قبل أن تكتمل الأشهر الثلاثة الأولى على توليه منصب الأمين العام كان السيد عمرو موسى بدأ يتحدث علناً عن خطة طموحة لتطوير منظومة العمل العربي المشترك. وتتضمن الخطة محاولة لإعادة هيكلة الامانة العامة لجامعة الدول العربية بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية من مراحل تطور النظامين الدولي والاقليمي. وعلى رغم أن تفاصيل هذه الخطة لم تُعرف بعد، إلا أن ما نشر عنها في الصحف يشير الى أنها تحاول اقتفاء اثر النموذج المطبق في تجربة الوحدة الأوروبية الذي يقوم على الفصل بين المعالجة السياسية والفنية للقضايا التي تشكل جوهر المصلحة العربية المشتركة، من ناحية، وبين المهمات التنظيمية والتنسيقية للجامعة من ناحية اخرى. لذلك تقترح الخطة انشاء مفوضيات قوية تعنى بالمسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاعلامية بصورة مباشرة وفاعلة، ويقودها مفوضون من الشخصيات العربية البارزة المشهود لها بالكفاءة والخبرة الفنية في مجالات تخصصها، والتي تتمتع في الوقت ذاته بتأثير شعبي واسع. واللافت أن تنطوي مجموعة المفوضيات المقترحة على مفوضية خاصة تعنى بشؤون "المجتمع المدني العربي" هي "مفوض الشؤون المدنية". وإذا صح ما نشر عن هذا الموضوع، فإن مجرد اعتبار مؤسسات المجتمع المدني العربي هماً عربياً رسمياً يستحق أن يوكل أمر العناية به الى أحد المفوضين العامين للجامعة، يعد نقلة نوعية في اتجاهات التفكير المتعلقة بتطوير العمل العربي المشترك. فلم يسبق، في حدود علمنا، أن ورد ذكر لمصطلح "المجتمع المدني العربي" في أي وثيقة رسمية صادرة عن أي من اجهزة جامعة الدول العربية طيلة تاريخها الذي يمتد لأكثر من نصف قرن. لذلك كان من الطبيعي ان تنتفي الحاجة أصلاً للبحث عن صيغة لعلاقة مؤسسية تربط بين الجامعة، باعتبارها تعبيراً عن إرادة الحكومات العربية، وبين مؤسسات المجتمع المدني العربي، باعتبارها مؤسسات تعبر عن إرادة الشعوب والمجتمعات العربية وتطلعاتها. ويمكن القول من دون أي مبالغة، إن خطة التطوير المقترحة من الامين العام للجامعة تمثل نقلة. فمجرد التفكير في انشاء "مفوضية للشؤون المدنية" تختص بمعالجة قضايا من نوع "حقوق الانسان" و"منظمات المجتمع المدني" و"المرأة والطفل" و"الشباب" يشكل في حد ذاته قطيعة مع طرائق التفكير التقليدية التي ظلت سائدة حتى الآن داخل أروقة الجامعة، والتي كانت تعتبر ان المجالات السابقة هي من صميم الشأن الداخلي وتتصل اتصالاً مباشراً بسيادة الدول الأعضاء، بالتالي يجب ألاّ تكون للجامعة علاقة بها على أي وجه من الوجوه. ومعروف ان ميثاق الجامعة كان تبنى موقفاً جامداً ومحافظاً من قضية "السيادة"، وبدا شديد الحساسية والحرص على ضمان سيادة الدول الاعضاء واستقلالها ربما أكثر من حرصه على نجاح العمل العربي المشترك. ويبدو أن الدول المؤسسة للجامعة لم تدرك على نحو كاف حقيقة ان دعم العمل العربي المشترك قد يكون في حد ذاته الوسيلة الأمثل لدعم الاستقلال الحقيقي للدول العربية، بالتالي للحفاظ على السيادة الفعلية وليس الشكلية لهذه الدول. وربما يكمن تفسير هذه الحساسية في ضآلة ما أنجزته الجامعة في مجالات العمل العربي المشترك، بخاصة في المجالات المتعلقة بالمجتمع المدني وحقوق