يبدأ الالتباس في علاقة العرب بالغرب من تحديد هوية كل من طرفي العلاقة. فالعرب أعراب، لغتهم واحدة غير ان كلمتهم متفرقة. تاريخهم جلّه واحد لكنهم يستشرفون المستقبل كلاً بمفرده. دولهم قادرة لكن جامعتهم تختزل مراراً خلافاتهم ومراراً اقل قدرات دولهم. يقفون في امتداد جغرافي متصل، لكن حدودهم القاسية تكسّر ذلك التواصل. لذا فالأنا العربية غير مكتملة العناصر، لا سيما في مجال السياسة والمؤسسات كي نعتبرها، دونما تحفظ أو تردد، كياناً دولياً فاعلاً. والغرب ايضاً اغراب. فإن كان المحيّا العربي غير مكتمل، فالمحيّا الغربي متعدد الملامح، حتى بات السؤال مشروعاً - وقد سأله اهل الغرب انفسهم - هل ان الغرب موجود فعلاً؟ ففي الغرب اميركا وهي قارة في دولة، وفيه اوروبا، وهي ان استمرت في سيرورة توحدها فهي قد تصل الى إلغاء مفهوم الغرب من اساسه. وفي الغرب ايضاً بعض وسط اوروبا وشرقها الذي كان حتى الأمس القريب من ملحقات موسكو، بل في موسكو اليوم من بات يعتبر ان الغرب لن يكتمل من دون اندماج روسيا فيه، ناهيك عن اليابان وهي من الغرب في الاستراتيجيا وخارجه في التاريخ والجغرافيا، او اميركا اللاتينية وهي من ضواحي الغرب ثقافياً ولغوياً ودينياً وخارجه في مستوى المعيشة وطرقها. لا الأنا العربية مكتملة ككيان دولي فاعل ولا الآخر الغربي مستقر في كيانه. وإن كانت صورة طرفي المعادلة مشوشة الى هذا الحد، فكيف تنجو العلاقة نفسها من التشوش؟ ولا يخفف الحيز الزمني من تشوش المدى المكاني بل يفاقمه، فلأوروبا كما للعرب ذاكرة عميقة وحية تلهم مسلكها، بينما يعيش الأميركيون إجمالاً، على عكسنا، وعلى عكس اوروبا، في الراهن من الزمن وفي الجنوح لصنع المستقبل القريب. وبالأمس كان الغرب غرباً بقدر ما كان يواجه شرقاً، تحدد الإيديولوجيات الماركسية معالمه من هانوي الى هافانا. لكن الغرب خرج من الحرب الباردة منتصراً، فاندثر شرق الأمس، وبقي الغرب يبحث عن شرق جديد يساعده من خلال التنافس والتسابق، على إعادة بناء هويته. واعتقد الغرب انه وجد الشرق الجديد في الصين ثم توهم ان الشرق الضروري وجوده لكي يكون هناك بالفعل غرب، هو الإسلام. والحق ان الغرب لم يجد بعد شرقه والمرشحون كثر. والغرب يدرك ان ليس هناك من غرب إن لم يكن هناك من شرق، وليس بعد من شرق لكنه لا ريب آت. وفي الانتظار، فإن غرب اليوم لم يعد كغرب الأمس. فمركزه بات في دولة واحدة تضم 5 في المئة من سكان الأرض فقط، لكنها تمثل في الواقع 25 في المئة من اقتصاد العالم و45 في المئة، بمفردها، من إنفاقه العسكري. ولم يجد الغرب بعد دواء لهذا الانعدام الصارخ في توازنه الداخلي المتأتي من انعدام التناسق في مصادر قدرات الدولة الأعظم فيه. وبإزاء تبدل خطوط الجغرافيا والتباس الحيز الزمني، تزداد علاقتنا بالغرب تشوشاً بفعل حركة العولمة التي اطلقتها منذ نحو عشرين عاماً ثورة الاتصالات المتسارعة. فاستعمالنا للهاتف الجوال والتلفزيون الفضائي وشبكة الإنترنت يثير فينا شعوراً عميقاً بأننا نشترك مع الغرب في زمن واحد. لكن هذا الشعور لا يلبث ان يتلاشى حين نرى اننا في موقع المستهلك لمنتجات ثورة الاتصالات بينما الغرب في موقع المنتج لها، وبأننا واهمون ان اعتقدنا ان في وسعنا الانتقال من موقع المستهلك الى موقع المسهم في الإنتاج، ان اكتفينا باستيراد المنتجات من دون تبني المنظومة الفكرية والعلمية التي تسمح للغرب بأن يكون منتجاً لها. هكذا تزداد العلاقة التباساً، إذ يرى كثيرون منا ان العولمة خطر داهم بل شكل من اشكال الهيمنة وقد تزيت بملابس تكنولوجية جديدة. ونحن العرب عموماً حساسون لكل مشاريع الهيمنة لأننا عرفناها وذقنا مرارتها. غير ان رفضنا لها يلهينا عن التنبه للخطر الأكبر المتأتي من سيرورة العولمة، وهو ليس إنتاجها