بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، حدث ان قررت على المستوى الشخصي البدء بالتدخين، بالسرّ طبعاً، وبعيداً من المنزل والاهل. الامور سارت على ما يرام، ودخلت في حينه دائرة المدخنين بسرعة، وصرت من الذين اضافوا الى شكلهم الخارجي علبة السجائر المستطيلة مع شيء من المراعاة والخوف من الانكشاف، يومها لم اكن اتجاوز السادسة عشرة من العمر. بعد اقل من شهر، وجدت نفسي مضطراً لمغادرة لبنان باتجاه الجمهورية الاسلامية في ايران، وعبور جميع الحواجر الاسرائيلية التي كانت منتشرة على طول الطريق وصولاً الى اطراف بلدية صوفر الجبلية. في العاصمة الايرانيةطهران، والاتساع الكبير الذي يميزها، كان هامش التحرك اكثر اتساعاً من قريتي، وقد زال الخوف من ان يراني احدهم ممن يدعي الحرص عليّ ويتبرع بالوشاية الى الاهل. فهنا لا احد يعرفني، ما ساعدني على ان اشهر سجائري علناً وأتباهى بها، مثل جندي مغرم ببندقيته، كسلاح ادافع به عن رجولتي المتفجرة حديثاً والقرار الذي اتخذته بالتدخين. في طهران، شدت انتباهي ظاهرة لم اشهد مثيلاً لها في لبنان، تعطي الفرصة لأي شخص للاستمرار بالتدخين من دون التعرض لخطر الانفضاح والانكشاف امام افراد العائلة، او في المدرسة التي يجبرها النظام التربوي على اعتبار التدخين خرقاً فاضحاً للسلوك التربوي قد تكون عاقبته الحرمان من متابعة الدراسة في كل مدارس ايران، وهي فرصة شراء العدد الذي تريده من السجائر من دون ان تكون مجبراً على حمل العلبة كاملة، اي "المونة" التي تحتاج اليها في المشوار الذي تخرج فيه او ما يكفي ساعات من النهار "اعطني خمس سجائر من نوع كذا"... في بداية الثورة، واضافة الى النفور الاجتماعي من ظاهرة التدخين، واعتبارها الى حد ما من مظاهر التغرب ووسائل النفوذ الغربي في المجتمعات والتأثير في اقتصاداتها النامية، توافقت آراء مراجع الحوزة العلمية الدينية في مدينة "قم" على تحريم التدخين، خصوصاً التدخين ابتداءً، مع التشديد الشرعي على ضرورة اقلاع المدخنين عن هذه العادة السيئة، ولم تكن هذه الفتوى بعيدة من المعنى السياسي واستعادة لتجربة ايرانية حدثت في بدايات القرن العشرين وعرفت ب"ثورة تحريم التنباكو"، في استعادة لتجربة السيد ميرزاي شيرازي عندما اصدر فتوى - بتأثير من جمال الدين الافغاني - بتحريم تدخين التنباك والنرجيلة في مواجهة الامتياز الحصري الذي اعطاه ناصر الدين شاه الحاكم القاجاري للبريطانيين بالسيطرة على انتاج ايران من التبغ والتنباك، وكان نفوذ السيجارة وصل الى داخل اروقة القصر الملكي، حين عمدت زوجته الشاهبانو الى تكسير جميع الادوات والنراجيل التي يستعملها الملك وندماؤه، وكذلك الادوات التي كانت النساء يستعملنها للتدخين، اذ كان المتعارف عليه ان النساء كن يدخن النرجيلة في جلسات الانس والسمر النسائية، التي امتد اثرها ليشمل سائر الطبقات الاجتماعية الاخرى. لكن، بقي تدخين النساء في اللقاءات العامة المختلطة امراً مستهجناً ومستغرباً، بل كان ينظر الى التي تفعل ذلك نظرة ذات ابعاد اخلاقية اتهامية مفتوحة على كل الامكانات. وهذه النظرة ما زالت مستمرة الى الوقت الراهن، لكن بنسبة اقل من الاتهام والارتياب، غير بعيدة من الجدل حول الاعتراف بها كشيء طبيعي وظاهرة آخذة بالاتساع والانتشار بينهن وفي المجتمع. الموقف من التدخين بين افراد المجتمع بطبقاته المختلفة يصدر لاعتبارات عدة، في مقدمها الجانب الاقتصادي الذي يمثل اهم اعتبار لدى اي ايراني في ظل الازمات الاقتصادية التي يعيش فيها، اضافة الى الرفض المستمد من الموقف الاجتماعي المتشدد من ظاهرة الادمان، والاعتقاد السائد ان التدخين قد يقود الى المواد المخدرة او يليّن الموقف منها ويجعل تعاطيها اكثر سهولة. في المقابل، تشهد اوساط الشباب هذه الايام ازدياداً في اعداد المدخنين، والموقف صار اكثر ليونة من السابق، واصبح من الطبيعي ان تشاهد الكثير منهم يحمل سيجارته ويدخنها بشره وشغف، وكأنه بذلك يعبر عن موقف من شيء ما. "رضا" الطالب الجامعي، والمتأثر بمظاهر بعض المفكرين الغربيين، خصوصاً الفرنسيين، انطلاقاً من دراسته الادب