إذا كان الرسام الفرنسي الانطباعي بيار - أوغست رينوار قد أبدى على الدوام ندمه لأنه لم يزر فيينا ليشاهد لوحة "رسام في الاستوديو" للفنان فيرمير فان دلفت، فإن رينوار نفسه، على رغم اعجابه الشديد بتلك اللوحة، كان يقول إن لوحة أخرى للفنان نفسه، هي "شاغلة الدانتيلا"، تعتبر في رأيه أفضل لوحة حققها رسام في تاريخ البشرية. لم يكن رينوار المعجب الوحيد بهذه اللوحة. فهي، طالما أثارت مخيلات الفنانين وأحاسيسهم ودارسي الفن، وطالما شبهها كثر ب"موناليزا" ليوناردو دافنشي، وفضلوها على هذه اللوحة الأخيرة. فإذا أضفنا الى هذا ولع الكتاب والشعراء باللوحة والفتاة المرسومة فيها، الى درجة ان كاتباً فرنسياً خلال النصف الثاني من القرن العشرين كتب رواية - حوّلها السويسري كلود غورينا فيلماً - حملت عنوان اللوحة نفسها، وكان موضوعها كله يقوم على تقديم شخصية لها السمات الروحية نفسها والتوق نفسه الى الحياة، والانهماك على العمل ذاته، واللامبالاة بالعالم الخارجي، يمكننا ان ندرك جزءاً من الأهمية التي أسبغت دائماً على لوحة، قد يفاجأ المرء حين يدرك صغر حجمها. فاللوحة لا تزيد عرضاً على 21 سم، وطولاً على 25 سم. ما الذي فتن كل هؤلاء في لوحة معلقة في احدى قاعات متحف اللوفر الفرنسي، وقد يمر بها المرء، أولاً، من دون أن ينتبه اليها؟ ولماذا هذا كله عن لوحة رسمت بسرعة أواسط القرن السابع عشر، ومن المؤكد ان الرسام الذي رسمها، ما كان يخمن لها أنها ستعيش الى الأبد؟ لم يعش فان فيرمير المعروف بفيرمير فان دلفت سوى ثلاثة وأربعين عاماً. وهو لم يترك وراءه حين مات، أكثر من أربعين عملاً. بعض هذه الأعمال لم يكن موقّعاً ما جعل المؤرخين ينسبونها الى غيره. وفان فيرمير لم يسافر كثيراً، بل يقال انه نادراً ما بارح مدينته دلفت. والحال اننا اذا حكمنا على حياته من خلال لوحاته، قد يخيل الينا انه لم يغادر بيته الهادئ الأنيق، بل أمضى حياته كلها وهو يرسم مشاهد "تحدث" داخل البيت. ولقد وضعنا تحدث بين مزدوجين هنا، لأن الكلمة تبدو مبالغاً فيها. لأن لا شيء يحدث حقاً في اللوحات. انها الحياة اليومية ملتقطة في لحظة استرخاء. لوحات تمثل شخصيات تمارس ما يمكن أن نمارسه يومياً. فسواء أكانت الشخصية المرسومة فتاة تنظر الى رسام أو عالم جغرافيا يتأمل خرائطه، أو امرأة تكتب رسالة، أو أخرى - لعلها هي نفسها - تقرأ رسالة اخرى، وحتى لو كانت اللوحة تضم رساماً يرسم موديله في غرفة هادئة، فإن ما يصل الى المشاهد حين تأمله هذه اللوحات، انما هو شعور التواصل اليومي. وكأن الشخصيات هنا، منذ الأزل وباقية الى الأبد. إن هذا الانغلاق على الذات في تعبير عن نهر الحياة الجاري بسلاسة وعذوبة، هذه الشخصيات التي تبدو قليلة الاهتمام بالعالم الخارجي هي ما فتن المشاهدين بهذه اللوحات. وفي هذا الاطار من الواضح ان فيرمير ينتمي حقاً الى ذلك النوع الفني الذي كان الهولنديون في زمنه، مبتكريه وسادته. هنا، في هذا النوع، صار العالم الداخلي هو العالم الفسيح، العالم اللامتناهي. الانسان في خلوته وفي حميمية ممارساته اليومية، الانسان الهادئ البسيط وقد خلت حياته من ذلك البعد الدرامي الصاخب. ان ما يلتقطه الفنان هنا، هو لحظة انصراف الانسان الى ما يشغله شخصياً، الى فرديته