تتميز السينما الشابة ومنذ سنوات عدة - في نظر النقاد على الأقل - بانطلاقها من الصورة وما تقول ورجوعها إليها. وذلك على عكس آراء اجيال السينمائيين السابقين من الذين كان يقال إنهم أتوا الى السينما وصورها انطلاقاً من الأفكار والقضايا ولغات الأدب والمسرح التي تبدو ظاهرياً وكأنها على نقيض مع "الصورة" السينمائية المفترضة. فهل علينا ان نستطرد هنا لنشير الى ان الصورة في السينما الجديدة بأفلامها الطويلة او القصيرة، الروائية او التسجيلية باتت طاغية في الشرائط؟ هل تجرنا هذه الفرضية نحو رصد خلل جديد هو المقابل للخلل السابق في العلاقة بين الصورة والكلمة لمصلحة الصورة على حساب الكلمة هذه المرة؟ سؤال يطرح الآن بقوة وبخاصة من السينمائيين الشبان انفسهم الذين، إذ يعيشون داخل افلامهم، ولا يفوتهم ان يلحظوا منذ لحظات اعداد الفيلم انه كان يجدر بهم ان يلجأوا الى توازن اكبر بين عنصري السينما المكونين هذين. ثم ما هي هذه العلاقة بين الكلمة والصورة؟ سؤال قد يصح طرحه قبل ذلك، ولقد طرحناه بالفعل على مجموعة من النقاد ومن اهل المهنة المتعددي الجنسيات والاهتمامات فأتت اجاباتهم متكاملة حيناً، متناثرة حيناً، لكنها في مجموعها تشكل ارضية ممكنة لسجال مفتوح، خصوصاً إن الذين توجهنا إليهم بالسؤال هم، كما بدوا لنا اكثر قدرة من السينمائيين المعنيين انفسهم على رصد الأسس التي قامت عليها، في الماضي، وتقوم عليها في الحاضر والمستقبل تلك العلاقة بين الكلمة - الصورة باعتبارها مسألة شائكة سجالية. نذكر جيداً ان شارلي شابلن وبيلا بالاش كانا من اوائل الذين طرحوها حتى قبل ان تصبح السينما ناطقة، اي وقت كانت الكلمة تشكل جزءاً من الصورة نفسها لا قطباً مغايراً يتكامل معها ونعني بهذا تلك الحوارات التي كانت تكتب على لوحات فتضحي بدورها صورة كالصورة. وهو اسلوب نجد تطويراً له في السينما الحديثة منذ غودار الى اكرم الزعتري باعتماد الكلام جزءاً مكملاً للصورة في لعبة توليف تذهب في معانيها الى اكثر من الشؤون الجمالية بعض الشيء. وإذا كان الفيلسوف الألماني ليسنغ قال قبل قرن من وصول فن السينما الى ذروته "عما قريب ستتلاشى الهوة بين الكلمة والصورة" يصبج من الممكن ان نقرأ هنا استطراداً لهذا القول او معارضة له او تنويعاً عليه لدى نقاد وسينمائيين من امثال بندر عبدالحميد، علي أبو شادي وقيس الزبيدي... وصولاً الى عبدالحي اديب. من الذين شاركونا في هذا التحقيق مؤسسين لسجال نتمناه مفيداً للصورة، للكلمة، للسينما كلها ولأجيال مبدعيها المتعاقبة. لا تعارض الناقد السوري بندر عبدالحميد لا يرى في الأساس وجوب وجود تعارض بين الصورة والكلمة فيقول: "ربما تشبه العلاقة بين الكلمة والصورة، في شكل ما، تلك العلاقة بين العين والأذن. ومع عجز العين البشرية عن التقاط كل ما هو موجود في الطبيعة، إلا انها تظل اكثر فاعلية من الأذن التي تعجز عن التقاط انواع من الأصوات، أو الذبذبات الصوتية. فرضت التقنية الجديدة العالية نفسها على صناعة الفيلم، صوتاً وصورة، وكانت هناك مخاوف من ابتلاع التقنية كل ملامح اللمسة البشرية والحس الإنساني في العمل الفني، وارتبطت التقنية العالية في السينما بمظاهر خطرة من العنف والصخب والرعب والقتل الإلكتروني حتى في افلام الأطفال، وهذا ما يبدو اكثر وضوحاً في السينما الأميركية التي تنتمي الى نظام "الصناعة