لم تكن التظاهرات في اسطنبول، احتجاجاً على زيارة رئىس الوزراء الاسرائىلي آرييل شارون في الثامن من آب اغسطس الجاري، حاشدة بصورة لافتة، لكنها عكست تطورات فعلية على المستويين الاقليمي والتركي الداخلي، خصوصاً ان شارون هو المسؤول الاسرائىلي، الرفيع المستوى، الرابع الذي يزور تركيا العام الحالي. وكانت زيارات وزير الخارجية الاسرائىلية شمعون بيريز ووزير الدفاع بن اليعيزر ورئىس الاركان شاوول موفاز، العام هذا، مرت من دون احتجاجات تذكر. وبالتالي فإن الاحتجاجات القوية على زيارة شارون، تعكس، اضافة الى كونها تعبيراً عن الاستياء الشعبي الشديد في تركيا من الاعتداءات الاسرائىلية المتواصلة على الفلسطينيين، محاولة من التيار الاسلامي التركي، للعودة مجدداً الى الساحة السياسية بفاعلية بعد الانتكاستين القويتين الاخيرتين اللتين تعرض لهما: حظر حزب "الفضيلة" الاسلامي، بقرار قضائي على اعلى مستوى، وحكم المحكمة الاوروبية، بتأييد حظر حزب "الرفاه" الاسلامي في العام 1997. وعلى رغم ان التظاهرات كانت سليمة وهادئة، الا ان السلطات التركية واجهتها بحزم، خصوصاً لناحية اعتقال اكثر من 130 متظاهراً. وربما كان العامل الاساس للحزم الشديد، الصبغة الاسلاموية للتظاهرات، خصوصاً ان نسبة عالية من المتظاهرين، كانت من النساء المحجبات. وبالتالي فإن التظاهرات اضافة الى كونها احتجاجاً على زيارة شارون وقمع الفلسطينيين وعلى العلاقة المميزة الاسرائىلية - التركية، كانت تحدياً لعلمانية النظام، ومحاولة للقول ان الاجراءات القضائية والحكومية لن تفلح في انهاء حركة الاسلام السياسي في تركيا. ويبدو ان جانباً اساسياً من الحزم في مواجهة التحركات الاحتجاجية يعود ايضاً الى رغبة السلطات في تجنب اظهار ان الوضع في تركيا اصبح اكثر تجاوباً مع الدعوات الايديولوجية ومع تحركات الاحتجاج السياسية القوية، نتيجة التأزم الاقتصادي الشديد الذي تعيشه البلاد ومن ثم الازمات السياسية المتلاحقة. ويرجح ان انقرة التي ترتبط بعلاقة قوية مع الولاياتالمتحدة، لا ترغب في حصول ما يعكر صفو العلاقات، خصوصاً ان مواقف الجانبين لم تكن متطابقة تماماً، في ما يتعلق بأسلوب التعامل مع بغداد، اذ بدا واضحاً ان انقرة لم تتجاوب تماماً مع مشروع "العقوبات الذكية" الاميركي - البريطاني، واختارت مصالحها الاقتصادية مع العراق، على السير في ذلك المشروع. وبسبب اهمية العلاقة مع الولاياتالمتحدة، بالنسبة الى انقرة، خصوصاً في المستويين الاقتصادي والأمني، بنتيجة الظروف التركية البالغة الحساسية في هذه المرحلة، فإن انقرة، كما يبدو، ترغب في السير الى ابعد في ما يرضي الولاياتالمتحدة، على مستوى المنطقة، خصوصاً بالنسبة الى العلاقات المميزة مع اسرائىل، التي كانت دخلت مرحلة التعاون الاستراتيجي في العام 1996. ويبدو ان السلطات التركية على بينة من حقيقة ان تعاونها مع اسرائىل، خصوصاً في المجال العسكري، لا يحظى بتأييد يذكر على المستوى الشعبي، وكان استطلاع للرأي، نشرته الصحف التركية قبل سنوات، اظهر ان الاتراك 81 في المئة يرون اسرائىل دولة عدوة، وأن العداء لها يأتي في الدرجة الرابعة بعد أرمينيا وقبرص اليونانية واليونان. ويرى تقرير لمعهد واشنطن لشؤون الشرق الادنى، صدر قبل اشهر بعنوان "الابحار وسط الاضطرابات: أميركا والشرق الاوسط في قرن جديد"، ان "على الولاياتالمتحدة ان تشجع تركيا لتكون متورطة بفاعلية في الشرق الاوسط، وان تعمل مع حلفاء وأصدقاء اميركا الآخرين في المنطقة من اجل تحقيق السلام واستيعاب التحديات لاستقرار المنطقة". يضيف التقرير، الذي جرى تقديمه على انه مقترحات للادارة الاميركية الجديدة برئاسة الرئىس جورج بوش "ان على الولاياتالمتحدة ان