"يريدون أن يدمروا النساء، ليقضوا بالتالي على الأمة الأفغانية"، هذا ما قالته لطيفة احدى "الثائرات الجريئات" على النظام الذي تفرضه حركة طالبان في كابول، خلال زيارة مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وهي رددت عبارات مماثلة مراراً وتكراراً خلال إقامتها في باريس لأيام معدودة، عرفت خلالها معنى استعادة الحرية والقرار، وأضافت "لا أفهم كيف ترفضون تصرفات وأحكام هؤلاء البربريين، ثم تستقبلون ممثليهم. لم نأت الى هنا أي باريسوبروكسل لنسأل عن مساعدات صغيرة، إنما لنطالب بتحرك دولي لمساعدة نساء أفغانستان على التحرر من هذا الحكم". جاءت الزيارة التي نُظمت لثلاث نساء من أفغانستان الى العاصمة الفرنسية، ثم لقائهن رئيسة البرلمان الأوروبي نيكول فونتان، مادة تانولتها الصحف والمجالات الفرنسية، وكانت مناسبة لاستحضار قصص مواطنات لهن تحررن من أسر طالبان، اخترن بلاد الغربة التي لم تكن يوماً المدينة الفاضلة، إضافة الى قصة جميلة عن "الحب" على الطريقة الأفغانية، حيث نظرات العيون وسيلة التواصل. الروايات التي نقلتها "لوموند" و"إيل" و"سيبا برس" تشبه قصص الأحلام والحرية حين تكون سجينة المنازل وحكم المتحجرين، فهذه العبارات المستعارة من قاموس القصص الرومانسية المصورة، هي بالفعل خير تلخيص لحال النساء في تلك البلاد. "أردت أن أجوب العالم، فوجدت نفسي سجينة المنزل"، كررت لطيفة المتحمسة مرات ومرّات في مقر البرلمان الأوروبي، وخلال المقابلات الصحافية التي أجريت معها. ولطيفة ابنة طبيبة وأستاذ جامعي، كانت تحلم دائماً بأن تصبح صحافية، ونجحت، وهي بعد في المدرسة في إصدار مجلة اهتمت بشؤون الشباب. واعتبرت لطيفة دائماً أن أجمل النزهات تلك التي تنتهي في صالات السينما حيث تتابع وصديقاتها الأفلام الهندية المفرطة في رومانسيتها، والساذجة أحياناً. وروت لطيفة انها كانت تكره الزي المدرسي الموحد، ولم تتوقع أن تضطر الى ارتداء التشادور والتوقف عن متابعة دروسها. خلال زيارتها الأوروبية كانت الأكثر حضوراً، ترفع صوتها عالياً، وتسأل لماذا يستقبل المسؤولون والسياسيون في الغرب ممثلي حركة طالبان، وهي لم تخف كرهها للنظام الشيوعي في أفغانستان لكنها لم تفهم تدخل الدول الأجنبية ضده وتقاعسهم عن التدخل ضد طالبان لتحرير المرأة الأفغانية. تابعت وسائل الاعلام الفرنسية بحماسة زيارة النساء الثلاث الى باريس ثم بروكسل، ووصفت تحركاتهم، وخوفهم وحذرهم، فقد خلعن الحجاب وانطلقن في الشوارع الأوروبية، تتنشق كل منهن الهواء، تملأ رئتيها منه كأنها تتنشقه للمرة الأولى، لكنهن كن يذكّرن بالخطر الذي سيتعرضن له عند عودتهن، وبالخطر الذي يهدد عائلاتهن، كانت لطيفة وديبا وهوما، يتحدثن عن حوادث شهدنها، عن امرأة تعرضت للضرب في الشارع من قبل أعضاء في طالبان لأن لون حذائها أبيض كعلم الحركة، وأخرى كانت مع شقيقها في الشارع لكنهم اعتقدوا انه رجل غريب عنها فضربوها وضربوه. هذه الحادثة التي تؤرق النساء في تجوالهن في كابول، ولم تلق بظلالها عليهن، وهن يجبن شوارع باريس، حيث اخترن أجمل الملابس مع القليل من الماكياج، كن كما الطفل حين يستعيد لعبته الضائعة التي أُخذت منه بالقوة، فرحات ونضرات، خطواتهن رشيقة، عيونهن تلتهم المعالم الجميلة. وكن أيضاً يتطلعن الى الأفق والسماء الزرقاء، والشمس التي قد تبدو أجمل حين تشرق فوق كابول، لكن التشادور والجدران والأسوار المحكمة الإغلاق تحجبها عنهن وعن كل نساء بلادهن. أثّرت شهادات النساء الثلاث في نفوس من التقاهن. كن يبحثن بأي ثمن عن استعادة حريتهن، بل عن أبسط حقوق المرأة، أن يكون لهن الحق في العلم والعمل والحب. ولم تنس كل منهن التذكير بأن الزواج في أفغانستان لا يتم إلا على الطريقة التقليدية، فهو زواج مدبر في غالبية الأحيان، تتعرف العروس على عريسها فقط حين يطلب يدها، ولا يعود له أمر اختيارها إنما تقوم أمه بذلك، والزواج في هذا المعنى مصير لا بد منه، تنتظره وتخضع له من دون مقاومة، وتعتقد أحياناً انه سيحررها من سجن منزل الأسرة، لكن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهيه سفنهن. ولأن كابول غنية بالنساء اللواتي يردن الحديث عن وضعهن، إذ يعتقدن ان التوجه الى الغرب يمكن أن يكون وسيلة للدفاع عن أنفسهن، وان هذا الغرب سيهبّ لنصرتهن، لم يجد صحافيون، على رغم المحاذير والمخاطرة الكثيرة صعوبة في العثور على من تروي معاناتها. شيرين طبيبة، تعمل في احد مستشفيات كابول، وهي مغرمة بزميل لها تبدو هذه القصة تقليدية، تحصل في أي مكان ولا ينتبه اليها أحد، لكنها أمر استثنائي في منطقة تتحكم طالبان بمصيرها. في هذه المنطقة حيث تمنع المرأة من مغادرة المنزل وحيدة، ولا تظهر إلا مرتدية نقاباً يغطيها كلها، وفي هذه المنطقة يبدو أن الحظ يبتسم لشيرين، فهي فتاة تحمل شهادة جامعية، فيما صار العلم ممنوعاً على النساء في كابول، وهي أيضاً فتاة عاملة، وهذا الأمر نادر، لأن النساء لا يعملن وفق عرف طالبان، وقد التقت في مقر عملها بمن أحبه قلبها، هو طبيب مثلها، علمت من نظراته انه يبادلها الشعور، لم يعلن لها حبه بعد، فاللقاء او الكلام ممنوع بين الجنسين في مقر العمل، وثمة موظفون يعملون على مراقبة زملائهم لمنع أي اختلاط بين الأطباء والطبيبات، وبين الممرضين والممرضات. ومن الطبيعي ان عقاب من يخالف هذه القوانين عسير جداً. لذا تقوم علاقة شيرين وحبيبها على حوار العيون، لم يتبادلا الكلام إلا قليلاً، ولم يلمس بالطبع يدها يوماً. روت شيرين انها تستمع سراً الى الأغاني الرومانسية التي أداها المغني الأفغاني الراحل أحمد زاهر، وهو يتمتع بشعبية كبيرة، وتقول شيرين ان "أفغانستان بلد رومانسي"، وهي على رغم اختلافها عن النساء التقليديات في بلدها، لا تبدو راغبة في مقاومة العادات والتقاليد، وتنتظر أن يأتي والد حبيبها ليطلبها من والدها، ويتزوجا وفق التقاليد الأفغانية. تبدو قصة شيرين محيرة نوعاً ما، ففي أفغانستان لم يعد الحب كما هو شائع في الدول الأخرى، يسيطر عليه الخوف، والخجل، ومحاولات فهم الآخر في غياب التواصل الحقيقي. لذا يمكن لشيرين ان تتحدث ساعات طويلة عن حبيبها، لكنها لا تلتقيه الا لدقائق، وقد تنجح في تعداد مواصفات يتحلى بها، لكنها ليست أكيدة أنها صفاته حقاً. الحب في أفغانستان، كما تعيشه شيرين المحظوظة بين بنات بلدها، هو كحب المراهقات بنات العائلات المحافظة والمتشددة، هو كذلك الحب الذي نتابعه في ثلاثية نجيب محفوظ حيث تسترق عائشة نظرة الى الشارع من الشباك المقفل حين يمرّ حبيبها. وتمضي الليالي تفكر به وتسمع الأغاني الرومانسية وترددها في غيابه طبعاً. لكن شيرين تعيش واقعاً مراً يبعدها يومياً عن الأجواء الرومانسية التي تحلم بها، إذ يبدأ نهارها بمعاناة البحث عن رفيقات طريق لأن سائقي التاكسي لا ينقلون امرأة وحيدة، ثم تعاني كثيراً وهي تحاول التفلت من ملاحقة المسؤولين عن عدم اختلاط الرجال والنساء في المستشفى، لذا حين تعود الى منزلها، تفضل الانزواء وحيدة مع المكتب والموسيقى والأحلام... حاد ناديا مختلف، فهي هاربة من تعسف طالبان بعدما قُتل ابنها وفقدت زوجها الذي اختطف لأنه كان موظفاً حكومياً خلال الحكم الشيوعي. عاشت ناديا، أستاذة الآداب الفارسية، شهوراً صعبة، كانت ممنوعة من العمل، حالها حال كل نساء افغانستان، وهي أم لثلاثة أولاد، أصغرهم كان لا يزال رضيعاً، لم تفكر إلا بالهجرة، وجربت الهرب عبر كل الحدود الأفغانية لكنها فشلت، خلال هذه الفترة كانت تمضي وأولادها الأيام والليالي من دون مأكل أحياناً، يلوذون بالمنازل الفقيرة، الى أن عرض أحدهم مساعدتها، وقال لها انه سيعاونها على الهرب الى المانيا، لكنه في مطار باريس سرق أوراقها وكل ما تملك من مال واختفى، وقررت هي البقاء في فرنسا. ناديا استعادت حريتها نوعاً ما، لكن هذه المرأة الفرحة والمتفائلة دائماً وفق ما تصفها صحيفة "لوموند"، تعيش معاناة مختلفة، تتمثل في الشعور بالحنين الى الوطن، وفي العنصرية التي تواجهها، فهي تعمل بائعة في مخزن كبير، لا تحمل معها محفظتها كي لا يطلب زملاؤها تفتيشها عند مغادرة العمل للتأكد من أنها لم تسرق شيئاً، وتصير ناديا متهمة بالسرقة فقط لأن لون بشرتها أسمر ولأنها من العالم الثالث. تروي ان عينيها تدمعان كلما مرّت بالقرب من مدرسة، تحن الى مهنتها كأستاذة للآداب الفارسية. وتقول إنها، عندما أطبقت حركة طالبان قبضتها على الحكم، سعت الى القيام بشيء ما، تذكرت انها معلمة، فاقترحت على نساء حارتها اعطاءهن دروساً مجانية في القراءة والكتابة فرفضن، أزعجها استسلامهن لقدرهن، فلم يفهمن أهمية التعلم "لماذا القراءة والكتابة، ولِمَ المعرفة؟" سألنها باستهزاء، بدت كل واحدة مرتاحة الى نمط الحياة الذي تعيشه.