إثر إعلان نبأ اغتيال الجنرال أحمد شاه مسعود في افغانستان، نقلت الأنباء سلسلة عمليات نفذتها طائرات انتحارية ضربت مبنى التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن. وربط المعلقون بين تزامن الحدثين المتباعدين جغرافياً، وبين الرسائل السياسية التي حاول "العقل المدبر" توجيهها الى كل من روسياوالولاياتالمتحدة في آن. واعتبر الرئيس فلاديمير بوتين ان تغييب الجنرال مسعود عن المقاطعة المتمردة على سلطة "طالبان"، سيعبد الطريق لقيام تسوية يستفيد منها ثوار الشيشان. في حين ان الضربة المتعددة الأهداف التي وجهت الى أعظم دول العالم كانت بمثابة الطعنة القاتلة لأنها أصابت ثلاثة مواقع مركزية تستند اليها عظمة الامبراطورية الاميركية. ذلك ان مبنى التجارة العالمية في نيويورك يمثل عنوان القوة الاقتصادية، على اعتبار ان المدينة العمودية الشكل تختزن في مصارفها ومؤسساتها وشركاتها مدخرات تساوي في الحجم ثلث أموال دول العالم، اضافة الى تشغيل ما نسبته 40 في المئة من حركة الاستثمارات المتداولة في أسواق النقد. من هنا حرص الرئيس جورج بوش على ترديد لازمة مفادها ان بلاده لن تسمح بتكرار هذه "النكبة" مرة اخرى. وهو بهذا الكلام أراد تطمين الدول الخارجية التي أقلقتها سلامة الاقتصاد الاميركي، بأن بلاده لا تزال الملاذ الآمن لفائض الأرصدة والاموال المكدسة في خزائن مصارف نيويورك. بينما يرى الخبراء ان السوق الأوروبية ستستفيد كثيراً من الانتكاسة الاميركية. أما بالنسبة لمبنى البنتاغون، فإن استهدافه يرمز الى استهداف العصب المركزي للقوة العسكرية الاميركية، مع كل ما تمثله هذه المؤسسة من قيادة لأساطيل البحر والجو والصواريخ النووية والدرع الاستراتيجية. ولقد شكلت هذه الضربة القاصمة اهانة علنية لكل ما صدر عن وزراء الدفاع الاميركيين من تبجح يتعلق بسلامة الاجواء المحصنة ضد الصواريخ العابرة للقارات. كما شكّلت في الوقت ذاته صدمة قوية لدول الحلف الاطلسي التي رأت في اتفاقية الدفاع المشترك مظلة عسكرية مثقوبة يصعب الاعتماد على حمايتها. ويستفاد من تكرار اعلان الموقف الأوروبي المساند لأي قرار تتخذه ادارة بوش، ان واشنطن تشعر بالحاجة الى التأييد المعنوي إثر الشلل الذي أصاب مؤسساتها الحيوية. كما تشعر أيضاً بأن اشتراك الدول الحليفة في العملية الانتقامية يؤمن لها التغطية السياسية المطلوبة في حال تجاوزت الحدود المرسومة لوقاية الدول الصغرى من عربدات الدول الكبرى. لهذا أعلنت بكين استنكارها وإدانتها لأعمال الارهاب، ولكنها طلبت من واشنطن استشارتها في موضوع الانتقام خشية القيام بعمل متهور يضر بسمعة الصين ودورها الآسيوي. كان من المفترض ان توجه الضربة الثالثة الى الرئيس جورج بوش واعضاء ادارته داخل مبنى البيت الأبيض. ويبدو ان العملية فشلت بسبب نزاع بين الخاطفين والركاب أدى الى سقوط الطائرة وتحطمها غرب بنسلفانيا. وتردد في العاصمة الاميركية ان مديرة الأمن القومي كوندوليزا رايس هي التي أصرت على ضرورة بقاء الرئيس في فلوريدا لاقتناعها بأن الطائرة الرابعة كانت ستنفذ عملية انتحارية شبيهة بعملية البنتاغون. وحجتها ان منطق المخطط يفتر ض قتل القيادة السياسية بحيث تعم الفوضى وتصبح الولاياتالمتحدة مجتمعاً مشلولاً فاقد التوجه والهداية. وهذا ما كان سيحدث إثر اغتيال الرئيس جون كينيدي لولا اسراع نائبه ليندون جونسون في تأدية قسم مسؤولية المتابعة وهو على متن طائرة الرئاسة. والمؤكد ان الاهتمام الخاص المُعطى لمنصب الرئيس ينبع من حجم المهام الكبرى التي يتولاها، وفي مقدمها مهمة اعلان حرب نووية. لهذا السبب وسواه لا تكتمل حلقة التدمير إلا اذا أصيب عصب القرار السياسي بالشلل، شأنه شأن القرارين الاقتصادي والعسكري. عندئذ تكون الخطة قد نُفذت بإحكام، وتكون أعمدة الحكم الثلاثة - الاقتصاد والدفاع والسياسة - قد سقطت تحت الركام. الصحف الاميركية وصفت يوم الثلثاء الماضي باليوم التاريخي لأنه يذكر الاميركيين بمجزرة "بيرل هاربور" التي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية. والوصف في هذا المجال يركز على مقارنة عمل الانتحاريين في نيويورك وواشنطن بالهجوم الذي نفذه رجال "الكاميكاز" اليابانيون ضد قطع الاسطول الاميركي. أما الصحف البريطانية فقد رفعت درجة المغالاة لتصف عمليات ضرب البنتاغون ومبنى التجارة العالمية بأنها بداية الحرب العالمية الثالثة فوق الأرض الاميركية. وبررت صورة المبالغة بالقول ان جميع الحروب التي خاضتها القوات الأميركية خلال هذا القرن، كانت خارج الولاياتالمتحدة، أي في أوروبا أو كوريا أو فيتنام أو آسيا أو الشرق الأوسط. صحيح ان السفارات الاميركية تعرضت للأذى كما تعرض موظفوها للخطف والاغتيال... لكن الصحيح ايضاً ان هذه المراكز مبنية فوق أراض بعيدة عن جغرافية الولاياتالمتحدة. ولهذا كان الأميركي يشعر بأن وجوده داخل وطنه يمثل له فكرة الاطمئنان وسط ملاذ آمن تفصل بينه وبين الأوطان الأخرى مسافة بعيدة هي مسافة الاوقيانوس الاطلسي. وفجأة، تبدل هذا الشعور، وحلّ محله شعور الخوف والهلع لأن الهجمات الأخيرة حدثت فوق أرضه ومدنه المزنرة بقواعد الصواريخ والقنابل النووية. بقي سؤال عصيّ أُجيب عليه بالتخمين والحدس: من هو العدو الذي سدد الى وجه الولاياتالمتحدة هذه الضربة الموجعة؟ فور اصطدام الطائرتين بمبنى التجارة العالمية، بادر المعلقون الاميركيون في التلفزيون والراديو الى اتهام اسامة بن لادن بالوقوف وراء هذه الحرب. وانتقدهم المحللون الأوروبيون بسبب التسرع في الاستنتاج، مذكرين بالتهم التي وجهت الى الشيخ المصري الضرير عمر عبدالرحمن اثر تفجير مبنى أوكلاهوما. ثم تبين بعد حين ان الفاعل هو مواطن اميركي يدعى تيموثي ماكفايّ. ولكن هذا التفسير لم يقنع مكتب التحقيقات الفيديرالي الذي أعلن تمسكه باتهام اسامة بن لادن بناء على عدة قرائن: أولاً: ان الاعتداءات السابقة على سفارتي اميركا في كينيا وتنزانيا، اضافة الى تفجير المدمرة كول، أثبتت وجود بصمات ابن لادن على كل هذه العمليات. ثانياً: لأن مراكز التدريب في جبال افغانستان حيث يختبئ ابن لادن، لا تستهوي إلا الأصوليين ممن يؤمنون بالاستشهاد في سبيل الجهاد المقدس. وبما ان العملية الأخيرة المتعددة الاهداف، تحتاج الى عشرين فدائياً على أقل تقدير قتل منهم 18 فإن طبيعة المهمة تؤكد وقوف اسامة بن لادن وراء اعداد عناصر الانتحار وتصميم خطط التدريب والتخفي في المدن الاميركية. ثالثاً: عام 1993 قام رمزي يوسف من أتباع ابن لادن بتنفيذ عملية تفجير مبنى التجارة العالمية في نيويورك. واعترف أثناء التحقيق بأن العملية فشلت بسبب المواد الرديئة التي صنعت منها العبوة الناسفة. كما أدلى باعترافات خطيرة حول خطة كان يعدها مع رفاقه لخطف 12 طائرة وتفجيرها، مقلداً بذلك وديع حداد. كما ذكر أمام المحقق انه تلقى تدريبات لخطف طائرة مدنية واستخدامها لتنفيذ عملية انتحارية في مبنى مكاتب الاستخبارات المركزية في لانغلي فيرجينيا. وبما ان هذه السوابق تتلاءم مع طبيعة العمليات الأخيرة المتممة لما ذكره رمزي يوسف، فإن الاستنتاج المنطقي قاد مكتب التحقيقات الى اتهام ابن لادن وأنصاره. علماً بأن ممثل حركة طالبان في اسلام آباد عبدالسلام زعيف ابدى استعداده للنظر في طلب تسليم ابن لادن شرط تقديم أدلة مقنعة تثبت تورطه. كذلك نفى أسامة شخصياً أي علاقة له بالعمليات الأخيرة، ولكنه امتدح الشباب المسلم الذي بايع على الشهادة والجهاد في سبيل الله. مضاعفات العمليات الانتحارية أحدثت خللاً جديداً في نظام العلاقات العربية - الاميركية بسبب موجة الغضب الشعبي التي استغلتها القيادات الاسرائيلية لتؤجج شعور النقمة ضد المواطنين من أصول عربية. ولقد شدد نتانياهو في أحاديثه المتلفزة على ضرورة اقامة تحالف غربي تكون اسرائيل عضواً فاعلاً فيه، بحيث يُصار الى دعم المؤسسة التي أنشأها في واشنطن عام 1990 لمحاربة "الارهاب الاسلامي". وكتب الى الرئيس جورج بوش رسالة ضمنها المقترحات التالية: 1- فرض حظر على تصدير التكنولوجيا المتطورة للدول الراعية للارهاب. 2- اعلان مقاطعة ديبلوماسية واقتصادية وعسكرية للدول الارهابية. 3- تجميد الأرصدة الموضوعة في مصارف الدول الغربية اذا ثبت انها تخص أنظمة ومنظمات ارهابية. 4- وضع قوانين مشددة للحد من الهجرة الى أوروبا والولاياتالمتحدة، والعمل على ترحيل المشتبه بهم. 5- تثقيف الشعب وتدريبه على فنون محاربة الارهاب. وأيده في هذا الخط ايهود باراك الذي طالب الإدارة الاميركية بالضغط على الدول الاسلامية والعربية لعلها تنجح في منع الارهاب ووقف العمليات الانتحارية. واعطى باراك الانتفاضة كمثل على أسباب تخريب عملية السلام، مدعياً ان عرفات تعهد في أوسلو تجميد نشاط "حماس" و"الجهاد الاسلامي". واستغل رافي ايتان خدماته السابقة في "الموساد" لتذكير الاميركيين بأنه قادر على ترتيب عملية خطف ابن لادن من افغانستان، كما نجح في خطف أدولف ايخمان من الارجنتين. كذلك اقترحت المنظمات اليهودية في الولاياتالمتحدة استثمار المناسبة لاجتراح