عقوداً بأربعين بليون دولار فور رفع الحظر والعقوبات. وكان واضحاً ان سخاء المشاريع العراقية هو الثمن الاقتصادي الذي يدفعه صدام حسين من اجل دعم موقف بوتين، وتشجيعه على الاستمرار في سياسة مقاومة الحرب. من أجل تغيير هذا الاتجاه السياسي، قررت واشنطن تقديم عروض مغرية لروسيا بهدف استمالتها وتحييدها في الحرب المقبلة ضد العراق. وظهرت مؤشرات هذا الاتجاه في اجتماعات "هيوستن" التي عقدت بطلب من الرئيس جورج بوش وضمت جميع ممثلي شركات النفط الاميركية والروسية. وتبين من محاضر الجلسات ان موسكو تختلف مع واشنطن على الذرائع المطروحة لتبرير العمل العسكري ضد العراق، ولكنها تتفق معها على موضوع واحد هو النفط. ولقد نقل هذا التصور اهم ثلاثة يعملون في حقل الطاقة هم رئيس شركة "لوك اويل" العملاقة فاجيت الكبيروف، ومدير شركة "يوكوس" ميخائيل كودور كوفسكي، ورئيس مؤسسة "روسنفت" سيرجي بوغدانتشيكوف. هؤلاء الثلاثة ارسلهم بوتين الى عاصمة النفط الاميركية هيوستن لاجراء محادثات تتعلق بتعاون البلدين في هذا المجال. ونشرت الصحف الاميركية بعض محاضر الجلسات الخاصة وما تسرب عنها من اتفاقات تؤكد تعهد روسيا تأمين ما نسبته عشرة في المئة من استهلاك السوق الاميركية اي ما يساوي 60 مليون طن من النفط سنوياً. ووضع رئيس شركة "لوك اويل" امام ممثلي الشركات الاميركية تصميماً لمصفاة ضخمة في مرفأ "مورفسك" يمكنها استقبال الناقلات العملاقة المعدّة لنقل النفط الى موانئ اميركا الشمالية. وبما ان روسيا لا تملك مصاف ضخمة من النوع المطلوب، فان خطة التغيير تحتاج الى وقت طويل والى استثمارات الشركات العملاقة. ويقدر الخبراء ان هذا المشروع سيكلف سبعة بلايين دولار، في حين يحتاج المشروع المتكامل الرامي الى تجديد المصافي العتيقة وتنشيط عمليات التنقيب وحفر الآبار في سيبيريا الى 157 بليون دولار على ان يتم الانجاز خلال ثلاثين سنة. يقول اصحاب الاختصاص في شؤون الطاقة ان الدوافع الحقيقية الكامنة وراء قرار الاطاحة بنظام "طالبان" تتعلق بمصالح الطاقة، ولو ان احداث 11 ايلول سبتمبر قدمت لها الاعذار السياسية والانسانية المطلوبة. ففي عام 1998 كشفت شركة "يونوكال" - المعتبرة من اهم الشركات المتفرعة عن "ستاندرد اويل" عن فشل مشاريعها الطموحة بسبب عجز الحكومة المركزية في كابول عن تأمين الحماية المطلوبة لتنفيذ مشاريع الامدادات المتعلقة بنقل النفط والغاز الطبيعي. وبعد انقضاء سنتين تقريباً قامت شركة "هاليبرتون" الاميركية بتوقيع عقد مع شركة النفط الوطنية في اذربيجان لانشاء حوض ضخم يستخدم كقاعدة لدعم الاعمال المرتبطة بصناعة النفط حول بحر قزوين. وقام نائب رئيس الشركة ديك تشيني نائب الرئيس بوش باجراء المحادثات واعطاء الضمانات الآيلة الى تحسين ظروف الشراكة. وبررت قبل ذلك شركة "يونوكال" انسحابها المفاجئ بالقول ان ممثلها حميد كارزاي عجز عن رعاية مصالحها في ظل "طالبان". ثم تبين لاحقاً ان مجلس ادارة الشركة اوصى باختيار كارزاي مستشاراً اعلى اثناء التفاوض مع "طالبان" لمد انبوب من تركمانستان الى باكستان عبر افغانستان. وذكر في حينه ان توصية الاختيار جاءت بتشجيع من رئيس الاستخبارات المركزية سي اي ايه وليام كيسي ورئيس الاستخبارات الباكستانية اي سي اي. ويبدو ان هناك اسباباً وجيهة أدت الى هذا الانتقاء اهمها انتماء كارزاي الى قبيلة دوراني الباشتونية المتواجدة في المناطق الجنوبية من افغانستان حيث سيمر الانبوب. اضافة الى دوره في محاربة السوفيات وانخراطه في صفوف المجاهدين. وعندما انسحبت القوات السوفياتية انتقل حميد كارزاي مع اخوته الى الولاياتالمتحدة بطلب من وليام كيسي الذي رعاهم بعنايته. وبسبب هذه الخلفية يتطلع زعماء قبائل افغانستان الى كارزاي كممثل لسياسة الولاياتالمتحدة وليس كرئيس مستقل. كل هذه الوقائع تفسر اصرار الرئيس جورج بوش ونائبه ديك تشيني على ابقاء القوات الاميركية في افغانستان اطول مدة ممكنة. والسبب، كما يراه المراقبون في كابول، يتعلق بالضرورات الامنية التي يتطلبها تنفيذ المشروع