تقدم الدعم من اجل تعميق التعاون الاقتصادي والعسكري بين تركيا واسرائىل... على الادارة الجديدة ان تعمل على تعزيز التعاون بين اصدقاء وحلفاء الولاياتالمتحدة في المنطقة... والتعاون الأمني بين اسرائىل وتركيا هو الأكثر وعداً على صعيد المنطقة من بين اشكال التعاون الاخرى". ويقول: "لكن التعاون الاقليمي يجب ان يكون ذا طبيعة اوسع من مجرد علاقة امنية بين تركيا واسرائىل. على الولاياتالمتحدة ان تدفع التعاون في المجالات كافة التي تواجه اصدقاءها على مستوى المنطقة بدءاً من مكافحة تجارة المخدرات، وصولاً الى المشكلات البيئية". ويبدو هذا التوجه جلياً من جانب اسرائيل وتركيا، ليس فقط بالنسبة الى كثافة الزيارات واللقاءات، بل ايضاً من الطبيعة المتصاعدة للعلاقات، على صعيدي التمارين العسكرية وصفقات التسلح، وصولاً الى السعي نحو تعاون مائي دائم، تتزود من خلاله اسرائيل المياه التركية. وتركزت المناورات التركية - الاسرائيلية، التي بدأت في العام 1996، على عمليات انقاذ بحرية، وتواصلت العام الجاري التمارين القتالية وبلغت اجواء الأناضول وبره، وهو ما أثار انتقادات صحافية وسياسية على مستويات متعددة. واحتجت جمعيات مدنية في قونية، عبر الصحف على هذه التمارين، تخوفاً من ان تؤدي الى تلويث اجواء المنطقة وتربتها بالمواد المشعة. وبدا واضحاً ان لهذا الاحتجاج البيئي جانباً سياسياً قوياً، يعارض فكرة التعاون العسكري مع اسرائىل، خصوصاً مع تراجع مستوى العداء الشعبي التركي للعراق، بنتيجة التصاعد الكبير في حجم التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي. في المقابل، تسعى اسرائيل، التي باتت تشعر بقوة ضغط استمرار الانتفاضة الفلسطينية والتعاطف العربي القوي مع الفلسطينيين، عبر محاولة تعزيز العلاقات السياسية مع تركيا الى اظهار انها ليست منعزلة على مستوى المنطقة، وهو امر ضروري معنوياً، وسط تحليلات تشير الى احتمال انفجار صراع عسكري اوسع في المنطقة. وتبدو الزيارات الاسرائيلية المتلاحقة الى تركيا، بمثابة محاولة لإقامة تحالف اقليمي بهدف وقف الانتفاضة الفلسطينية، ومن اجل محاولة تحقيق توازن سياسي على مستوى المنطقة مع التكتل العربي زائد ايران، الداعم سياسياً للانتفاضة الفلسطينية. ويعكس هذا التوجه ايضاً التزاماً بالسياسة الاميركية الحالية الساعية بوضوح الى توريط انقرة اكثر في سياسات المنطقة، واستخدامها كثقل سياسي من اجل تمتين الموقف السياسي لاسرائيل، ومواجهة ما تعتبره اسرائيل والولاياتالمتحدة تهديداً للاستقرار على مستوى المنطقة. وظهرت سياسة واشنطن بوضوح عبر مواقف معلنة وزيارات اميركية على أعلى مستوى الى تركيا. يضاف الى ذلك اشراك تركيا في "لجنة ميتشيل"، بشخص الرئىس التركي السابق سليمان ديميريل، التي صاغت اطار وقف المواجهات بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال. ويبدو هذا التصعيد الاسرائىلي في نوعية الشخصيات التي تزور تركيا، وهو تصعيد على المستوى العسكري، بدءاً من زيارة بيريز ثم بن أليعيزر فموفاز وأخيراً شارون، محاولة اسرائيلية للضغط على الموقف السوري، خصوصاً ان العلاقات السورية - التركية، تمر حالياً في مرحلة من التحسن، بعد سنوات من التوتر. وهو ما أفقد اسرائيل نقطة رئيسة في سياق توازن القوى والصراع السياسي مع سورية. وفرض القلق من التقدم في العلاقات الاقتصادية بين تركياوالعراق، والتحسن في العلاقات السورية - العراقية، على اسرائيل ضغوطاً اضافية، فاتجهت الى تركيا من اجل تخفيف الضغوط السياسية، وتحسباً لأي تعديل ولو طفيف في موازين القوى. وهو ما يحمل امكانات طرح معادلات جديدة على الساحة السياسية التركية، تنذر بمواجهات أشد سخونة. * صحافي لبناني.