} تناولت الحلقة الاولى "الاسلام السياسي في خطابات النخبة المفكرة" في كتابات محمد عابد الجابري وسعد الدين ابراهيم وفؤاد زكريا. وهنا الحلقة الثانية. في كتابيه "سياسات الاسلام المعاصر، 1997" و"الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الايديولوجيا في المجال السياسي العربي الاسلامي، 1997" يناضل الدكتور رضوان السيد ضد تلك التأويلات التضييقية التي تتزاحم في خطاب التيار المتياسر، من صادق جلال العظم الى عزيز العظمة الى كُثُر لا مجال لذكرهم الآن والتي تسم ظاهرة الاسلام السياسي باللامعقولية وغياب المنهج والتآمر على الأمة كما يذهب الى ذلك فؤاد زكريا - الخ من فيض الاتهامات المؤدلجة المعشعشة في "الخطاب العربي المعاصر". يقر السيد بأن الازمة العربية شاملة، فهناك تراجع عام يسم الحياة الفكرية العربية وليس حصراً في اتجاه واحد "وها هو خيط الازمة يمتد من الاصلاحية الاسلامية الى الاحيائية الاسلامية. ففي المجال الثقافي محمد عبده أقل ثقافة وانفتاحاً من استاذه جمال الدين الافغاني، ومحمد رشيد رضا اقل انفتاحاً من استاذه محمد عبده، وحسن البنا اقل ثقافة وانفتاحاً من رائده رشيد رضا، وسيد قطب اقل انفتاحاً من رائده حسن البنا، وعمر عبدالرحمن اقل ثقافة وانفتاحاً من سيد قطب...". ولكن هل يعني هذا صحة النعوت السلبية التي يطلقها اليسار على الاسلام السياسي؟ من وجهة نظر رضوان السيد ان لا معقولية الاسلام السياسي هي ناتج لا معقولية الاستبداد الذي ساد بداية في بلدان المشرق العربي، اذ يمكن وصفها ب"معقولية اللامعقول" على حد تعبيره. فقد ضاقت الدنيا في وجه المجتمع، وبلغ الحصار اوجه بين الداخل الضيق والخارج الذي لا يشبع. من هنا يمكن القول إن اسى الناس ويأسهم هو الذي يفسر اقبال الناس على شعارات الاسلاميين وليس تخلفهم واسطوريتهم وميتافيزقيتهم كما يزعم صادق جلال العظم وعزيز العظمة والطيب تيزيني وآخرون. يقود السيد في بحثه عن انسداد الآفاق امام المجتمع الذي وجد نفسه وجهاً لوجه امام الطاغية المتسلط الذي اصبح هو الثورة وهو الوطن، هو الفكر وهو التقدم. يقول: ذهب المتسلطون الى انهم الدنيا والدين، فواجههما المجتمع بمقدسه، بدينه. كان الاسلام ديناً ودنيا عند حسن البنا، فصار ديناً ودولة عند سيد قطب وعمر عبدالرحمن زعيم حركة الجهاد، قال الحاكم انه كل شيء، فواجهه اسلاميُّ السبعينات بفكرة الحاكمية التي تلغي لفظياً الدولة والحاكم سياسات الاسلام المعاصر، ص200. ويذهب السيد في تعليقه بالقول: "اذا كانت شعارات الاسلاميين القائلة بالجاهلية، والحاكمية، والعنف، غير معقولة، كأن شعارات القائد الخالد، والباقي الى الابد، ليست اكثر معقولية"؟ نعود للقول اذا كان الخطاب الراديكالي التقدمي خطاباً مأزوماً، فإن خطاب الاحيائية الاسلامية المأزومة على حد تعبير السيد "لم يستطع ان يتحول الى بديل للمأزوم السائد في الثقافة والسياسة". وفي نقده للخطاب الاسلامي النضالي، يتوقف عند ثلاثة امور: عند الطريقة والطرق التي وُظِّفت فيها النصوص الفقهية والعقدية القديمة من قبل نضاليي الاسلام المعاصر، والذين استخدموا نصوص القرآن الكريم في الأعم الغالب، وتلك التي تتصل بمسائل الكفر والايمان بالذات، وهي غالباً آيات وردت في سياق الصراع بين المسلمين في المدينة، وقريش المعادية بمكة وهم لا يستخدموها كما وردت لصراع الاسلام مع الخارج المعادي، بل لمصارعة الجاهلية الكافرة في عقر دار الاسلام. ويقف عند "الطبيعة الايديولوجية الغلابة للبيانات العقدية للإسلام السياسي" التي يغيب فيها السياسي، ويسيطر العقائدي والايديولوجي وذلك باستثناءات قليلة الغنوشي والترابي، فهم لا يسلكون مسلك