حكايات الرقابة العربية على الكتب والمجلات تتواصل لتؤلف مسلسلاً مأسوياً وكوميدياً في وقت واحد، وفي زمن جعله جهاز "الإنترنت" مفتوحاً على العالم ورياحه. وآخر الحكايات الرقابية إقدام الرقابة المصرية على منع العدد الجديد من مجلة "الآداب" ومصادرته، والسبب الملف الذي اعدته "الآداب" عن "الرقابة في مصر"، وكان مادة الغلاف مع صورة من احد الأفلام المصرية تبرز قبلة تعلوها علامة المنع. وكان على "الآداب" ان تستنكر سريعاً البادرة السلبية فأصدر رئيس تحريرها سماح ادريس بياناً ندد بهذه الخطوة وجاء فيه: "إذ تستنكر "الآداب" هذا الاعتداء الجديد على حرية الفكر وكرامة المثقف، فإنها تدعو كل مثقفي الوطن العربي الى رفع الصوت عالياً ضد القمع وتطالب السلطات المصرية بالإفراج فوراً عن صوت المثقف المصري". اما الملف فهو من 67 صفحة وضم ابحاثاً وشهادات من كتّاب ونقاد مصريين. ومن المحتويات: الرقابة على الصحافة المصرية: أيادٍ خفية لكنها فظة حقاً كارم يحيى، الرقابة على الإبداع الفني: فقه المصادرة وحماية المجتمع حسن عطيه، في السينما: رقابة أو لا رقابة؟ احمد يوسف، الخبز الحافي: وثيقة الإدانة سامية محرز، مقاطع من "الأدب والحرفية" ادوارد سعيد، من خطاب ادوارد سعيد الى متخرجي طلاب الجامعة الأميركية بالقاهرة، الرقابة وتوابعها نصر حامد ابو زيد، الرقابة وتلك الرائحة صنع الله ابراهيم، منشور سري قصيدة عامية وفاء المصري، الرقابة وحش يهدد الكتابة إدوار الخراط، الأرض الخراب سمية رمضان، حلم الحرية والتغيير ياسر شعبان، الرقابة مناخ بهيجة حسين، حيدر يكتب... وأنا أُسجن! حمدي ابو خليل، قمع الإبداع النسائي نعمات البحيري، دور النشر المصرية والرقابة تحقيق الحاج محمد مدبولي، محمد هاشم، حسين عاشور، صلاح الملا، ايمن الصياد. والملف أعده وقدمه الكاتب احمد الخميسي. وتناول في تقديمه قضية الرقابة معتبراً اياها "شكلاً خاصاً للقمع يوائم مجال الفكر والتعبير. ... غير ان هذا الملف يناقش قضية الرقابة من الزاوية التي جرت العادة على النظر خلالها الى الموضوع: اي الرقابة في مجال التعبير الفكريّ والأدبي، حيث يقف المثقفون في خندق دفاعاً عن حرية التعبير، وتقف السلطة في الخندق المقابل دفاعاً عن الرقابة. ولأن الرقابة عدو بغيض، فإن الجميع ينشغل في الغالب برشقها بالسهام من خلف المتاريس. وفي خضم العداوة، وغبار الاشتباك، قلما يلمح احد تلك الجسور الصغيرة القوية الممتدة بين الخندقين، او احذية الذاهبين والعائدين ليل نهار. ونادراً ما نلتقط انفاسنا لنتأمل احوال معسكرنا، ونتمعّن في حقيقة موقفنا من الرقابة، وفي العمق الفعلي للخصومة مع الدولة في هذا المجال". واستعرض احوال الرقابة قائلاً: "أولاً لنتذكّر الضجة المهولة التي اثارها نشر رواية "وليمة لأعشاب البحر" في آذار مارس عام 2000، ووقوف المثقفين المستنيرين جميعاً صفاً واحداً مع حرية الإبداع، او