تشكل فكرة النموذج طريقة مناسبة لدراسة التمدن في المجتمعات العربية عموماً وفي المجتمع السوري خصوصاً، وهي لا تزال تعد احد الأركان الأساسية في البحث الاجتماعي. وفكرة النموذج عبارة عن نوع من التجريد البسيط يرتبط بوضع معياري معيّن لفهم طريقة الأفعال الواقعية. فالنموذج ليس إلا افتراضاً عقلياً لما يحدث في الواقع حيث يتطابق مع نماذج السلوك الواقعية. ونموذج الثنائية الثقافية يرتكز الى فكرة مؤداها ان الخصائص الثقافية المدينية والخصائص الثقافية الريفية توجدان في كل قرية ومدينة بنسب متفاوتة وبدرجات مختلفة، وتعيشان جنباً الى جنب. ويكاد ينعقد الاتفاق بين علماء الاجتماع على مجموعة معايير تشكل الفروق الريفية المدينية يمكن إرجاعها في النهاية الى فروق ايكولوجية ومهنية وأخرى خاصة في البناء الاجتماعي. فالمنطقة الريفية تتميز ببعض السمات كصغر الحجم وقلة عدد السكان، وسيطرة العمل الزراعي وتربية المواشي والبيئة الطبيعية، وتجانس السكان وقلة التدرج الاجتماعي وسيطرة العلاقات الشخصية وشدة التضامن الاجتماعي، والتمسك بالمعتقدات والتقاليد الاجتماعية التقليدية وسيادة الاتجاه الجمعي. وفي مقابل هذا تتميز المدينة بضخامة حجم الوحدات العمرانية وشدة الحراك الاجتماعي، ووضوح التدرج الاجتماعي وسيطرة العلاقات الاجتماعية الرسمية، وسيادة الاتجاه الفردي، وبروز عمليات التنافس وضعف التماسك الاجتماعي، وتضاؤل الميل الى التمسك بالمعتقدات والأعراف والعادات الشعبية. وانطلاقاً من مفهوم الثنائية الثقافية، فإن هذه الخصائص موجودة في كل من القرية والمدينة. وبقدر ما تنتشر الخصائص المدينية في المجتمع الريفي بقدر ما يقترب الأخير من المجتمع المديني الى ان يصبح مدينياً نوعاً ما. وعلى هذا الأساس يتحدد مفهوم التمدن على انه العملية التي يكتسب الأفراد والجماعات بمقتضاها الحياة المدينية سواء كان ذلك من طريق الهجرة الى المدينة ام من طريق انتشار هذه الخصائص من المدينة الى القرية من طريق وسائل الاتصال المختلفة. وتمارس قرى ومدن الحسكة ودير الزور والقامشلي نشاطاً اقتصادياً مزدوجاً، تقليدي يمثل رواسب الإنتاج الزراعي القديم بما يشتمل عليه من محاصيل وأدوات وطرق إنتاجية تقليدية في سبيلها الى الزوال، وآخر متطور يتمثل في زراعة القمح والشعير والقطن. كذلك فإن قرى دمشق وطرطوس تمارس مثل هذا النشاط المزدوج حيث يبرز الاتجاه المتطور في زراعة الزيتون وبعض انواع الفاكهة والحمضيات والخضراوات واستخدام ادوات وطرق زراعية فنية حديثة. ويشتمل نموذج الاقتصاد المتطور في دمشق وطرطوس واللاذقية على نسبة كبيرة من سكان القرية تعمل في الوظائف الحكومية والأعمال التجارية وممارسة بعض الحرف والمهن البسيطة. وأبرز ما أدت إليه زراعة الزيتون وبعض انواع الفاكهة في دمشق والحمضيات في اللاذقية والفستق في حلب والحبوب والبقول في درعا والتفاح والكرمة في السويداء هو ظهور ما يعرف باقتصاد السوق والعمليات التجارية البحتة. وقد أدت تجارة السوق