هذا ما تستطيع أن تفعَلَه: أن تُلقي بها في السلّة. الرّزنامة كلّها، بشهورها الإثني عشر ترمي مُضارعَها في الماضي كأنها حقاً غابتْ مع آخر أجراسها. مباهجُها لكَ أنتَ، وأوجاعها إلى النسيان. *** لكنّكَ كلّ ليلةْ منذ الليلةْ ستسمعُ أصواتاً في العتمةْ، خشخشةَ أوراقٍ تحملُها النافذة، أيار شباط آذار آب نيسان حزيران ... ... وقْعَ خطى تُريدُها ولا تريدها هديلَ مسرّاتْ، وهمْهمةَ كوارثْ. *** ها هو الموتُ الذي يرتدي قلائدَ من أقفالٍ مفاتيحُها في أدراج الناس وأساورَ مجعّدة ذات جلجلة ونشاط، وخلاخيل تتلاطم كلما عزمَ ونوى تتبعه سلوقياتُه المدرّبة، ويحيطُ خصرَه بحزام خرافيّ يدسّ فيه العناوينْ، لملمك مع ملابسه الواسعة ومناديله وأمشاطه وفرشاة أسنانه الضخمة ووسّدك في حقيبته الأبنوس وسافرَ بك الى حيث يعلمُ ولا تعلمْ لتكتشفَ، بعد أن يوقظكَ انقطاعُ المطر، أن الموتْ نسيكََ في اللحظة الأخيرة، ودون أدنى إحساس بالمسؤولية ترككَ لهذه الحياة. وأن الذي ماتَ أناسٌ غيرك. ذهبوا لأسباب غامضة كغموض منابع الرياح أو ذهبوا ملفوفينَ بأعلامٍ نامَ فيها الرّفيف. *** ودون أن تستدعي مذاقها ها هي تعاودكْ بهجتك الباذخة بهجتك المعتّقة التي، بتمهّل ومكر، خبأت مفاتنها لأجلك أنت كأنها صاعقة تخمّرتْ سبع سنوات في الأعالي ثم ضربتكَ بقوّة ضربتكَ بالطول وبالعرض وبالوَرب، وخطفتْ صولجانك. وقد تجنّبتها كثيراً دون جدوى، لأنك، في الأصل، ولولا مئة وجع تُلحّ على زجاجك كشحّاذي إشارة المرور أنتَ خُلقتَ للبهجة. *** ها أنت تضحكُ كما ضحكتَ أول مرة قبل تلاشي الأجراس وذبول التراتيل عندما خرج الشرّ الى الصيدْ وعاد بحصيلة شاسعة، وكما ضحكت من صيحات الظّفر عندما انتصرت الامبراطورية على سائق البغال. *** في أوج ذلك، ها هي امرأتك المتوّجة على النساءْ، الهاربة من دورة الأفلاكْ القابضة على صفاتها كخنجر مرصّع بالنورْ، تقرفصُ، قرب مسندها العالي، كرسيّها المخملْ، تقشّر لكَ أكواز الصبّار الذي لا تحبّه هي، وتحبّه أنت، تفرك صيحات الخزامى على كتفيك، وتكلل شعركَ بأوراق البَرَكة ودعاء الورد. وأنت، مُلاعباً، تضع قناع الشيطان على وجهها ترفعه مرّة بعد مرّة وتخفي به وجهك لتضحكا معاً، ببلاهة مقصودة، تُضيئان وتنطفئانْ ولا تنتبهان الى الملائكة حولكما وهي تنفخُ العتمة على الشمع المغروز في كعكة الميلاد. *** في أوجِ ذلك ها هو ذيل ثوبها الأسْوَدْ يمسّ وجهك النائم: حداد أمّك الطويل، صامتاً، مستوحشاً، يذرع ممرّات البيت. *** تقول لكَ أنباؤهم: ثمة أقوام في أقاصي الأرض تُرهِبُهمْ أمّك أنتْ. ثمة معدن سمين كلّي القدرة يحوم في الجوّ يُطالب بدَمِها الآن. *** أيها المفْرد، كن شريراً، ماكراً، عدوانيّ الحواس كما يليقْ. كن كاسراً، مجازفاً، مشدود الساقينْ، شيطانيّ الحيلة، لأنك، أيها النّافر اللذيذ، إحتراماً لروحكْ، لا بدّ أن تكذب على هذا العالم. *** تحمّل هذا أيضاً، الدّخانُ يُغْلقُ المشهد، غطّوا الكثيرين بملاءات مرتجلة. زجاج سيارة الإسعافْ، تلطّخ فجأة. الأهل البعيدون، الذين لم يسمعوا بالخبر بعد، لن يطمئنّوا منذ هذه اللحظة. على الأغلبْ، لن يطمئنّوا. *** ولا تفارقكَ الصورة: ولد وبنتْ غريبان عن لهجة السوقْ، هاربان من شجرة الأنسابْ. ها هي الأجنحة. ها هو الشغف الأعلى ولدٌ وبنتْ، غزال يركض فوق ظلّه يسأل عشب الحقل: "هل أنا ثقيلٌ عليك"؟ وبين الخوف والطمأنينة وبين التوجّع والفرح، يلمع جيدُهُ كمرآة على ظهر حمّالْ. ولدٌ وبنت: كأنهما زلزال في منام. *** لي ولها طابةٌ أخرى غير طابة الأرضْ. طمّاع مَنْ يطالبُ بعزاء أكبر من هذا. *** ثم، ها هي، ثانيةً بالفَزَع ذاته، باليأس ذاته خليقة تنظر من خلف قضبانها الى سماء محرّمة. *** على مخدّتك البيضاءْ بين الوردتين المطرّزتين لوحة مُتقنة لكابوس. الجنازات التي ستعود كعادتها سوف تعطيك الخجل ولن تعطيك البكاء. *** على المسمار ذاته على الحائط ذاته علّق الرزّنامة الجديدة! هذا ما تستطيعُ أن تفعَلَهْ! 1/1/2002