الانسان. واقتفاء اثر التجربة الأوروبية ومحاولة الاستفادة من خبرتها في تطوير منظومة العمل العربي المشترك يعتبر تفكيراً جسوراً. فالتجربة الأوروبية تعد افضل تجارب التنظيم الدولي الاقليمي من حيث التجديد المؤسسي والتنظيمي، وأكثرها قدرة على الانجاز، خصوصاً في قضايا المجتمع المدني وحقوق الانسان. لكن الخطة المقترحة لتطوير منظومة العمل العربي المشترك تثير، ربما بسبب جرأتها الفكرية المتناهية وخروجها على نمط التفكير التقليدي أو المألوف، اشكالات وتحديات لا حصر لها. فنظام المفوضيات المعتمد في التجربة الاوروبية، والذي تحاول التجربة العربية تقليده، لا يقوم في فراغ، وإنما يضرب بجذوره في واقع مستمد من تراث ومن خبرة تاريخية تبدو مختلفة كلياً في التجربة الأوروبية، بخاصة في الأمور المتعلقة بحقوق الانسان والمجتمع المدني، عنها في التجربة العربية... فضلاً عن كونه نظاماً يستند الى جدار صلب من المؤسسات والنظم القانونية التي لا تتوافر في التجربة العربية. فمن المعروف ان منظومة القيم والقوانين المتعلقة بالحريات السياسية والمدنية وبحقوق الانسان، والمطبقة في كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بل وفي النظام الاقليمي الأوروبي في مجمله، تكاد تكون متطابقة. وساعد هذا التشابه في ابرام اتفاق أوروبي لحقوق الانسان يعد من افضل الاتفاقات الدولية في هذا المجال، كما ساعد في انشاء محكمة أوروبية لحقوق الانسان للاشراف على تطبيق ذلك الاتفاق. وهذه محكمة لا تضاهيها، من حيث سعة الاختصاصات والقدرة على اصدار احكام ملزمة ونافذة، أي محكمة أخرى مماثلة في العالم. يضاف الى ذلك ان عضوية الدول في النظام الأوروبي ذاته، والتي كانت تقتصر على الدول الغربية في البداية، توقفت على شرط وفائها والتزامها مستوى معيناً من الضمانات المتعلقة بحقوق الانسان. فاليونان طُردت من المجلس الأوروبي في الستينات فور وقوع انقلاب عسكري أطاح حكومتها المنتخبة، ولم يسمح لاسبانيا والبرتغال واليونان بالانضمام الى الجماعة الأوروبية إلا بعد أن استقر النظام الديموقراطي فيها. ولا جدال في ان مؤسسات المجتمع المدني تتمتع في هذه الدول بكل الضمانات التي تتيح لها حرية الحركة من دون عوائق او قيود، وتلك كلها عوامل توفر للمفوض الأوروبي المختص بشؤون حقوق الانسان والمجتمع المدني كل العناصر اللازمة لإنجاح مهمته، وهذه العناصر لا تتوافر بالضرورة للتجربة العربية. بعبارة اخرى يمكن القول ان المجتمع المدني في أوروبا هو مجتمع قائم مكتمل العناصر، ومنظم في كل من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ويعبر عن ذاته داخل هذه الدول من خلال آليات وادوات ووسائل شرعية معترف بها. وفي سياق كهذا تصبح مهمة المفوض الأوروبي التنسيق بين نشاطات منظمات المجتمع المدني على المستوى الأوروبي، ثم ضمان مشاركة هذه المنظمات في عملية صنع القرار الأوروبي وتنفيذه. من ناحية أخرى هناك حرص شديد على أن يأتي هذا القرار معبراً، في مرحلة صناعته، عن كل التيارات وجماعات المصالح المتصارعة على الساحة، ومتمتعاً، في مرحلة تنفيذه، بالدعم الشعبي اللازم لضمان تحقيق الاهداف المرجوة منه. أما في العالم العربي فالوضع يبدو مختلفاً تماماً، فلأسباب تاريخية معروفة