صيد العصافير بالدبق في لبنان يطرح للنقاش مسألتين: مسألة التوازن البيئيِّ، ومصير حرفة هي صناعة الدبق نفسه. فكيف يمكن تحقيق المعادلة: "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"؟! وأما أن يُنظَّمَ الصيد أو لا ينظم، فمسألة لا تلغي حقيقة أن هذا المشهد يتكرر في مختلف المناطق اللبنانية: حسون عالق بقضيب دبق، ومصيره الى القفص. تلك مسألة بيئية؟، حسناً! فما شأن هذه المساحات الخضر التي يزحف عليها الاسمنت في المدينة والضواحي، ويقضم المجال الحيويّ لعيش الحسون وبقية العصافير والطيور؟ نفترض - من دون ان نبرر - أنَّ صناعة الدبق سببٌ في الإبقاء على بعض الخضرة: شجر مقساس منه الدبق، لا يزال صُنَّاع الدبق يحرصون على زرعه، كما يفعل نعيم جلول" الحرفي الذي تشكل ثمار المقساس عماد حرفته، ولذلك فهو يستنبت النوى شتولاً يعيد زراعتها، ويهديها الى من يملكون مساحات خلاء ليزرعوها. ونحن اليوم في موسم تصنيع الدبق. ولذلك نقترب من عالم نعيم جلول الحرفي، نستجلي تقنيات الحرفة، ونبحث عن "سرّ مهنة" لم يعد سراً. يقطف نعيم الثمار... يحملها الى السطح الذي حلَّ محلَّ الحديقة فقد احتلها مبنى من طبقات عدة في برج البراجنة، وهنا، في الفسحة الضيقة، تتعاون أجيال على متابعة تقاليد الحرفة، من مرحلة اعتصار الثمار بواسطة الفم، أو بواسطة الأصابع، حتى اكتمال قضيب الدبق وصيرورته جاهزاً للصيد. والمراحل كثيرة: تنصب قصبة طويلة ابتداءً، وان تأخر دورها، وتعلق بها قضبان زيتون رفيعة بعد أن يعريها صانع الدبق من أوراقها، ثم تسحق مواد كيماوية من دونها لا يصبح المقساس دبقاً: الزرنيخ الأصفر غير السام الذي يدق في الجرن، قبل أن يسحق مع مواد أخرى على بلاطة من رخام، وبين هذه المواد نيلة زرقاء، تتحول بعملية كيماوية بسيطة الى محلول أخضر هو الذي يمنح قضبان الدبق لونها. فهل احتسبنا المزيج بدقة؟ يجيب نعيم جلول، ويطنب على طريقة سيدنا موسى: "نمزج الزرنيخ ومادة الغليسيرين. ونحن نعمل بحسب نوعية الدبق" فالدبسي نضيف اليه دبس الخروب، و"البندوق" نضيف اليه قليلاً من الدبس مع الغليسيرين، والعسلي نضيف اليه الغليسيرين ودبس الرمان والعسل... بعد ذلك نضعه في قصعة فخار كبيرة ونخفقه بأيدينا حتى "يرفخ" ويصبح مثل "الكرابيج"، فيصير جاهزاً لوضعه على القضبان". وفيما ينكبُّ نعيم جلول على خفق ما في القصعة الفخارية، تتواصل على بعد أذرع منه عملية اعتصار الثمار، ويصبح السطح والكاميرا جاذبين حتى لغير المساهمين في الشغل... والشغل - على أية حال - لا يمكن أن ينهض به واحد. غير أنَّ قيادة العمل تُعقد لواحد هو الذي يقدِّر ويحتسب. وربما أشرف جيل على عمل جيل، كما يفعل والد نعيم أبو سمير جلول" فالحرفة - كالحرف جميعاً - متوارثة، كما يقول نعيم: "لقد ورثتها عن والدي "أبي سمير"، وهو ورثها عن والده، ونورّثها الأولاد... يبدأون، كما بدأنا، ب"مقّ" ثمار المقساس". هذه الحرفة وتقنياتها. فماذا عن الصيد بالدبق؟ أية عصافير تعلق بقضبانكم؟ - يصطادون الحسون والبسبسة والكفيفيح والدرَّسة والسلانج والكرومب والدُّخُّن والنَّعار. الدوري لا يعلق... يقال أنه عصيّ على الدبق. - نصطاد الدوري المصري بكميات كبيرة، الدولة توصي بصيد الدوري المصري حفاظاً على المحاصيل الزراعية. مواسم تصنيع الدبق تصادف مواسم الصيد؟ - نبدأ صنع الدبق في العاشر من آب أغسطس، ويتواصل العمل حتى نهاية موسم المقساس. أما الصيد بالدبق فيبدأ في تشرين. مَنْ زبائنك؟ - أبناء المناطق الريفية، وتجار يشترون بالجملة، ونرسل الى أقطار عربية وبلدان أجنبية. والأجانب كيف يصنعون دبقهم بحسب علمك؟ - دبقهم مختلف... دبقنا مقساس ودبقهم مواد كيماوية... شاهدت ذلك في فيلم تلفزيوني. يتحدث نعيم جلول فيما تتواصل حركة ذراعيه داخل القصعة الفخارية. ينعقد المزيج، فيشرع في تثبيته على القضيان الدقيقة التي تستقبل الدبق لأول مرة، وعلى قضبان مطلية سابقاً" فتثبيت الدبق يتمُّ على مراحل. وتلح علينا قضية التوازن البيئي وتشدد وزارة الزراعة والسلطات الأمنية في منع الصيد. فكيف ينظر في المسألة رجل يعتمد في معيشته على صنع وسيلة من وسائل الصيد؟ يجيب نعيم جلول: "دعني أقول لك: هذه الحرفة ستستمر، والصيد بالدبق سيستمر... ومصلحتنا تحتاج الى تنظيم وأخلاقيات... الصيادون الحريصون على البيئة ماذا يفعلون؟ أقول لك: نحن حين تعلق عصفورة أنثى نطلقها من جديد، فهي التي تبيض... نحتفظ بالعصافير الذكور، وعموماً: مصلحتنا لا تؤذي أحداً. وأنا أنصح الصيادين بعدم اصطياد ما تمنع الدولة اصطياده. هكذا تبقى البيئة في أمان. ولكن أسأل أولئك الذين يؤذون البيئة بوسائل أخرى غير الصيد". صناعة الدبق حرفة صارت تراثاً، وربما تهددها الزوال، تبعاً للظروف وموقف القانون والمجتمع. وها هو نعيم جلول، أحد صنّاع الدبق القلائل في لبنان يرمي الكرة في مرمى الصيادين بالدبق" فهم قادرون على التوفيق ما بين الهواية الممتعة وبين مقتضيات التوازن البيئي. ومرة أخرى تطل برأسها معادلة تقول: "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم".