لا يخفى أن تاريخ العلاقات العربية الغربية يمتد إلى فترة طويلة تبادل فيها الطرفان الكثير من التأثيرات الحضارية وتفاعلات التعاون والتنافس والصراع. ولعل عمق تأثير هذه التفاعلات يجد تفسيرًا له في القرب الجغرافي بين أوروبا والعالم العربي، وفي الحيوية الحضارية لشعوب المنطقتين. ولم تخل العلاقات العربية الغربية في العصر الحديث من المعوقات التي حالت دون نموها المتوازن. إن معاناة العرب من السياسات الاستعمارية وصنيعتها دولة إسرائيل ذات السياسات التوسعية، لعبت دورًا بارزًا في تسميم الاجواء بين الطرفين، وفي تزايد الشعور العربي بالغبن. وإذا كانت الظاهرة الاستعمارية أخذت في الأفول منذ منتصف القرن المنصرم، فإن السياسات الاسرائيلية ما تزال تشكل أبرز وأخطر عقبة في وجه تطوير العلاقات العربية الغربية. وارتبطت هذه المتغيرات السياسية بتطورات فكرية وثقافية لا تقل سلبية وضررًا على مستقبل العلاقات العربية الغربية. فما بات يختزنه كل طرف من صور نمطية مشوهة عن الطرف الآخر قلص كثيرًا من مساحات الفهم المشترك والثقة المتبادلة. ولا بد لي من أن أذكر هنا أن حديثي سينصب على عموميات العلاقات العربية الغربية من دون ذكر الخصوصيات السائدة بين بعض الدول العربية وبعض الدول الغربية، والتي تلعب دورًا مهمًا ربما تجاوز العلاقات الثنائية. العلاقات في العصر الحديث إن استعراضًا سريعًا لأبرز محطات العلاقات العربية الغربية في العصر الحديث يوضح مدى التأثير المتبادل بين تموجات السياسة وتيارات الفكر. ومن الضروري الاشارة إلى ظهور الدولة القومية في أوروبا، والاعتراف المتبادل بسيادة الدول في معاهدة وستفاليا 1648 التي مهدت الطريق لمؤتمر فيينا 1814 1815 الذي أرسى دعائم نظام دولي قائم على تعدد القوى وتوازنها. غير أن هذا التوازن كان محصورًا بين القوى الأوروبية، التي ظلت، بسبب الثورة الصناعية، متفوقة على بقية مناطق العالم علميًا واقتصاديًا وعسكريًا. ومع مرور الوقت تحول الصراع الذي ساد العلاقات بين هذه القوى الغربية إلى حال من التنافس البغيض على استعمار العالم، رأى فيه عدد من المحللين سببًا رئيسيًا من أسباب الحرب العالمية الأولى. وشملت الظاهرة الاستعمارية معظم مناطق العالم العربي، خصوصًا مع انهيار الامبراطورية العثمانية، وتقاسم الغرب تركة الرجل المريض بعد الحرب العالمية الأولى. وارتبطت المعاناة العربية من الهيمنة الاستعمارية الغربية بظهور جهود فكرية عربية، تحاول استكشاف سبل النهضة الكفيلة بنفض الجمود والتأخر، وتحقيق التحرر والاستقلال. وفي هذا الصدد يلاحظ الجابري أن "النهضة العربية الحديثة كانت أساسًا، ومنذ البداية، وليدة الصدمة مع قوة خارجية ومهددة، قوة الغرب وتوسعه الرأسمالي الاستعماري" الجابري، 1989: ص26. وعلى رغم أهمية الجهود الفكرية النهضوية، وريادتها، إلا أنها لم تتمكن من تجاوز إشكاليات النظرة الملتبسة المزدوجة تجاه الغرب. فمن جهة بدا الغرب في نظر المفكر العربي كمجتمع متقدم، منظم ومتفوق، يثير الاعجاب ويغري بالمحاكاة. ومن جهة أخرى، نظر العرب إلى الغرب كقوة مستعمرة ظالمة، تثير