الفرنسي، قال انه يدخن لأن الضغط الذي يواجهه من جراء انشغاله في الشأن الطلابي والقضايا السياسية يدفعه اللجوء الى السجائر للترويح عن نفسه، وثانياً لأن التدخين يمنحه لذة خاصة يشعر بها مع تصاعد الدخان امام عينيه. وهنا يتدخل زمليه في الجامعة وغرفة المنامة غامزاً من شكله الخارجي ويقول: "الا ترى جسمه كم هو سمين، انه يدخن لاعتقاده ان التدخين يساعد على التقليل من تناول الطعام ويقطع الشهية". لتنشأ بعدها معركة لسانية حادة بينهما على خلفية التقليل من اهمية الاهداف التي دفعت "رضا" الى التدخين، في حين انهما شريكان في قيادة الحركة الطلابية في جامعتهما. لدوافع رضا بعد سياسي، ولكن، هناك نماذج اخرى من الشباب الايراني لا علاقة لها بالمسائل السياسية والفكرية، تبرر لجوءها الى التدخين بذرائع متعددة، منها التقليد، او ثأثير الرفقة. لكن "خسرو" يقول بكل صراحة ووضوح ان دافعه الى التدخين ليس سوى فقدانه فرص اللهو والاستمتاع وأماكن الترفيه العامة، فمثلاً لقد منعنا من دخول "مدينة الملاهي" لأننا لسنا متزوجين، فالعازب ممنوع من الدخول اليها، لذلك اصبحت السيجارة بالنسبة الى كثير من امثالي احد المتنفسات للترفيه والتسلية، والكثير من رفاقي يدخن السجارة لئلا يقع في ما هو أدهى وأصعب، كأن يقع في فخ الادمان. الى جانب هذا، فإن وزارة الصحة الايرانية، تسعى دائماً للتشديد على الاضرار التي يسببها التدخين. ففي آخر احصائية طبية نشرتها اشارت الى انه في كل عشر دقائق يتوفى شخص ايراني بسبب التدخين. وقال مسؤول العلاقات الدولية في الوزارة الدكتور "منصور صفائي فرهاني" ان المعدل التقريبي للوفيات الناتجة من التدخين في ايران تقدر سنوياً بنحو خمسين الفاً. وأضاف انه اذا لم توضع اجراءات عملية وفاعلة للحد من انتشار هذه الظاهرة خلال السنوات العشر المقبلة، فإن ايران ستشهد معدل وفيات قد يصل الى حدود 200 الف شخص في السنة. في حين ان التقديرات الرسمية تقدر قيمة ما تستهلكه ايران من الدخان بأكثر من بليون دولار، لا يدفع ثمنها لما يتم انتاجه من دخان الداخل، بل ان الجزء الكبير منها يذهب الى الانواع الاجنبية، خصوصاً الفرنسية، وتستأثر عمليات التهريب بالنسب الاعلى. وتزيد من خطورة الظاهرة ايضاً الاحصاءات التي نشرتها الوزارة بالتعاون مع مؤسسات السجون ورعاية الاطفال القاصر قبل نحو سنة، عن ظاهرة تفشي التدخين بين الاطفال، وبنسب مرتفعة. النساء والسيجارة ما بين السيجارة والنارجيلة، يختلف التعاطي الاجتماعي، ليس فقط من جانب المجتمع الذكوري، بل كذلك من المجتمع النسائي، فقلما تجاهر الشابات او السيدات بالتدخين، حتى في اللقاءات والسهرات العائلية او النسائية الخاصة، خوفاً من حالة استهجان او اعتراض قد تواجهها من الاهل والأبناء وحتى من الصديقات اللواتي يدخن ايضاً لكن في السر. غير ان الجرأة لا تنقص بعضهن من ان يحملن السيجارة في بعض الاماكن العامة، وهي حال مستجدة او جديدة على المجتمع الايراني الذي قد يبدي بعض الدهشة والتعجب عندما يشاهد شابة تقود سيارتها الخاصة وتستمع الى الموسيقى العالية وهي تحمل في يد اخرى سيجارة تدخنها بتلذذ كبير وتحد عارم، وقد تترافق مع حديث عابر مع احدهم على جهاز الهاتف النقال. اما النارجيلة، فهي اكثر قبولاً، لأنها تكون في جلسة عائلية يشارك فيها الصغار والكبار، من دون اي اعتراض، او تكون تنويعاً على جلسة في احد اماكن الترفيه والسهر في كنف الطبيعة او في المطاعم التراثية المنتشرة على سفوح الجبال المحيطة بطهران، وتشكل الاماكن الاكثر ارتياداً من الباحثين عن ترفيه. ولشدة ما اتسعت الظاهرة، وشمولها كل الاجيال من شبان وبنات، اصبحت شيئاً لافتاً، ما دفع الشرطة الايرانية الى اصدار قرار بمنع تدخين النارجيلة للفتيات في الاماكن العامة وكذلك للشبان الذين تقل اعمارهم عن الخامسة والعشرين، اضافة الى قرار بوجوب اقفال هذه الاماكن قبل حلول منتصف الليل تحت طائلة العقوبة. وهو امر تحول الى محط تعجب لدى الكثيرين من رواد هذه الاماكن من العائلات التي لا تجد فرصة للخروج الا نادراً خلال الاسبوع، وكأن الامر بات يشكل اتهاماً اخلاقياً للجميع.