المعارض السياسي الذي يريد ان يصل الى السلطة من اجل الاصلاح او ما يعتبره كذلك، بل يسلكون مسلك المخلص والمنقذ لا للمجتمع بل للدين. دين الله الذي حُرِّف، والذي يفرض على عاتقهم اقامته وتسييده من جديد. لذلك يبدون احياناً وكأن همهم ان يستشهدوا الا ان ينتصروا، ان يمضوا الى الموت عمداً وذلك تكفيراً او توبة: اما النقطة الثالثة التي يقف عندها فهي "مآلات وآثار تلك الايديولوجية على الداخل الاجتماعي، وعلى الاسلام التقليدي في الوقت نفسه" الذي يقف مبهوراً امام هذه الظاهرة التي تتزامن مع ضيق واستغراب عند البعض من الفقهاء. والنتيجة التي يخلص اليها السيد ان التسيس الشديد اليوم في الحركات الاسلامية المعاصرة الذي يقلق الكثيرين ناجم عن الظرف الاستثنائي الذي يمر به المجتع والدولة في الوطن العربي والعالم الاسلامي. وبسبب من الازمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تمر فيها الأمة اصبحت هذه الحركات اكثر شعبية وأكثر قدرة على التسيس وتجييش الجماهير. ولكن هذا - كما اسلفنا - لا يعني ان الخطاب الاسلامي النضالي خارج قوس الازمة، بل هو خطاب مأزوم وتمتد جذور ازمته الى سيد قطب، باعتباره المنتج الايديولوجي للاسلام السياسي الذي يدين بمرجعيته له. وبالضبط الى كتيبه "معالم في الطريق" الذي هو النص التأسيسي للاسلام الحزبي والنضالي. يقول السيد: من عباءة سيد قطب خرجت كل جماعات الاسلام النضالي المعاصرة التي لا تملك في الحقيقة تصوراً لبدائل الانظمة القائمة، لكنها مصممة وبالحديد والنار، على هدم البنية القائمة من اجل ان يكون الامر لله وحده ص21. وهو لا يكتفي بذلك، بل يرى ان الخطاب المأزوم علامة فارقة تسم الخطاب الاسلامي النضالي على مدار قرن ومنذ بدايات. فقد ظهرت حركة الاخوان المسلمين في ظروف التأزم الثقافي والسياسي للاصلاحية الاسلامية الناجمة من اختلال العلاقة مع المصدر/ النموذج، واختلال العلاقة مع الدولة الطالعة، ولذلك فهو يسارع الى الحكم على الحركات الاسلامية بأنها لم تستطع ان تتحول الى بديل للمأزوم السائد في الثقافة والسياسة، مستدركاً القول "بأن لا يحسب ان هذه التأملية السهلة عزاء من اي نوع كان. ذلك ان ما جرى ويجري يكاد يستعصي على الادراك او الاستيعاب او التعقل" ص204. وفي رأيي ان خطاب الازمة الذي يحكم خطابات اليمين واليسار على السواء، ليس خطاباً بنيوياً بل طارئاً وأسيراً لظروف قاهرة استمرت على مدار قرن، فقد نشأ الخطاب الاسلامي النضالي في اروقة الدولة الاستبدادية كتب سيد قطب "معالم في الطريق" من داخل السجن وظل باستمرار اسيراً لها ولما يتحرر بعد من اوزارها، ومن هنا تأكيدنا على ان العنف لا يمثل بنية داخل الخطاب الاسلامي كما يرى نبيل عبدالفتاح في "النص والرصاص، 1999" وكذلك نقص الخبرة السياسية وغلبة الايديولوجيا العقائدية. فهذا الخطاب بقي اسير تجربة مريرة. ومن يقرأ مذكرات زينب الغزالي وتجربتها في السجن "ايام من حياتي، 1977" سيعثر على تشخيص دقيق لفظاعات الاستبداد التي حالت باستمرار دون بروز خطاب سياسي يتمتع بشيء من المعقولية. من هنا ارى اننا بتركيزنا على ان ازمة الخطاب الاسلامي النضالي هي ناتج ظرف وظروف قاهرة، يسمح لنا بتفهم هذا الخطاب الذي هو جزء من كل، وبالتالي سيحول دون اصدار احكامنا التعسفية بحقه وحق غيره. ومن هنا اهمية ما يقوله رضوان السيد. في إطار دعوته الى الاخذ ب"ثقافة المراجعة" بهدف وقف التراجع في الحياة الفكرية والثقافية والاخلاقية العربية، يدلف الباحث البحريني الدكتور محمد جابر الانصاري الى اروقة الحركات الاسلامية بهدف تفسير نشأتها وبهدف يعلنه في بداية كتابه الصادر حديثاً والموسوم ب"في مساءلة الهزيمة، 