ودلالتها. وفي هذا الاطار يصبح من الطبيعي أن يظهر الرسام في لوحاته، هدوء العالم الداخلي/ المنزلي لهذا الفرد. وهو هدوء ترصده عين الفنان - وبالتالي عين الناظر الى اللوحة - كما ترصده عين بصاص اكتشف فجأة الوجود المحسوس للآخر. ان الخارج هنا لا يوجد الا عبر هذه النظرة البصاصة، عبر العين الخارجية المفاجأة اذ تكتشف ما لم يسبق لأحد اكتشافه: يومية الآخر في لحظاته الحميمة وهو غير مدرك ان ثمة عيناً تنظر اليه. هذا العالم، هذا الامتزاج غير الارادي بين العين الخارجية والعالم الداخلي اللاهي بنفسه، هو ما يهيمن على لوحة "شاغلة الدانتيلا". إن ما لدينا هنا فتاة تبدو غارقة تماماً في عمل، من الواضح انه يشغلها منذ زمن وسيشغلها الى زمن آخر. تقوم به، تحبه، ولعله مبرر حياتها ووجودها. هنا قسم الرسام لوحته قسمين تبعاً لأسلوب استخدامه للون فيهما: قسم غامق اللون يشمل الطاولة وبعض الأثاث والقماش الجانبي، وذاك الذي تشتغل عليه الفتاة، وقسم آخر أصفر يشمل ثياب الفتاة والجدار خلفها. وهذا اللون الأصفر يبدو نابعاً من تعرضه لمصدر نور آت من يسار اللوحة - على عادة ما كان يفعل فيرمير في لوحاته كلها حيث يكون مصدر النور جزءاً أساسياً من اللوحة، ويكاد يشكل العلاقة الوحيدة القائمة بين ما هو داخل اساسي وما هو خارج غير مرئي إلا في تأثيره الضوئي. والحال ان المرء ما إن ينظر الى هذه اللوحة، حتى يلاحظ نوعاً من الشفافية الناعمة، ونوعاً من لعبة التفاعل بين الظل والضوء يغمران وجه الفتاة، وينمان عن دعتها وتواضعها. إنها في هذا كله تبدو منتمية تماماً الى بقية شخصيات فيرمير: الشخصيات التي تترك للزمن ان يمر ببطء - وهذه الشخصيات - وشاغلة الدانتيلا تعبر عنها تماماً - تبقى دائماً وحيدة في مواجهة ذاتها. وحيدة في حيّز مغلق بإحكام، مغلق الى درجة انه يبدو عصياً على امكان أن يتسلل اليه العالم الخارجي. هذا العالم لا يصل الى هنا إلا عبر خيال تقترحه خارطة للعالم، أو أدوات فلكية، أو لوحة معلقة... هذه العناصر ترسم عالماً آتياً من الخارج، لكنه سرعان ما يجد نفسه مصطدماً بسلبية تهيمن على نظرات الشخصيات، بسلبية أو بلا مبالاة. ولا نعتقد ان علينا هنا أن نؤكد كيف ان اللامبالاة الهادئة بما يحدث من حولها، هو ما يعطي لمشهد شاغلة الدانتيلا هذه سحرها. هذه اللامبالاة، التي يمكن اعتبارها قمة الاحساس الفردي، أي احساس الفرد بوجوده محوراً لعالمه الخاص، هي التي تهيمن على معظم الشخصيات التي رسمها فيرمير في لوحاته. ومن المؤكد انه لو قيض لفيرمير، فنان يفكر ويرسم مثله، ورسمه، لكان من شأنه أن يعطيه السمات ذاتها التي أعطاها هو الى شخصياته. من هنا لم يكن من الصدفة أن يلقب فيرمير ب"أبو الهول" لأنه هو الآخر كان على الدوام لا مبالياً، صامتاً، منهمكاً في عمله. عالمه هو عالم بيته وحياته العائلية هو الذي أعجب 11 ولداً، وكان دائم الإحساس بالحاجة الى المال. ولد فيرمير العام 1632 ومات في العام 1675، وكان في قمة عطائه الفني حين رسم "شاغلة الدانتيلا" التي ينظر اليها كثر على أنها "بورتريه ذاتية" رسمها فيرمير بشكل موارب، في الوقت نفسه الذي كانت فيه تعبيراً عن عالم انساني يولد حديثاً ويلد معه الطبقة الوسطى، التي ينتمي اليها معظم شخوص لوحاته.