لأشكال من الهيمنة جديدة بقدر ما هو تهميشها لغير المنخرطين فيها، حتى إشعارهم بأنهم مندثرون من جراء عجزهم عن المشاركة او رفضهم لها. وحساسيتنا إزاء الهيمنة لا تلهينا فقط عن خطر التهميش، وهو الأعظم، بل تنسينا ايضاً ان العولمة هي فرصة لتعزيز موقفنا في العالم الرحب بقدر ما هي خطر على مجتمعاتنا. لهذا كله، فإن علاقتنا بالغرب ملتبسة في كينونة طرفيها، وهي بالتالي اشكالية في سيرورة صياغتها، تثير فينا قدراً من المخاوف المشروعة وتدفع ببعضنا لإشاحة النظر عن التفكير بها او عن الاقتناع بجدواها، كما تحمل بعضنا الآخر الى العجز عن تصورها إلا من خلال مفردات العداء والنزاع. وإن نحن تخوفنا من التواصل مع الغرب فلأنه يثير في آن معاً إعجابنا وحفيظتنا. ونحن نعبّر بالإجمال عن الأول لذواتنا وللخلّص من مخاطبينا، وعن الثانية في خطابنا المعلن. والخوف من التواصل مشروع ايضاً لأن الندية بين الطرفين غير متوافرة ولا هي قابلة للاكتمال في المستقبل المنظور، لا في القدرة العسكرية ولا في مستوى المعيشة. فالغرب خرج من القرن العشرين منتصراً على ذاته في حرب عالمية اولى، وعلى ابشع ما أنتجه من افكار شريرة في حرب عالمية ثانية، وعلى غريمه السوفياتي في الحرب الباردة، بينما خرجنا نحن من القرن العشرين وقد فزنا باستقلالنا السياسي غير اننا لم ننجح تماماً في تنميتنا، وفشلنا في تحقيق قدر معقول من وحدتنا، وهزمتنا اسرائيل غير مرة في ساح القتال. وإسرائيل سبب آخر لخوفنا من التواصل مع الغرب. صحيح ان علاقة العرب بالغرب لم تكن دوماً سمناً وعسلاً عبر التاريخ وقبل فقداننا فلسطين، ولقد التقينا معه في ساح القتال مراراً، على ارضه حيناً وعلى ارضنا احياناً عدة. لكن نشوء دولة اسرائيل لعب دوراً اساسياً في تفاقم العلاقة إذ نشعر جميعاً بأن الغرب قد قذف الى قلب امتنا بمشكلة عجز عن حلها فدفعها الى خارج اراضيه وحمّلنا بالتالي مسؤولية خطيئته تجاه اليهود وتبعة اقترافه جريمة كبرى بحقهم. ولم يكتف بذلك فإذا به ينحاز لعدونا من دون تردد، حتى وصل انحياز اميركا لجانب اسرائيل اليوم الى ما يقارب التماهي التام في الأهداف والوسائل. والخوف من التواصل مع الغرب مشروع ايضاً لأن انعدام الندية بين طرفيه يدفع الغربي احياناً كثيرة الى مسلك يصعب على اي كان القبول به. فإعجاب الغربي بنظامه السياسي والاقتصادي يتحول بسهولة الى تبجّح مفرط. واستعراضه لقدراته العسكرية او التكنولوجية لا يخلو يوماً من الاعتداد. وشعوره بالتفوق المادي يحمله على الاقتناع بنوع من التفوق الأخلاقي او الحضاري ونصائحه المسداة إلينا وإلى غيرنا تبدو نصائح في الشكل، أوامر في المضمون. وهذا المسلك الفردي أو الجماعي لدى الكثيرين في الغرب تفاقم طبعاً بعد أحداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر. ولا يشكل ذلك اليوم طبعاً لا بداية التاريخ، ولا نهايته. لكنه حدث خطر وخطير، وما بات الآن يمثل خطورته تلك الاستنتاجات التي توصل اليها بعض الغرب من جراء حصوله، كمثل استسهال استعمال القوة العسكرية لتغيير انظمة الحكم في العالم، أو كمثل اعتبار المنظمات الدولية بلا جدوى إن لم تتبن منطق الأقوى، أو كمثل اعتبار القانون الدولي ملزماً للضعيف من دون القوي، أو كمثل النظر الى العالم وكأنه هرم من الحضارات والأديان المختلفة بعضها في القمة وبعضها الآخر في الدرك الأسفل، أو كمثل توقع صدام محتم بين الحضارات وكأنها اطراف مكونة فعلاً تتصادم أو تتحاور، علماً بأنها ليست اطرافاً إنما مجرد منابع لقيمنا واذواقنا وطرق عيشنا نعود اليها تكراراً لإعادة بناء هوياتنا. كان الحادي عشر من ايلول يوم شؤم على العالم وعلينا أكثر من غيرنا، فزاد من صعوبة بناء علاقة سوية بين العرب والغرب، وقد يكون ذلك هو تماماً