الاستهجان والرغبة في المقاومة. ومن هنا نجد معظم مفكري النهضة العربية يستنفدون جل طاقاتهم في جدليات متكررة حول ثنائيات مغلقة تقابل بين الاصالة والمعاصرة، وبين الهوية والحداثة، وبين السلفية والتغريب. إن النهج السلفي الذي كان سائدًا في تلك الحقبة، والذي كان من رواده الافغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، أكد أولوية الدفاع عن الهوية والتشبث بالموروث لمقاومة الهجمة الوافدة. في حين أن التيارات التغريبية، المتأثرة بتجربة أتاتورك، أكدت على أولوية الانخراط في الحداثة ونبذ الواقع المتخلف والقطيعة مع الموروث. وعلى رغم ما كان بينها من تناقض فإن هذه التيارات تشترك في بعدها عن تحليل الواقع ودراسة معوقاته وإمكانات تجاوزه، وفي انشغالها بتخيل واقع افتراضي بديل مستمد من مثال الماضي البعيد أو من مثال الآخر المختلف. وهكذا ترسخ الاغتراب الفكري في الثقافة العربية، زمانيًا أو مكانيًا. العروي، 1978: ص167. وعلى رغم المحاولات التوفيقية المتكررة ظلت الهوة الفكرية التي تفصل بين هذه التيارات متسعة، كما تعاظمت الهوة التي تفصلها عن واقع الحال، فلا الحاضر يتحول إلى ماض، ولا العرب يتحولون إلى غرب. الأنصاري، 1996. ومع أفول الظاهرة الاستعمارية، ونهاية الحرب العالمية الثانية، انتقل النظام الدولي إلى مرحلة جديدة قائمة على القطبية الثنائية. ولما كانت المواجهة العسكرية المباشرة بين الدولتين العملاقتين متعذرة، بسبب الردع النووي المتبادل، فإن العوامل الاقتصادية والإيديولوجية والإعلامية برزت كمجالات للتنافس والاستقطاب، فضلاً عن النزاعات التي تدور بين دول صغرى نيابة عن الدولتين. وعلى مستوى العالم العربي شهدت هذه الحقبة حصول معظم الدول العربية على الاستقلال، خصوصًا بعد تعميم نموذج الدولة القومية ذي النشأة الأوروبية على مستوى العالم. لكن الاستعمار لم يعمل على توفير متطلبات الاستقلال في الدول التي كانت خاضعة له من حيث اكتمال مؤسسات المجتمع المدني ورسوخ الثقافة السياسية اللازمة. ولم يرحل الاستعمار إلا بعدما بذر بذور الفرقة وعوامل الصراع، فوجدنا الكثير من الدول المستقلة تعاني من أوضاع غير مستقرة أو خلافات حدودية، وهو الذي شكل تحديًا مستمرًا أمام تجربة الدولة القومية في منطقتنا. كما أن نشوء إسرائيل، المدعومة من القوى الاستعمارية، سرعان ما خيم بظلاله وتداعياته على استقرار المنطقة وعلى مسيرة العلاقات العربية-الغربية. ونحن جميعًا ندرك ما تسببت به السياسات الإسرائيلية من مآس غير مسبوقة شملت تشريد معظم الشعب الفلسطيني، واقتلاعه من أرضه، وحرمانه من أبسط حقوقه. وسرعان ما توسع العدوان الإسرائيلي ليشمل الدول العربية المحاذية لفلسطين المحتلة. وما ساعد إسرائيل على التمادي في عدوانها أن الأنظمة العربية لم تكن على مستوى هذا التحدي الذي لم يقتصر على النواحي العسكرية، بل شمل أبعادًا تقنية وثقافية وحضارية. وأدى تجاهل العرب الأهمية المتنامية للعوامل الفكرية والإعلامية في العلاقات الدولية إلى بروز الدعاية الصهيونية المغرضة وتعاظم تأثيرها. وما ساعد على نجاحها اندماج