مفهوم جديد يتناسب مع طروحات صموئيل هانتنغتون في كتابه "صدام الحضارات"، أي انشاء تكتل عالمي يضم الدول المؤمنة بالديموقراطية، والتي وحدها تستطيع دحر الارهاب الذي تغذيه دول الاستبداد. من المؤكد ان هذا الموقف الاعلامي الماكر وجد لدى الشعب الاميركي الغاضب تجاوباً انعكست نتائجه السلبية على أفراد الجاليات العربية والاسلامية. ولقد تعرض العديد من المغتربين والمهاجرين والطلاب لحملة مضايقات عنصرية اضطرت الرئيس بوش الى التدخل وتوجيه رسالة تهدئة الى الجمهور الناقم. كذلك فعل رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير عندما اكتشف ان هناك تحريضاً اعلامياً سافراً ضد الجاليات الاسلامية يمكن ان تؤدي ذيوله الى صدامات محلية. وأيده في دعوة التعقل كتاب ومعلقون طالبوا الادارة الاميركية بضرورة مراجعة مواقفها المنفرة والمتعارضة مع دورها كقوة عظمى. ونشرت الصحف اللندنية مقالات تشجب منطق السيطرة الغبية التي تمارسها واشنطن على المجتمع الدولي والامم المتحدة. وكتب أحد المحللين يقول ان السياسة الاميركية منذ دخول الممثل ريغان الى البيت الأبيض انحرفت عن خطها التقليدي، وراحت تتصرف بوحي من حكايات السينما مثل حكاية "رامبو". وقال ان القوة العسكرية الضخمة لن تكون مجدية اذا لم يتحكم بتوجيهاتها الفكر الناضج والعقل الرزين. واعطى أمثلة على اسباب انهيار الامبراطوريات، محذراً من انهيار "الامبراطورية الاميركية" اذا لم تسارع الى تدارك الاخطاء المميتة. ووصف وضعها بوضع الديناصور الذي انقرض لأن عقله الصغير جداً لم يتكيف مع المناخات الجديدة. بقي سؤال أخير: ما هي الخطوات العسكرية التي ستتخذها ادارة بوش للخروج من أزماتها الاقتصادية والسياسية والأمنية؟ في آخر حديث أدلى به وزير الخارجية كولن باول أعلن ان بلاده تتهيأ لتشكيل اتحاد دولي على غرار الاتحاد الذي شكله جورج بوش الوالد عام 1990 لإخراج قوات صدام حسين من الكويت. وبما أنه من المهين حشد كل جيوش الحلف الاطلسي لخطف اسامة بن لادن، فإن توجيه ضربة لأفغانستان قد يكون ثمن الترضية، على ان تتدخل باكستان لاحقاً للقيام بتسوية مقبولة. هذا اذا لم تظهر التحقيقات ان المافيا الكولومبية قد تكون وراء هذه العملية المبرمجة والدقيقة. على أثر تدمير مبنى أوكلاهوما تدخل مكتب التحقيقات الفيديرالي لمصادرة كتاب عنوانه "مذكرات تيرنر" للمؤلف أندرو ماكدولاند. والسبب ان الفاعل الحقيقي تيموثي ماكفاي اعترف بأنه استوحى العملية من المذكرات، وطبقها حسبما يطلب المؤلف. وفي الصفحة 202 من الكتاب إياه يقول تيرنر في مذكراته: "اليوم هو التاسع من تشرين الثاني نوفمبر 1993. وانا في غرفة القيادة أوجه مقدم الطائرة المخطوفة نحو واجهة مبنى البنتاغون. وربما يسقطني صاروخ موجه اذا اقتربت كثيراً من الأرض. ولكن عليّ ان أغامر". ترى، هل قرأ اسامة بن لادن هذا الكتاب، أم ان هناك فريقاً اميركياً معارضاً مثل تيموثي تأخر في تنفيذ خطة تيرنر مدة سبع سنوات!! * كاتب وصحافي لبناني.