ما قصده فاعلوه، ويجب ان نعترف لهم آنذاك بنجاح فعلتهم. لكن الخلاصات التي توصل اليها الغرب منذ ذلك اليوم لا تقل خطورة عن الحدث نفسه، ما ينبغي ان يحمل من تحمسوا لتلك الفعلة ان يعيدوا النظر بتمعن في نتائجها الحقيقية البعيدة المدى. وقد تكون كلمة واحدة في عنوان مؤتمر مؤسسة الفكر العربي تشي بمفردها بكل هذه المخاوف المتراكمة. فها نحن نجتمع للبحث في علاقة "عادلة" مع الغرب، وشعورنا الدفين ان البحث عن العدالة يلهم مقاربتنا ولا يؤثر فعلاً في مسلكه، وكان العرب يريدون من ميزان العدالة ان يصحح ميزان القوى، والغرب يتصرف من جانبه وكأن ميزان القوى هو عينه ميزان العدالة. فما العمل؟ تفرض هذه العجالة التبسيط وهنا بعض إشارات هدفها إثارة التفكير ليس إلا: - علينا اولاً تحكيم الدقة في تشخيصنا للعلاقة والعقل في مقاربتنا والاعتدال في احكامنا. فلا نعمم نظرتنا من الجزء للكل ولا نختزل الغرب الى بعضه ولا علاقتنا المعقدة منه الى جانب واحد من جوانبها دون غيره. - وعلينا ثانياً ان نتجنب نقل المفردات الحربية من غزو وهجمة وحملة واجتياح وخندق ومعسكر الى مقاربتنا الثقافية أو السياسية. فالقطاعات مختلفة والمفاهيم والمفردات ايضاً. وما يصح في باب المنازلة العسكرية لا ينطبق بالضرورة على مسارات التواصل الحضاري أو الديبلوماسي. - وعلينا ايضاً ان يكون لدينا استغراب يضاهي استشراقهم فتكون معرفتنا بالغرب بمستوى دراسته الطويلة لنا ولأفكارنا ولمجتمعاتنا ولتاريخنا ولقدراتنا. وهذا يعني نقلة حازمة في نوعية تعليمنا. فإذا كان هاجسنا في القرن العشرين هو انتشار التعليم بمختلف مستوياته فهاجسنا في القرن الجديد يجب ان يتركز على إنتاج المعرفة وليس الاكتفاء بانتشار ما هو متوافر لنا منها على اكبر عدد من ابنائنا. وانتاج المعرفة يبدأ بالتعرف الدقيق، العلمي، الرصين على الآخر وعلى الآخر الغربي بالذات. - وعلينا ايضاً ان نعي ان تملكنا الحقيقي للقدرات التقنية لا يكون فقط باستعارة منتجاتها من الغرب بل ايضاً واساساً بتملكنا المنظومة المفهومية، بل الاخلاقية، التي سمحت للغرب ان يكون مصدراً لتلك المنتجات. - وعلينا ايضاً ان نكوّن لأنفسنا موقفاً راشداً من العولمة، فلا نعتبرها مجرد شكل من اشكال التغرب أو الأمركة فلا ننخرط فيها من دون تردد ولا نرفضها من دون واقعية، بل نعتبرها فرصة لنا بقدر ما هي خطر علينا. - وعلينا ايضاً ان نخرج بحزم من منطق الخلوة الثنائية بيننا وبين الغرب. فالعالم مكوّن من حضارات عدة، وعدد منها يعيش إشكاليات العلاقة بالغرب بالحدة التي نشعر بها نحن. فلنخرج اذاً من الثنائية المفرطة في العلاقة مع الغرب، ولنعمل مع آخرين كثيرين لتعزيز التنوع الثقافي وتعدد مراكز القوى في عالم الغد. - وعلينا ايضاً ان نتمسك بثوابتنا وان يكون لنا الصبر الضروري لتجاوز مرحلة من اصعب مراحل تاريخنا المعاصر، فلا تتحوّل تخوفاتنا الى هلع، ولا آمالنا المشروعة الى أوهام، ولا نتنازل عن قناعاتنا تحت ضغط اللحظة، فالعالم الأحادي القطب ليس الا فصلاً عابراً في مسار النظام الدولي، استثنائياً في طبيعته، قصيراً في مدته. - وعلينا اخيراً ان نثق اكثر بخبرة شبابنا وحكمتهم ومعرفتهم، وهم اكثر ادراكاً منا بمسارات العولمة وبوسائلها. وعلينا ان نثق اكثر بجالياتنا في الخارج وهي أعمق معرفة منا بالغرب الحقيقي، بالغرب المعيوش فعلاً لا المتصور من بعد أو المتوهم عن جهل. هذا ما علينا، اما ما على الغرب فهو كثير. لكن الغرب ادرى بمصالحه. اما اهتمامي فهو بأبناء جلدتي، أحلم معهم بالمستقبل الذي يستحقون، واعمل معهم على تحقيقه. * وزير الثقافة في لبنان. والنص هو المداخلة التي قدمها في المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي الذي عقد في القاهرة في 26/10/2002.