لا يخفي انصار الحزب الديموقراطي في الولاياتالمتحدة سرورهم لإعلان جيسي هيلمز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كارولينا الشمالية، عزمه على التقاعد عند نهاية العام القادم. ذلك ان جيسي هيلمز، منذ قرابة ثلاثة عقود، الرمز الأول للتوجه الجمهوري المحافظ المتصلب في مجلس الشيوخ، سواء في تصديه لكافة التوجهات الاصلاحية التي استوعبها الحزب الديموقراطي، لا سيما من موقعه النافذ لأعوام كرئيس للجنة الشؤون الخارجية، أو في صلافته الخطابية وعناده في التزام المواقف. والواقع أنه، على الرغم من السمعة المتردية لهيلمز في الأوساط الديموقراطية والتقدمية، فإن اختلافه عن معظم المحافظين الذين يمسكون بزمام الحزب الجمهوري، هو بالدرجة الأولى اختلاف في الأسلوب لا المضمون. فتقاعده لن يضعف الجبهة المحافظة التي تسعى الى تقويض ثمرات الجهود الديموقراطية والتقدمية التي تحققت منذ الستينات، بل سوف يحرم المرشحين الديموقراطيين امكانية التهويل بالخطر الذي يشكله هذا "الرجل الخطير" لتعبئة جمهورهم وشحذ الأموال الانتخابية. ويمكن تبيّن الاتفاق في المضمون مع الاختلاف في الأسلوب بين جيسي هيلمز وسائر المحافظين عبر مقارنة مواقفه الخطابية والفعلية بتلك التي يعتمدها الرئيس الحالي جورج دبليو بوش. فهيلمز، طوال أعوام ترؤسه لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، التزم الريبة الصريحة بكل ما يتعلق بالمؤسسات والمنظمات والاتفاقات الدولية، وبذل جهوداً مستمرة لتقويض نشاط الأممالمتحدة، وأصرّ على حرمانها من الأموال المتوجبة لها، ولم يفرج عن البعض من هذه الأموال إلا وفق شروط تتحكم بتفاصيل التنظيم الاداري فيها. ولا شك أن بوش، بعفويته وابتساماته ولياقته باستثناء اساءاته الكلامية والسلوكية المتكررة الى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، يختلف شكلاً عن هيلمز الذي لا يغيب العبوس عن وجهه ولا الفظاظة عن خطابه. لكن استعراض السياسة الخارجية للحكومة الأميركية الحالية يكشف عن تطابق في جوهر المواقف بين الباسم والعابس. ذلك ان بوش تخلّى عن اتفاق كيوتو البيئي بحجة ضرورة القيام بالمزيد من الأبحاث العلمية لتبين صوابية الخطوات التي يتطلبها هذا الاتفاق، واعتبر ان الاتفاق المعرقل لمنظومة "حرب النجوم" تجاوزه الزمن. واستغل بعض العبارات الناقدة للممارسات الاسرائيلية في وثائق عمل مؤتمر ديربان لمكافحة العنصرية للتنصل من المشاركة فيه. فالانسحاب من الالتزامات الدولية والذي يدعو اليه هيلمز يجد في سياسة بوش تطبيقاً فعلياً، وان جاء هذا التطبيق مقنّعاً بالتبريرات مهما كانت هزيلة. يذكر هنا ان هيلمز الذي ينفر من أي حديث عن تقديم مساعدات أميركية، الى أطراف خارجية ويطالب بقطع دابر برنامج المساعدات برمته اقتنع، بعد اجتهاد أصدقاء اسرائيل بتثقيفه، بسلامة منح الحصة العظمى من هذه المساعدات لإسرائيل فاستثناها من ثائرته، بل كان لها دوماً الصديق المخلص الوفي. ولا يخفى اليوم ان اصدقاء اسرائيل هؤلاء نجحوا كذلك في "تثقيف" بوش. فلا خلاف بتاتاً بين هيلمز وبوش في موضوع الشرق الأوسط، في التأكيد على ضمان "حق" اسرائيل بالمساعدات وفي السعي الى تحصيل المزيد من الدعم والمخصصات لها. وفي الشأن الداخلي، إذا كان هيلمز يدعو الى الانتهاء من حق الاجهاض جملة وتفصيلاً، فإن بوش الذي يجاهر بمعارضته لهذا الحق يعتمد أسلوباً تدريجياً يهدف، وفق المواقف المعلنة، الى تقنينه وصولاً الى اقناع الجمهور الأميركي بجدوى ابطاله. غير ان خصوم بوش يصفون مواقفه بالمخادعة، ويشيرون الى مسألة أبحاث الخلايا الجذعية المشتقة من الأجنة التي جرى اجهاضها، والمطروحة أخيراً، كنموذج على هذه المخادعة. ذلك ان بوش اعتمد موقفاً "وسطياً" يسمح باستمرار الأبحاث على الخلايا المتوافرة حالياً، شرط عدم الاستفادة من الأجنّة التي يجري اجهاضها في ما بعد. ويرى خصوم بوش في ذلك تقويضاً مقصوداً لهذه الأبحاث الواعدة ومحاولة اعادة تصنيف للأجنة المجهضة على أنها أطفال، كسابقة تهدف الى ابطال حق الاجهاض بوصفه قتلاً للأطفال. فالفارق هنا بين هيلمز وبوش ان الأول لا يجد حرجاً في الإصرار على الموقف المبدئي وان أدّى اصراره الى استعداء الكثيرين. أما بوش، فينحو المنحى التوفيقي شكلاً، من دون الابتعاد في النتائج عن الخط المحافظ عينه. ويطيب لهيلمز وأنصاره التشديد والتأكيد على التزامه المبدئي فهو "يعني ما يقوله ويقول ما يعنيه" مهما كان الثمن. والواقع انه لا يتوجب على هيلمز أي ثمن سياسي أو انتخابي يذكر ازاء هذا الالتزام، بل العكس صحيح، إذ ما فتئ يجني من تزمته وتعصبه الفوائد. ذلك ان ولاية كارولينا الشمالية التي أرسله الناخبون فيها الى مجلس الشيوخ خمس مرات متواصلة ابتداء من العام 1972، هي احدى ولايات الصلب في الجنوب الأميركي. وللجنوب الأميركي، منذ أول استيطانه قبل أربعة قرون ونيف، مسار تطور خاص قائم على النشاط الزراعي، وقد دخل طور المجابهة مع الشمال في الحرب الأهلية الأميركية في منتصف القرن التاسع عشر، ثم شهد فترة احتلال شمالي ما زالت رواسبها مترسخة في المتداول الثقافي الجنوبي والذي يتضمن قدراً كامناً من العداء العنصري للأفارقة الأميركيين الذين كان تحريررهم من الاسترقاق الدافع المعلن للهجوم الشمالي. والمجتمع الجنوبي ما زال يعاني من انفصام عرقي حاد يتجلّى في الصيغ المتتابعة للمجتمع "الأبيض" بهدف كبح ترقي الأفارقة الأميركيين في أوساطه. ففي الستينات، كانت الصيغة المتداولة الاعتراض على "تعكير الأمن" الذي يمارسه الأفارقة الأميركيون كاعتراضهم على حرمانهم من حقهم بالاقتراع مثلاً. وكان جيسي هيلمز أحد أبرز أصوات ادانة هذا "التعكير"، وهو القائل انه "لا يستطيع الزنجي أن يطمئن أبداً الى ضبط النفس النابع من لطف الآخرين، فيمضي بتسكعه وتعكيره صفو عيشهم وأعمالهم والتعرض لحقوقهم. فشغبه لا بد ان يؤدي الى شغب مقابل، وعنفه الى عنف مقابل، وتجاوزه للقوانين الى تجاوز مقابل". ويبدو ان صراحة هيلمز هذه طرأ عليها في العقود التالية قدر من التلطيف الشكلي، انسجاماً مع تطور الخطاب السياسي في الولاياتالمتحدة باتجاه رفض التنميط العرقي، فانتقل مع سائر أصحاب المقولات العنصرية الى الاعتراض "الموضوعي" على برامج "العمل الايجابي" الهادفة الى التعويض عن الغبن اللاحق بالأفارقة الأميركيين كمجموعة، عبر توفير الفرص لأصحاب الكفاءة منهم لتولي المناصب الادارية. فجيسي هيلمز أحد أبرز المعارضين لهذه البرامج، انطلاقاً من قناعته طبعاً بضرورة تكافؤ الفرص أمام الجميع من دون تفضيل فئة على أخرى. غير ان التشهير العنصري المبطن بقي أسلوبه المفضل في استجداء أصوات جمهور ولايته في الانتخابات. بل ان معظم مواقف هيلمز التي تثير الاستهجان لدى الديموقراطيين والتقدميين في عموم الولاياتالمتحدة، من رفضه التعديل الدستوري لضمان حقوق المرأة وصولاً الى هجومه الكلامي المتواصل على "الخطة المثلية"، مواقف مستمدة من المتداول الثقافي الجنوبي المحافظ. أما دفاعه عن شركات التبغ فهو دفاع عن أحد أهم المقومات الاقتصادية لولايته وأحد أهم مصادر التمويل لجعبته الانتخابية. وبوش، بالطبع، ليس جيسي هيلمز، وارتهانه ليس لشركات التبغ، بل لشركات النفط على رأي معارضيه، وجمهوره لا ينحصر بكارولينا الشمالية وتعقيداتها العرقية والتاريخية. لذلك فبوش يطرح نفسه على انه الرئيس "الجامع لا المفرّق". والرئيس الذي اختار أول وزير خارجية من الأفارقة الأميركيين. لكن بوش ببعض ممارساته قادر على الاستهتار الكامل بالأفارقة الأميركيين، بعد ان فشل في حصد أي قدر يذكر من أصواتهم في الانتخابات الماضية. وامتناعه عن المشاركة في مؤتمر دوربان ينصب جزئياً في هذه الخانة. فثمة فوارق شكلية متعددة بين هيلمز من جهة وبوش وعموم المحافظين من جهة أخرى، لكن الاختلاف في جوهر المواقف قليل. ويبدو ان هيلمز الذي شارف على الثمانين، سئم تكاليف المنصب. وإذا كانت الأجواء السياسية الأميركية قادرة وان على مضض على استيعاب فظاظة هيلمز العنصرية المبطنة حيناً والمظهّرة أحياناً، باعتبارها من حق الجيل القديم الذي اعتادها، فإن هيلمز بتقاعده يصل بها الى خاتمتها. فالبائد في طراز المحافظة الذي يعتمده هيلمز هو الجانب الخطابي وحسب. اما المضمون فسلعة متداولة. ورغم ان هيلمز بتقاعده سوف يحرم الديموقراطيين من التهويل بمواقفه، فإنه يمنحهم فرصة لتعزيز نفوذهم في مجلس الشيوخ، إذا لم يتوافر للجمهوريين مرشح قادر على تعبئة الناخبين في ولاية كارولينا الشمالية من دون اللجوء الى الصيغة الخطابية التي تقاعدت مع سلفهم.