مؤيديها في الحضارة الغربية، وحشدهم لإمكاناتهم التنظيمية والمالية، واستغلالهم للشعور الغربي بالذنب تجاه ما تعرض له اليهود من مآس عنصرية على يد النازية. لكن هذا النجاح ما كان له ءن يتحقق بهذا القدر لولا الغياب العربي الفاضح عن التأثير في ميادين الفكر والثقافة والإعلام. وفي الحقيقة فإن عجز الفكر العربي عن مواجهة التحدي الإسرائيلي كان من نتاج مرحلة الاستقطاب الدولي، حيث ابتلي الفكر العربي بحالة مرضية رسخت التشرذم والتقوقع، وسهلت الانخراط في معمعة الصراع الإيديولوجي بين الدولتين العملاقتين. على امتداد هذه المرحلة قسِّم المفكرون العرب إلى فصائل متناحرة، كل منها يتمترس وراء شعارات عقائدية، ويدعي امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل نقدًا، ويتهم مخالفيه بالخيانة أو الكفر. وبدأت الثقافة السياسية العربية تعاني من تضخم في جانبها الايديولوجي، ومن مبالغة في إلقاء اللوم على العوامل الخارجية، مع افتقار للاهتمام الكافي بتحليل الواقع وتحديد سلبياته وتوضيح مسؤوليتنا تجاهه الأنصاري، 2000: ص68. ومما زاد الطين بلة أن الكثير من الدول العربية تبنت حينذاك النموذج الشمولي السوفياتي القائم على الحزب الواحد، فيما تهربت دول أخرى من متطلبات الواقع مكتفية بمشاعر الزهو بأمجاد العرب في الماضي السحيق. ومن الغريب أننا شهدنا بعض دعاة الوحدة العربية ينزلقون إلى التمييز بين العرب وتصنيفهم إلى عرب تقدميين وعرب رجعيين، أو عرب مدن وعرب صحراء، أو عرب مركز وعرب أطراف، أو عرب ماء وعرب نفط. وفي وقت تعالت أصوات التطرف والانفعال، استبعدت أصوات العقل والحكمة والاعتدال وكان صوت المعركة يعلو فوق صوت الفكر، لكنها معركة العربي ضد أخيه العربي، وليست معركة تحرير الأرض من المحتل أو استعادة الحقوق من المغتصب، ولما كانت توجهات الانفتاح والحوار والتعاون مهمشة داخل بنية الفكر العربي السائد حينذاك، كان من الطبيعي أن يعجز هذا الفكر عن محاورة الغرب أو محاولة إقناعه أو ممارسة دور مؤثر فيه. واقع العلاقات بين العولمة والتطرف إن انهيار الاتحاد السوفياتي يعد أوضح دليل على تزايد أهمية العوامل الاقتصادية والثقافية والإعلامية في العلاقات الدولية. لم يكن انهيار هذه القوة العسكرية العظمى بفعل غزو عسكري خارجي، بل بفعل العجز المتراكم عن مواجهة تحديات المنافسة العالمية المتعاظمة، خصوصًا في المجالات الاقتصادية والثقافية. وهكذا وجدنا النظام العالمي ينتقل إلى مرحلة جديدة قائمة على القطب الأوحد، وتزامن ذلك مع تعاظم غير مسبوق لظاهرة العولمة في كل المجالات الاقتصادية والمعرفية والإعلامية. وبات من الواضح أن مواجهة المخاطر المستقبلية المتعلقة بحماية البيئة، أو مقاومة الفقر، أو مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وانتشار أسلحة الدمار الشامل، أو تحرير المبادلات، يتطلب جهودًا متضافرة تشمل الدول والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية. ولن تستطيع دولة واحدة، مهما بلغت من القوة والتقدم، أن تواجه بمفردها مثل هذه المخاطر، أو أن تعزل نفسها عن تداعياتها