مع الحكومة ضد التيار "الديني"، او مع الروائي الكبير ابراهيم اصلان والأديب حمدي ابو خليل المسؤولَيْن عن نشر الرواية. وثانياً، لم تنقض سوى ثلاثة اشهر حتى ظهرت قضية اخرى في 17 حزيران يونيو من العام نفسه، حين حكم على الكاتب صلاح الدين محسن بالسجن ثلاث سنوات بسبب ما جاء في كتبه الثلاثة: "مسامرة مع السماء"، و"ارتعاشات تنويرية"، و"مذكرات مسلم"، فضلاً عن مصادرة تلك الكتب. وفي حين صدرت ضجة هائلة في حال "وليمة لأعشاب البحر"، فإن المثقفين في حال صلاح الدين غضّوا النظر عما يجري. والأكثر من ذلك ان لجنة الحريات التابعة ل"اتحاد كتّاب مصر" بدلاً من ان تستنكر مع الاتحاد سجنَ عضو من اعضائه، إذا بها تصرّح على لسان رئيسها بأن "صلاح الدين دخل الاتحاد بطريق الخطأ، وسيعيد الاتحاد النظر في عضويته". وثالثاً، بعد نحو عام في كانون الثاني يناير 2001 نشبت ازمة جديدة عُرفت بأزمة "الروايات الثلاث" وهي: "ابناء الخطأ الرومانسي"، و"قبل وبعد" و"أحلام محرّمة"، التي مُنعت من التداول لأنها "تخدش الحياء وتمسّ الدين والعقائد". هذه المرة استقرت غالبية المثقفين المستنيرين على موقف جديد تماماً: لا هو ضحة التأييد لحرية التعبير في حال "وليمة" حيدر، ولا هو الصمت الذي شيّعوا به صلاح الدين وكتبه الى السجن. هذه المرة انتقل المثقفون من تأييد الحرية، الى السكوت عن قمعها فإلى دعم كامل لضرورة بل وأهمية مصادرة الحكومة للروايات الثلاث! اما رابعاً، فلم تمر عشرة شهور من العام نفسه حتى أُلقي القبض على شهدي نجيب سرور في 22 تشرين الثاني نوفمبر لأنه نشر في موقع على الإنترنت "مواد تسيء الى سمعة البلاد"، اي قصائد والده الشاعر الراحل نجيب سرور. وحُكم عليه بالسجن سنة. وفي اول تشرين الأول اكتوبر 2002 سُجن شاعر شاب من بور سعيد يدعى محمد حجازي بسبب ديوانه "ضحكت شيرين"، وخيّم في المرتين الأخيرتين الصمت الغريب عينه، وهو صمت يثير الكثير من التساؤلات عن "عمق الخصومة" بين المثقفين والدولة في مجال الرقابة. ان ردود الأفعال المختلفة والمتناقضة على تلك الوقائع الأربع خلال اقل من عامين تدعو الى الظن أن حركة المثقفين الجارفة مع الحرية مرتبطة بحركة الدولة نفسها في هذا الاتجاه، او بحركة اجنحة من الدولة في صراعها ضد التيارات الأشد رجعية في المجتمع. وربما يتحرك المثقفون في شكل عشائري، وموسميّ، وشخصي، كأن يتعرض للإهانة كاتب كبير يكنّون له التقدير، فتصبح المسألة استنقاذ رقبة، لا الدفاع عن مبدأ في كل حادثة بغض النظر عن ابطالها .... وبعد ان يستعرض بعضاً من تاريخ الرقابة في مصر يخلص الى القول: "أفضى هذا الارتباط الى غياب اي برنامج مستقل لدى المثقفين في صراعهم ضد الرقابة. ولم تنجح حملات الهجوم المكثفة على حرية التعبير في دفع المثقفين الى تبني برنامج مشترك في مواجهة الرقابة، او الى التصدي للبنود الثقافية التي تتضمنها معاهدة كامب ديفيد".