لم تكتمل عملية بناء الدولة فيه لأن مقومات بنائها لم تكتمل. وواجهت عملية البناء الديموقراطي عثرات وانتكاسات، وفي غياب وجود الدولة الديموقراطية الحقيقية يصعب تصور وجود مجتمع مدني حقيقي لأن مثل هذا المجتمع لا يقوم بداية - ناهيك عن ان ينمو أو يزدهر - إلا في ظل دول مكتملة البنى والمقومات يسودها مناخ من الحرية والتعددية السياسية الحقيقية، وهو ما تفتقده غالبية الدول العربية. في سياق كهذا، تمثل فكرة انشاء مفوضية عربية للشؤون المدنية تعنى بأوضاع حقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدني والمرأة والطفل والشباب خطوة هائلة إلى أمام، لكنها تبدو محفوفة بالكثير من الأخطار. فمهمة مثل هذه المفوضية لن تقتصر أو يجب ألا تقتصر على الوصول الى منظمات المجتمع المدني العربي، حيث توجد هذه المنظمات، وتحديد صيغة لعلاقة تنظيمية ومؤسسية فاعلة بينها وبين جامعة الدول العربية، وإنما ايضاً وضع برنامج يساهم في تنمية المجتمع المدني العربي ذاته وتطويره، وفي تنقيته من التشوهات الخلقية التي احاطت ظروف ولادته، وفي خلق الظروف اللازمة لإنضاجه ثم حمايته. وتلك كلها مهمات ليست صعبة أو مكلفة فقط، لأنها تتطلب خبرات ومهارات تقنية عالية وموارد مالية ضخمة، لكنها مهمات شديدة الحساسية في الوقت ذاته. فمن المعروف أن العلاقة بين الحكومات وبين منظمات المجتمع المدني، في الدول التي يوجد فيها مثل هذه المنظمات، ليست دائماً على ما يرام ويغلب عليها عادة طابع التوتر. لذلك من الوارد ألا تظهر الدول العربية حماسة كبيرة لهذا المنحى من مناحي اصلاح العمل العربي المشترك وتطويره، على رغم أهميته الاستراتيجية الحاسمة، وربما تعمل لاجهاضه مبكراً، لئلا يرى النور اصلاً، أو افراغه من مضمونه إذا اتيح له ان يمر عبر المراحل الأولى لعملية التطوير. إن ما تفتقر اليه الجامعة ليس الأفكار المبتكرة لتطوير أو لاعادة هيكلة جهازها الاداري وإطارها التنظيمي، بل الارادة السياسية القادرة على التقاط تلك الافكار وتبنيها وتحويلها الى آليات عمل فاعلة ومؤثرة. وبين هذه الأفكار تلك التي طرحها الأمين العام في خطته لتطوير منظومة العمل العربي المشترك، والتي تتضمن انشاء مفوضية للشؤون المدنية ترعى احوال المجتمع المدني العربي ومؤسساته. وفي حال أقر مؤتمر القمة العربية المقبل الفكرة من حيث المبدأ، سيكون على الأمين العام، كي يقطع الطريق امام المحاولات التي ستبذل لافراغها من مضمونها، ان يشرع فوراً في البحث عن صيغة لعلاقة مؤسسية يتم من خلالها اجراء تشاور وحوار منتظم بين مؤسسات المجتمع المدني العربي. فوحدها هذه العلاقة المنتظمة هي التي يمكن ان تحقق التفاعل بين صناع القرار في الجامعة العربية من ناحية، وبين القوى الحية والفاعلة في المجتمع العربي من ناحية اخرى. ولأن البحث عن الصيغة التنظيمية الأكثر مواءمة لتقنين هذه العلاقة ليس أمراً سهلاً، فضلاً عن ان النقل الميكانيكي عن التجارب الأخرى قد لا يحقق الهدف المنشود، قد يكون ملائماً طرح هذا الموضوع للنقاش من خلال مؤتمر عام يدعى إليه أهم ممثلي المجتمع المدني العربي بصفة عامة والمؤسسات الفكرية الفاعلة في هذا المجتمع بصفة خاصة. * رئيس قسم العلوم السياسية في كلية الاقتصاد - جامعة القاهرة.