وآثارها. ومن هنا فإن الأحادية القطبية إنما تعبر عن جانب واحد من جانبي المشهد الدولي الراهن، في حين تعبر العولمة المتعاظمة، القائمة على التعددية واختراق الحدود وانحسار السيادة، عن جانبها الآخر. ولعلنا لا نبالغ حين نؤكد أن من شأن التنامي المتسارع لظاهرة العولمة أن يحدث تحولات عميقة تختلف نوعيًا عما شهده النظام الدولي في مراحله السابقة، فما تتضمنه العولمة من تقريب للمسافات وتقدم للمواصلات والاتصالات، وتراكم هائل في المعرفة وتدفق المعلومات، وانتقال سريع للاستثمارات والسلع والخدمات، واختراق إعلامي للحدود، من شأنها جميعًا أن تغير أنماط التعاون الدولي وأدواته كاظم، 2002. وأي إنسان في عالمنا اليوم قد بات أكثر وعيًا بما يحدث في العالم من حوله، وأكثر تأثرًا بالتطورات البعيدة منه، وأكثر تجانسًا في أنماط تفكيره وسلوكه مع البشر الآخرين. كما أن القوة والثروة أصبحتا تعتمدان في شكل متزايد على المعرفة. توفلر، 1992: ص33-34. وعلى الصعيد السياسي المباشر كان لانحسار الاستقطاب الدولي والصراع العقائدي أثره في تنامي الآمال بنشوء نظام دولي جديد، يستند إلى مبادئ الشرعية الدولية. وتعززت هذه الآمال في النصف الأول من العقد الأخير من القرن المنصرم، بعدما نجحت الجهود الجماعية المستندة إلى الشرعية الدولية في تحرير الكويت. ثم انطلقت المسيرة السلمية في المنطقة، وتحقق الاعتراف الدولي بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وبدأت المفاوضات من أجل تمكينه من ممارسة حقوقه في إقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة وعاصمتها القدس الشريف. غير أن المتطرفين، على تعدد توجهاتهم ومنطلقاتهم، ما كان ليناسبهم أن تستمر هذه التطورات الايجابية الواعدة، سواء على صعيد ما ترسخه العولمة من الاعتماد المتبادل والعيش المشترك في عالم متعدد، أو على صعيد ما تسعى إليه الجهود السلمية من حل للصراعات. ذلك أن هذه التطورات الايجابية تشكل تهديدًا مباشرًا لمواقع المتطرفين في السلطة، ولمبررات نفوذهم وهيمنتهم. وما ساعد على تعزيز موقف التيار المتطرف، تبدد الآمال والتطلعات التي صاحبت نشوء ما كان يعرف بالنظام الدولي الجديد، نتيجة لاستمرار نهج الازدواجية والكيل بمكيالين عند التعاطي مع قضايا منطقة الشرق الاوسط. فكان أن بادرت الاوساط المتطرفة في الجانب الاسرائيلي إلى إجهاض المسيرة السلمية وتصعيد العنف الذي شمل اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي نفسه. ومن ثم ظهرت قيادات إسرائيلية لا تتورع عن التنكر للاتفاقات المعقودة، وتتبنى سياسات الاحتلال والاغتيال والاذلال، وتمعن في ممارسات التجويع والحصار وتدمير الممتلكات وتدنيس المقدسات. وفي المقابل، تعالت أصوات في العالم العربي تنادي بالتخلي عن نهج الحلول السلمية، والأخذ بمبدأ الكفاح المسلح لمعالجة القضايا المصيرية، والتعامل مع الآخر بصورة سطحية لا تفرق بين أصدقاء وأعداء ومحايدين. أضف إلى ذلك، إنه مع تبلور النظام الاحادي القطب، وجدت الاوساط الاسرائيلية المتطرفة حليفًا قويًا لها في بعض الاوساط الغربية التي