2001" وهو الحد من حال الحصار المفروضة على الواقع العربي، الواقع المتأزم والمحاصر بين فكي كماشة، بين هيمنة اسرائىلية واستشراء اصولي، اللذان يربطهما بحسب الانصاري رباط موضوعي وديالكتيكي تكاملي بينهما، وهذا ارتباط اخطر من الارتباط التآمري بينهما والذي لا يعيره الانصاري اهتماماً. من هنا فإن الانصاري يرى وعبر رؤية متطرفة ان "الخطر الاصولي" كما يسميه القطب الموازي للخطر الصهيوني الذي يلتقي معه في تدمير مستقبل الامة. في محاولته لتفسير نشأة الحركات الاسلامية المعاصرة، يركن الانصاري الى التفسير السوسيولوجي الذي يشاع في ادبيات الفكر اليساري العربي. وأشير هنا الى طروحات محمود أمين العالم وخصوصاً اطروحة محمد حافظ ذياب "سيد قطب، الخطاب والايديولوجيا، دار الطليعة، 1988" التي يؤكد فيها على الطابع الريفي للحركات الاسلامية المعاصرة والتي لا تزيد على كونها احتجاجات ريفية على عالم مدن، حيث يغدو الصراع في النهاية، صراعاً بين المدينة العربية بأحزابها المدينية التي تمثل ذروة المجتمع المدني المتطور كما يزعم هذا الخطاب وبين الحركات الاسلامية ممثلة بأحزابها الريفية المتخلفة؟ هذا التفسير البسيط الذي يركن الى ارادة عدم معرفة كما سمّاها ميشيل فوكو الذي يختزل فيه الصراع الى صراع بين المدينة والريف حيث تغدوا احتجاجات الريفيين احتجاجاً على عدم وصول الامتيازات التنموية المدينية اليهم... هذا التفسير يلقى قبولاً عند الانصاري وذلك لتفسير الحال البحرينية وذلك من دون ان يشير الانصاري الى ذلك. فمن وجهة نظره ان البيئات الريفية في العالم العربي والاسلامي هي اكثر البيئات استجابة لحركات التطرف "الاصولي" وما تعززه من اعمال العنف المدمر محمد جابر الانصاري، تكوين العرب السياسي، 1997"، ويضيف في كتابه الجديد "وحيث ان الريف كان ملجأ المذاهب المعارضة "المتشيعة" او "الصوفية" وحيث كانت المدن معقل السنية الحاكمة، فإن هذه المواجهة التاريخية اتخذت بعداً معاصراً الآن بتبني الجماهير الريفية، او ذات المنشأ الريفي في المدن، ايديولوجية اصولية تقوم على التمرد ورفض "الاعتدالية" المدينية السنية التاريخية سواء من وجهة متشيعة، كما في بعض بلدان المشرق، او صوفية شعبوية تلتقي بثوروية التشيع كما في مصر وأقطار المغرب. ولمحة سابقة تاريخية مماثلة في القرن الرابع الهجري الذي عرف ب"القرن الشيعي" نظراً الى سيطرة الحركات المتشيعة على قسم كبير من الوطن العربي، بعد ان تمكنت من الانطلاق من قواعدها الريفية الى السيطرة على المدن" في مساءلة الهزيمة، ص79. كما اسلفت، يربط الانصاري بين انتشار "الخطر الاصولي" وبين فشل التنمية حيث يظهر الاول بمثابة نتيجة للثاني، لا بد انه يربط ومن منظور سوسيولوجي بين "الانفجار السكاني" الذي يتم بعيداً من خطط التنمية وبين "الخطر الاصولي" الذي يجد مرتعه في هذه البيئات الريفية المتفجرة سكانياً. يقول "لقد كان الانفجار السكاني، الذي يقود معظم جذوره الى الارياف والبوادي العربية التي لم تستوعبها خطط التطوير لا في النظم المحافظة ولا في النظم الثورية" ص7. والانصاري لا يكتفي بذلك، بل يسوق لنا مجموعة من الانطباعات السوسيولوجية السطحية عن "ترييف المدن" وبَدْونة الحياة المجتمعية والسياسية العربية ليثبت لنا استشراء الخطر الاصولي. لا يقنعنا الانصاري في هذا القضاء والذي يقيمه بين عالم المدينة السني وعالم الريف المتشيع، أضف الى ذلك ان هذا التفسير السوسيولجي للحركات الاسلامية او للخطر الاصولي كما يحلو للانصاري ان يسميه، يظل مضمراً برؤية استشراقية دونية للاسلام، تتسرب من الثقوب الكبيرة للتفسير السوسيولوجي. فالدين الاسلامي في هذه الرؤية هو دين البداوة، لنقل دين الخيمة والقبيلة، او دين المجتمعات الريفية التي لم تصلها الحداثة المدنية! وفي رأيي ان الانصاري الذي تحكمه ارادة معرفة يستشعر هذه الرؤية الاستشراقية من دون ان يصرح بها، ويستشعر عجز التفسير السوسيولوجي فيراه غير كافٍ، ولذلك سرعان ما ينحيه جانباً ليبحث مجدداً في "الحركة الاسلامية: اسباب الصعود ومحاذير السقوط". يقول الانصاري: إن الجانب السوسيولوجي على اهميته لا يفسر الظاهرة بمختلف ابعادها، ذلك ان الظواهر التاريخية لا يمكن ردها الى عامل واحد بعينه ص83، وهذا اعتراف منه بأحادية التفسير السوسيولوجي وعجزه عن تفسير ظاهرة الحركات الاسلامية بكونها ظاهرة بدوية ريفية. وبكون الحركة الاسلامية ظاهرة تاريخية تحتاج الى أكثر من عامل في تفسيرها. ويكاد الانصاري هنا ان يمر بالتجربة نفسها التي مرَّ بها محمد الجابري كما لاحظنا في الحلقة السابقة. فيشمر الانصاري عن ساعديه ويستنفر همته. فالظاهرة الاسلامية لم يعد يتحدث الانصاري عن "الخطر الاصولي" فقد حل مصطلح "الظاهرة الاسلامية" محله ترتد من وجهة نظره الى ثلاثة عوامل يستفيض الانصاري في شرحها، الا انه يمكن اختزالها بحسب طريقته: اولاً: عجز المشروع الوطني او القومي العصري بمختلف اشكاله في المجتمعات الاسلامية عن تقديم الحل التاريخي النهائي لهذه المجتمعات. ثانياً: التحدي الغربي الحديث للعالم الاسلامي مصحوباً بالتحدي الصهيوني ومتحالفاً معه. ثالثاً: تزامن مع ذلك مع "صعود الموجة الديموقراطية الريفية التي اهملتها مشاريع الانماء والتحديث فمثلت قطاعاتها الهائلة القوة الاجتماعية والسياسية الضاربة لهذه الحركة. لا يرى الانصاري في الحركات الاسلامية بديلاً، يشاركه هذا الرأي وكما مر معنا رضوان السيد الذي لا يرى فيها الا بديلاً مأزوماً لواقع مأزوم. ولكن الانصاري مع تسليمه واقراره بجماهيرية الحركة الاسلامية التي تكتسح الساحة. فهو يرى، لنقل يشترط شروطاً ثلاثة لنجاح هذه الحركة: اولها: انجاحها في الخروج من حتمية العنف الانتحاري. ثانياً: قدرتها على تقديم مشروع سياسي اسلامي جديد. ثالثاً: نجاح الحضارة الاسلامية المعاصرة في اختراق الحضارة الحديثة وامتصاص عناصر القوة الحضارية والعلمية فيها. يمكن القول انه وباستثناء اسهام الدكتور السيد الذي ينعته تواضعاً ب"التأملية السهلة" فإن مجموع الاسهامات الاخرى اسهامات الجابري وزكريا والانصاري لم تتجاوز حدود الايديولوجيا ورد الفعل وتكرار ما هو شائع في الادبيات اليسراوية عند الظاهرة الاصولية التي تؤكد على ظرفيتها وريفيتها وتخلفها تمهيداً لنفسها. وفي رأيي ان معظم الدراسات العربية تتجاهل السؤال المركزي: هل الاصولية الاسلامية ظاهرة خاصة مرتبطة بالاسلام ام انها ظاهرة عالمية؟ واذا كان الجواب هو انها ظاهرة عالمية كما يرى جيل كيبيل في كتابه "يوم الله"، وهذا ما يؤكده محمد اركون في كتابه الجديد "قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الاسلام اليوم، 2000" فمن وجهة نظره انه لا يمكننا ان نفهم الاصولية داخل الاسلام الا اذا قارناها بالاصوليات داخل الاديان الاخرى، ص325. وأركون يعزو هذا النجاح الكبير للحركات الاصولية وقدرتها على تجييش الجماهير الى ذلك التراكم العائد الى القرون السكولاستيكية التي تقف وراءها وتغذيها وتخلع عليها المشروعية: مشروع الزمن المتطاول وتراكمات القرون. وهذا يعني ان على الخطاب العربي المعاصر وأقصد خطاب النخبة المفكرة ان يشق طريقه الى فهم ظاهرة الاسلام السياسي بعيداً من ردود الفعل المؤدلجة التي تجعل من النخبة حراساً لأفكار عفى عليها الزمن وشرطة لايديولوجيات مسبقة لا تسهم الا في زيادة الطين بلة. * كاتب سوري.