الثقيلة". الكلمة وسيلة اتصال محدودة بين المرسل والمتلقي، اما الصورة، ابنة الكاميرا، فهي "شخصية" تفرض نفسها على المتلقي في عملية التواصل، ويمكن ان نقول ان العلاقة بين الكلمة والصورة محكومة بموقع الكلمة وموقع الصورة بين مجموع الكلمات والصور. للصورة لغة عالمية، وهي مشروطة بأساليب الرؤية والثقافة البصرية، وفي الماضي البعيد تحدث الناس عن زجاجة سحرية زرقاء تعكس صوراً غريبة ليست متاحة في مجال الرؤية اليومية، وكان بعض الناس يعتقدون انهم يرون صورة المحبوب منقوشة على وجه القمر، فالعين يمكن ان تتخيل وتتوهم وتحلم وتتذكر الصورة، وقد نسمع في حوارات الحب بين الناس العاديين من يقول: "صورتك في قلبي، وهذا يوصلنا الى واقع ان العلاقة بين الصورة والكلمة علاقة خطرة، تشبه العلاقة بين خيوط من مادتين مختلفتين في نسيج واحد، فالانسجام بينهما مشروط بالخبرة والإبداع، وليس لدينا ميزان كميزان الذهب، ولكن الجرعة الزائدة في الكلام تقود العمل الفني الى المباشرة، والثرثرة، وهناك جرعة زائدة في الصورة قد تصل الى الثرثرة المرئية. والثرثرة عموماً تصادر فضيلة التأمل، في المرئي والمسموع. وكان العرب القدامى يؤكدون ان الإعجاز في الإيجاز، اما اليوم فإنهم من اكثر الشعوب استهلاكاً للخطابة والثرثرة، في الصوت والصورة". فيلم من دون كلمة؟ يشك المخرج النمسوي بيتر باتساك الذي التقيناه خلال ترؤسه لجنة تحكيم الدورة الأخيرة لمهرجان دمشق الدولي بوجود فيلم من دون كلمة، إذ يعتبرها اساساً للعمل السينمائي وإن لم تنطق، فالفكرة تترجم أولاً بالكتابة. كما ان السينما معنية بأبحاث الروح والنفس لذا تصور كل اشكال الصراع الفرنسي البشري، والبشر يتحاورون في رأيه وبالتالي "لن تستطيع السينما الاستغناء عن الحوار كلغة للإيصال". لكن كون السينما اختراعاً لاستقبال كثير من الحواس، فالصورة هي التي تجعل من الفيلم حقيقة، خصوصاً ان المتفرج اعتاد على رؤية الصور وترجمتها الى إشارات وعلامات، بالتالي عوضت عن الحوار ان لم يكن له ضرورة. اما الناقد السينمائي المصري علي ابو شادي فيؤكد ان هذه العلاقة حتمية وترتبط ب"الضرورة". ويضيف "في السينما شريط صوت وشريط صورة. والكلمة المنطوقة هي واحدة من عناصر الصوت، تضيف للصورة بحسب ضرورة وجودها. إذاً هي لعبة صوت وصورة شرط وجود تشابك حقيقي. قد تستغني الصورة عن الكلمة حيناً وبالضرورة تحتاجها حيناً آخر. لكن الصورة تبقى الأساس، إذ لا وجود لسينما من دون صورة لكنها موجودة احياناً من دون كلمة". علاقة جدلية هذه العلاقة الحتمية يراها المخرج السوري محمد قارصلي "جدلية" ومن وجهة نظره كمخرج يقول: "اميل كمخرج للصورة اولاً والكلمة تأتي حين تعجز الصورة عن التعبير. غالبية الأعمال المهمة تؤثر فينا لحظات صمتها اكثر من اي جملة شعرية. السينما، المسرح، والتلفزيون فنون بصرية يجب ان تبنى على الصورة اولاً. وما شابه من ثرثرة كلامية كان نتاج فهم خاطئ للمسرح إذ اعتقد سابقاً انه عبارة عن نص فقط، كما أثر دخول التلفزيون بقوة وتوجهه الى شرائح عدة منشغلة عن المتابعة بالتالي هي بحاجة الى سماع تفسير ما يرى على الشاشة، وكون السينما فناً ديناميكياً بتطوره، استطاعت حالياً الى حد ما التخلص من كل هذه التأثيرات". ويرفض المخرج العراقي المقيم في ألمانيا قيس الزبيدي" المقارنة بين الكلمة والصورة ويرى ان يقارن