تتشبث بمفاهيم الهيمنة، وتحرص على إيجاد عدو واضح يسمح لها بالحفاظ على سياسات التعبئة، ويقطع الطريق على أي تحول إيجابي في النظام الدولي. وهكذا بدأ الترويج لمفاهيم تناقض مقتضيات العولمة وتعاكس توجهاتها. في حين تقتضي العولمة اعترافًا بالتعدد وانفتاحًا على الآخرين وترسيخًا للاعتماد المتبادل، نجد بعض الاوساط الغربية تروج لفرض هيمنة أحادية تحقق نهاية مزعومة للتاريخ البشري، أو تؤكد على حتمية الصراع بين الحضارات، متناسية المسيرة الانسانية القائمة على التعاقب الحضاري والتلاقح الثقافي. الحمد 1999: ص79. وإذا كانت مثل هذه المقولات المحرضة على الهيمنة والإقصاء راجت بفعل العولمة الاعلامية، كان من الطبيعي أن تستثير لدى بقية الثقافات ردود فعل سلبية قد لا تقل تطرفًا وضررًا. لقد أسهمت الاوضاع المتردية للشعب الفلسطيني واضمحلال آفاق الحلول العادلة، في جعل الجو مهيأ لتغذية التوجهات المتطرفة وتعميق دائرة العنف المتبادل. وفي غمرة هذا الجو وجدت بعض الجماعات المنحرفة عن الفهم الصحيح للقيم الاسلامية، الفرصة لتعزيز محاولاتها التغرير بالشباب المتحمس، وإيهامه أن الارهاب هو السبيل الوحيد لرفع الظلم واسترجاع الحقوق. وما هو مدعاة للأسف أن الفكر العربي لم يواكب ما حملته المتغيرات الدولية المتسارعة من فرص وتحديات. فبدلاً من التفاعل الايجابي مع العولمة انشغل بعض المفكرين بالتحذير من شرورها، وتهرب البعض الآخر من ممارسة النقد الذاتي والتحليل الموضوعي في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليهما. وكان للمناخ الفكري السائد الذي راجت فيه اتهامات الخيانة والعمالة أكبر الأثر في تقاعس المفكرين والساسة العرب عن التعامل بالعمق والسرعة المطلوبين مع تداعيات أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وكان حريًا بالعرب الذين عانوا طويلاً من ويلات الارهاب أن يكونوا أول المبادرين إلى استنكار جميع أشكاله ورفض جميع تبريراته. إن اتخاذ القرار الصائب لا يشكل ضرورة حتمية فحسب، بل لا بد لمواجهة الظروف الصعبة من ربط هذا القرار بالزمان والسياق المناسبين، قبل أن تجتازه الاحداث، أو تضعف أثره التطورات المتسارعة. وهو ما أدركته إسرائيل في وقت مبكر حين بادرت إلى تجيير المعركة لمصلحتها وعملت على الخلط بين الحرب العالمية ضد الارهاب وممارساتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني. من هذا المنطلق نرى أن التيارات المناوئة للعرب لم تأل جهدًا في استغلال أحداث الحادي عشر من أيلول من أجل تشويه العلاقات العربية-الغربية، وعرقلة المسيرة السلمية، والحيلولة دون تحقيق العدل والتوازن في النظام الدولي. وفي هذا الصدد يلاحظ زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الاميركي الاسبق، أن "هناك جهات لها مصالح استراتيجية تروج للعداء بين أميركا والعرب... وأن آرييل شارون يرحب كثيرًا بتدهور العلاقات بين الولاياتالمتحدة والمملكة السعودية". نيويورك تايمز 1/9/2002. وحسبنا أن نشير إلى ما نتج عن الهجوم الارهابي الذي تعرضت له الولاياتالمتحدة من تصاعد غير مسبوق في رواج