المؤجل. ولقد كلّف الرئيسان بوش ومشرف السفير الاميركي في اسلام اباد ووزير الطاقة في باكستان عثمان امين الدين المباشرة في احياء مشروع الانبوب. ولكي يسهل مهمتهما قام الرئيس بوش باختيار وسيط افغاني اميركي هو زلماي خليل زاد وعيّنه مبعوثاً خاصاً للرئاسة في كابول. وخليل زاد هو باشتوني نجل احد الوزراء من الذين خدموا في عهد الملك محمد ظاهر شاه. ولقد عاش ودرس في الولاياتالمتحدة وحصل على الجنسية الاميركية ثم عُيّن مستشاراً في مؤسسة "راند". وعندما قررت شركة "يونوكال" تنفيذ مشروع بحر قزوين، اختارته للقيام بدور الوساطة بينها وبين حكومة "طالبان". وبسبب علاقته الوثيقة بمستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس عيّنته شركة "شيفرون" عضواً في مجلس الادارة. ويؤكد العاملون في مؤسسة "راند" ان خليل زاد لعب دوراً سيئاً اثناء وضع التقرير الذي شجع خلاف اميركا مع السعودية، وطالب باحتلال آبار النفط في حال استمرت المملكة في ممارسة سياسة مستقلة. وكان الدافع لاتخاذ موقف سلبي بهذا الحجم، تأمين مصالح الشركات التي يمثلها وتحضير روسيا للدور النفطي الأول في المستقبل. ومن المؤكد انه لاقى الدعم والتأييد من الرئيس بوش ونائبه تشيني ومستشارة الأمن القومي، اضافة الى صقور الادارة المرتبطين بعقود مع كبريات شركات النفط. ركز الرئيس جورج بوش اثناء زيارته روسيا على ضرورة رسم خريطة نفطية جديدة لا تكون فيها دول منظمة "أوبك" القوة المسيطرة على تحديد الأسعار وحجم الانتاج. ووعد بوش مضيفه بوتين بأن تلعب بلاده الدور الذي لعبته السعودية خلال الأربعين سنة الماضية. علماً أن المملكة تعتبر أكبر ثاني مصدر للنفط الى الولاياتالمتحدة بعد كندا. ومع ان الأميركيين لا يشكلون أكثر من خمسة في المئة من مجموع سكان الأرض، إلا أنهم يستهلكون 25 في المئة من انتاج النفط في العالم. وبسبب هذا الواقع قرر الرئيس بوش الاستيلاء بالقوة المسلحة على العراق، وتعيين موظف مثل كارزاي رئيساً يؤمن للشركات الأميركية استثمار الحقول العراقية، واستغلال الاحتياط المثبت الذي يقدر بأنه يصل الى 115 بليون برميل. أي ما نسبته 11 في المئة من الاحتياطي العالمي. علماً أن كلفة انتاج البرميل الواحد لا تزيد على دولار واحد. ويأتي الاحتياط في العراق الثاني بعد الاحتياط المثبت في السعودية التي تملك أكبر احتياط نفطي في العالم يتجاوز 260 بليون برميل. ردود فعل الرئيس بوتين بالنسبة للدور الذي يرشحه اليه بوش، تبدو متناقضة بسبب خلافه مع المؤسسة العسكرية أولاً والمؤسسة النفطية ثانياً. وترى قيادة الجيش ان واشنطن لم تحترم دور موسكو في حرب 1991 ولم تشاركها في الحصول على أي عقد لمبيعات اسلحة الى دول الخليج. وهي لا تخفي معارضتها لضرب العراق بحجة انه من الصعب استرجاع الديون العسكرية البالغة 8 بلايين دولار في حال حصل الانهيار وقررت الولاياتالمتحدة السيطرة على الموارد النفطية. كذلك تتصور "مافيا" الطاقة في روسيا ان استعداداتها التقنية لا تقل قدرة عن استعدادات اميركا شرط توفير المال اللازم لتطوير حقول سيبيريا والاورال وتنغيز. وهي تشكو من استبعادها بعد حرب الخليج الثانية، وتتوقع ان تحرمها واشنطن من الحصة التي تأخذها حالياً من تصدير النفط العراقي. يتخوف الديبلوماسيون العرب في موسكو من تراجع الدور الروسي في عملية سلام الشرق الأوسط. ومع ان وزير الخارجية ايغور ايفانوف سيظل ناشطاً في العواصم العربية، إلا أن عملية احتجاز الرهائن داخل المسرح في موسكو ستؤثر حتماً على تعاطي الديبلوماسية الروسية مع موضوع الانتفاضة الفلسطينية. وبما ان المساعدات الأميركية المطلوبة لانعاش الاقتصاد الروسي المهترئ ستكون احدى أكبر أدوات الضغط، فإن تعاطف بوتين مع صدام حسين لن يصل الى حد التفريط بالوعود الأميركية التي قدمت سابقاً لغورباتشوف. وعندما انتهت حرب 1991 وحصلت واشنطن على قرار مجلس الأمن بفضل موقف المندوب الروسي، كوفئ غورباتشوف بأن عين محاضراً بالأجرة لا يزيد ثمن محاضرته على عشرة آلاف دولار! كاتب وصحافي لبناني.