بينهما كنظام علامات لكشف الفرق بين النظامين "تعتبر اللغة المنطوقة اداة للتأثير غير كونها للتواصل، بينما السينما وبقية الفنون البصرية اداة ايصال. لا نستطيع ابتكار صورة من دون ممارسة تفكير عبر الكلمات، وبالتالي نظام الكلمات يلقي كل خصائصه وثقله على ابتكارنا للصورة، عملية التحويل هذه من الكلمة الى الصورة هدفها الوصول الى علامات مختلفة. قيمة الكلمة ان تتحول الى صورة وبالتالي تلغي نفسها. لا نكتب ادباً في السينما إنما وصفاً للصور والأصوات وبالتالي نظام العلامات هو الأساس في السينما. العلاقة بين الكلمة والصورة معقدة جداً تحدد بحكم معرفة طبيعة العلامة الكلامية والبصرية في الإبداع السينمائي". إذاً الكلمة برأي الزبيدي "هي اداتنا للتصور والتفكير" ولا يمكن انجاز عمل من دون لغة، المهم معرفة طبيعة الكلمة وعلاقتها بالصورة ضمن هذا التقابل والاختلاف ما يسهل عملية الابتكار في السينما. الصورة اصدق "السيف أصدق إنباءً من الكتب" قالها ابو تمام واستشهد بها الناقد السينمائي المصري كمال رمزي ليقول "الصورة اصدق إنباءً من الكلمة، فالصورة تمسك الحقيقة وتجمدها في لحظة واحدة وإن كانت متحركة نطلق عليها اسم الوثيقة. وإذا كانت السينما بشقيها الوثائقي او الروائي تحاول امساك الحقيقة فلا بد من وجود الصوت، حتى الصمت صوت، وأهم هذه الأصوات هو البشري لقدرته على خلق حوار بالتالي للحوار قيمة رفيعة جداً ان ابتعد عن الثرثرة وعن كونه عبئاً على الصورة، وكما ان العين تسمع فالأذن ترى ايضاً، لذا لن يتلاشى الصوت عن السينما وإن حصل ذلك في السينما التجريبية. لا وجود لحدود قاطعة بين الصوت والصورة، قد نرى فيلماً لافتاً يعتمد في معظمه على الحوار، العمل الفني فقط يجعلنا نحكم ان استخدمت الكلمة في شكل متوافق مع الصورة ام لا". الصورة وثيقة يتوافق رأي الناقد كمال رمزي مع رأي المخرج المصري محمد كامل القليوبي حول اعتبار الصورة وثيقة نشاهد الحقيقة من خلالها. "فهي غير قابلة للكذب عكس الكلمة كعلامة اتفاقية، لذا نجد اعتماد المجتمعات الكاذبة على الكلمة اكبر بكثير من الصورة فالكلمة مثلاً سلاح العرب البتار، والحضارة العربية هي حضارة كلمة. تجمع السينما بين العلامة الاتفاقية "اللغة" والعلامة الأيقونية "الصورة"، بالتالي نجد علاقة من نوع مختلف، كل علامة تحول الأخرى، الصورة تصبح اتفاقية، والاتفاقية تغدو ايقونية. في علاقة متداخلة تتطور في شكل مذهل، يرى القليوبي تطوراً اكبر في الصورة مع التكنولوجيا مقارنة بالتطور الضئيل للغة، ويعزو ذلك لدى العرب تحديداً للمرجعية المقدسة للكلام. لكن السينما برأيه تأخذ العامية وتضعها مع صور لتتحاور معها. إذاً، فالعلاقة مركبة وتزداد تعقيداً بزيادة ثراء الصور وتركيبها وجعل الكلمة تتحول عن صور السرد القديمة في القصص والأدب... اما عبدالحي اديب كاتب السيناريو المصري فقد اوجز اجابته قائلاً: "اكسب الصوت السينما الواقعية فأصبحت صوتاً وصورة، لكنه خلق في المقابل كسلاً لدى كتّاب السيناريو الحاليين، اذ جعلوا من الحوار حلاً لأي مشكلة تعترضهم، على اي حال لكل شخص مدرسته الخاصة، في ايامنا هذه نرى أفلاماً تعتمد كلياً على الكلمة وهي جميلة، في المقابل نرى في اخرى اعتماداً على الصورة والإبهار والتكنولوجيا التي تفوق خيال الإنسان وهي جميلة ايضاً... لكل جماليته الخاصة والمختلفة".