التطرف المعادي للمسلمين هناك. فخلال عامنا هذا نُشر أكثر من عشرين كتابًا تتحدث عن خطر العدو الاسلامي، من بينها كتابان من الاعلى مبيعًا، كما تقلص عدد المرشحين المسلمين للانتخابات المحلية والفيديرالية إلى أقل من 100 مرشح بعد أن كان قد بلغ 700 مرشح عام 2000. لوس أنجليس تايمز 30/9/2002. إذا كانت فاعلية الجهود السياسية والديبلوماسية ترتبط إلى حد كبير بفاعلية الجهود الثقافية والاعلامية، فإن تضافر هذه الجهود يعد مطلبًا ملحًا لا غنى عنه إذا أردنا تصحيح مسيرة العلاقات العربية-الغربية، وتطويرها في شكل عادل ومتوازن يضمن تحقيق المطالب المشروعة والمصالح المستقبلية لكلا الطرفين. ولعل الدور الذي يقع على عاتق المثقفين والمفكرين والمبدعين العرب أصبح أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى، نظرًا إلى ما يروج في الغرب من صور نمطية مشوهة تغذيها حملات التحريض والعداء. لقد كادت هذه الصور أن تصبح من المسلمات الشائعة لكثرة تكرارها وعمومية انتشارها. ونسب إلى آينشتاين العالم الشهير قوله "إن شطر الذرة وتجزئتها أسهل من اقتلاع حكم مسبق من عقل الانسان". شايغان، 1993: ص110. إن مواجهة هذه الصور النمطية المشوهة إنما تتحقق عبر المبادرة إلى فضح ما تستند إليه من تزييف. ذلك أن جميع المتطرفين، مهما كانت مواقعهم ومقولاتهم، إنما ينطلقون من توهم وجود تعارض مطلق بين نقيضين لا يجمعهما جامع، ولا تنشأ قواسم مشتركة بينهما. ومن الثابت علميًا بطلان هذه المنطلقات المستندة إلى ثنائيات متناقضة. إن المروجين لهذه الثنائيات لا يتوجهون إلى الآخر بغية معرفة حقيقته كما هي، بل بهدف إثبات تناقضه المتوهم مع ما يعتقدون أنه جوهري في هويتهم الذاتية، وهكذا يصبح إثبات الذات مرهونًا بنفي الآخر وإلغائه. ومن هنا ندرك سبب احتفاء بعض الغربيين بكل ما هو أسطوري أو غريب لدى العرب، بغية إثبات أوهامهم بتفرد الغرب بالعقلانية المطلقة. وفي المقابل نجد بعض العرب يحتفون بكل ما هو شاذ وفاسد ومعبر عن الانحلال الأخلاقي لدى الغرب، بغية إثبات مزاعمهم بتفرد العرب بالطهارة الأخلاقية المطلقة. ومن المهم التنبه إلى مخاطر الانسياق وراء الردود الظرفية والانفعالية لمواجهة الحملات التحريضية، إن استنفاد الجهد في ردود الفعل يضر أكثر مما ينفع، كما أن مجابهة التحريض بتحريض معاكس من شأنها ترسيخ الصور النمطية المشوهة. وإذا كنا نستنكر، محقين، ما يقوم به بعض ساسة الغرب من استسهال التحيز ضدنا تحقيقًا لأهداف انتخابية محدودة، فإننا يجب أن نستهجن أيضًا ما يقوم به بعض العرب من استسهال الترويج لخطابات التحريض والعداء ضد الغرب، بإطلاقه، تحقيقًا لشعبية وقتية رخيصة. ولعل من أخطر التطورات الفكرية السلبية أن يشيع لدى بعض العرب اليأس، أو أن يستبطنوا الهزيمة الداخلية، فيروجون لخطابات اعتذارية غير مقنعة، أو خطابات تثبيطية تبالغ في جلد الذات واقتناص العيوب. إن الاستقالة والانكفاء واليأس ليست خيارات متاحة للأمم الحية والشعوب الراغبة في صنع مستقبلها وتقرير مصيرها. والذين يعتقدون أن الأمور حسمت وأن الهزائم استقرت، يتهربون