بالفلاحين الى الدخول في المغامرات والمضاربات التجارية وتوظيف رؤوس الأموال واستثمارها. وترتب على هذا تعديل في الثقافة اللامادية فبرزت قيم المنافسة والتعليم والمنفعة الشخصية وسيطرة العلاقات الرسمية وبروز الروح الفردية وتطور في الحراك الاجتماعي وتضاؤل قيم اساسية كثيرة كالإنجاب والتعاون وضعف التمسك بالمعتقدات والحكايات الشعبية مثل زيارة اضرحة الأولياء واصحاب الكرامات والممارسات السحرية على اختلاف اشكالها وأنواعها. ولا شك في ان هذه المظاهر الثقافية هي من مقومات عناصر الثقافة المدينية. وعموماً يمكن القول ان اشكال الثقافة المادية واللامادية السائدة في مجتمع ريف دمشق ليست كلها من النمط التقليدي البحت، وليست كلها ثقافة مستحدثة، بل يسود النمطان في مجتمع القرية بدرجات ونسب متفاوتة. وهذا الوضع يعتبر بيئة صالحة للتنافس بين القديم والحديث حتى يُكتب الحسم في النهاية لما هو اكثر ملاءمة للوضعية الثقافية القائمة. كذلك فإن انتشار كثير من خصائص الثقافة الريفية في مجتمع المدينة كحمص وحماة وطرطوس ادى في النهاية الى انتشار ما يُعرف بظاهرة ترييف المدينة. وتشير هذه الظاهرة الى إدخال معظم عناصر الثقافة الريفية الى المدينة من طريق المهاجرين الريفيين. وعندما تزداد نسبة المهاجرين الريفيين تصبح المدينة مسرحاً لأنماط الحياة الريفية بخاصة في الفترات الأولى للهجرة حيث يكون المهاجر شديد التمسك بعاداته وتقاليده وقيمه ومعاييره الاجتماعية الموروثة التي تقوم اساساً على كثافة الضبط الاجتماعي والعلاقات الشخصية والولاءات العائلية والقبلية والسلطة الأبوية المطلقة. وما يساعد في تكوين حياة ريفية في المدينة هو حجم الجماعات المهاجرة وتجمعها في مكان معين وبخاصة عندما تكون من بيئة ثقافية واحدة او من إقليم جغرافي واحد. فتعيد بناء الحياة الريفية من جديد كبعض الأحياء حول مدينتي دمشق وحمص. والشيء نفسه حدث منذ بداية التمدن والنمو المديني في مدينتي حماة وحلب حيث كان تأثير القرية في المراكز المدينية اشد من تأثير الأخيرة فيها ما ادى الى ترحال الكثير من القيم والمعتقدات والاتجاهات الريفية الى المدينة من طريق هجرة الريفيين بأعداد كبيرة. ويمكن من خلال تأسيس بيانات إحصائية تفصيلية تتصل بأنماط الحياة الاجتماعية والاتجاهات السلوكية المختلفة في كل من قرى حمص واللاذقية ودرعا والسويداء، ان نتوصل الى عدم وجود فوارق ذات دلالات جوهرية بين ثقافة هذه المدن وقراها. كما يمكن ان يتوصل المرء الى ان كثيراً من القيم والأنماط والسلوكية المدينية تسود مجتمع القرية وأبرزها الميل نحو الحرية الفردية كمدينتي دمشق وحلب والقرى المحيطة بهما حيث اتسعت الحركة العمرانية فيهما وتداخلت مع محيطهما الريفي. يتضح من هذه الملاحظات ان هنالك نوعاً من التقارب في النسق القيمي الريفي المديني، ويوضح هذا التقارب في النسق القيمي الى تعدد وسائل الاتصال الرسمية وغير الرسمية وقنواتها بين القرية والمدينة وإلى حداثة بعض المدن السورية.