من الاضطلاع بمسؤولياتهم، ويسهمون في تحقيق ما يتخوفون منه. إن محاولات البعض في الغرب تحويل الحرب على الإرهاب إلى هيمنة أحادية إقصائية من شأنها تعزيز مناخ التطرف الذي يتغذى عليه الارهابيون. وهذه المحاولات لا تتعارض مع المصالح العربية فحسب، بل مع مصالح جميع الدول والشعوب، بما فيها الدول الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة. بل إن قطاعات واسعة من الشعب الأميركي نفسه بدأت تتساءل وتشكك في جدوى توجهات الهيمنة. نيويورك تايمر 19 أيلول 2002. إن الجهد الفكري والثقافي والإعلامي المأمول يتطلب إذًا أن يصدر عن ثقة بالنفس قادرة على الانفتاح على الآخر، وعن اعتزاز بالانتماء لهوية حضارية عريقة تؤصل مفاهيم التعاون والعدل والتعايش السلمي، وعن شجاعة فكرية لا تتأثر بأباطيل المتطرفين وإرهابهم وحملاتهم. وإذا كنا نشهد اليوم أحداثًا تؤكد أن التدمير أسهل من التعمير، وأن البغض أيسر من التسامح، فإن الحوار المستمر من شأنه دحض الجهل الذي تتغذى عليه الأحكام المسبقة. وإذا كان المثقف هو ذلك الباحث الذي يسعى من دون كلل إلى معرفة الحقيقة، فإن من شأن البحث الجريء عن الحقائق، وشجاعة اكتشافها ونشرها، أن يحررنا جميعًا، عربًا وغربيين، من تشوهات الصور النمطية وأساطير التطرف الباطلة. كما أن المبادرات الفردية من المفكرين والمثقفين العرب لن تفي بالمطلوب ما لم تتضافر الجهود في عمل جماعي منظم وممأسس بغية استثمار منجزات العولمة وتقنيات الاتصال وشبكات الإعلام الحديثة، عمل يكتسب صفات الديمومة والاستمرارية والتراكمية فلا يتعجل النتائج أو يحرق المرحل، علم قائم على تعميق المعرفة العلمية الموضوعية، سواء معرفتنا نحن بالغرب وتفاعلاته ومؤسساته، أو معرفة الغرب بنا وبما يجمعنا به من مصالح مشتركة واهتمامات مستقبلية. ولعل مؤسسة الفكر العربي، بما تتوخاه من أهداف، وما تتضمنه من شخصيات رائدة، وما تستقطبه من جهود وإمكانات، وما تتميز به من استقلالية ومرونة، قادرة على الاضطلاع بنصيب وافر من هذا الدور المأمول في سبيل تصحيح مسيرة العلاقات العربية-الغربية، وتطويرها بما يحقق عدالتها وتوازنها، وإزالة التوتر الذي يهدد الحضارة البشرية كلها بمستقبل من النزاع لا ينتصر فيه أحد. المصادر: 1 - محمد جابر الأنصاري، 1996، الفكر العربي وصراع الأضداد، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 2 - محمد جابر الأنصاري، 2000، العرب والسياسة: أين الخلل؟، بيروت دار الساقي. 3 - آلفن توفلر، 1992، تحول السلطة بين العنف والثروة والمعرفة، مصراته: الدار الجماهيرية للنشر. 4 - محمد عابد الجابري، 1989، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. 5 - تركي الحمد، 1999، الثقافة العربية في عصر العولمة، بيروت: دار الساقي. 6 - زاريوش شايغان، 1993، أوهام الهوية، بيروت: دار الساقي. 7 - عبدالله العروي، 1978، أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخانية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 8 - نجاح كاظم، 2002، العرب وعصر العولمة، بيروت: المركز الثقافي العربي.