كلما جاء رئيس جديد للولايات المتحدة "ترحمنا" على الذي سبقه، وكلما فرح العرب برئيس وهللوا له ظناً منهم انه سيجلب لهم الترياق ويصحح الأخطاء ويداوي العلل فوجئوا بأنه "اسوأ من أخيه" وأشد قسوة عليهم، ومع هذا لم يتعلم أحد من الدرس وبقي يراهن على هذا أو ذاك مع اننا نعلم جميعاً ان الرهان الوحيد الذي يحقق الآمال هو الرهان على القوة الذاتية للعرب ووقفات العز والكرامة والقدرة على الصمود ومواجهة الاخطار ووحدة الكلمة والقرار والموقف الحازم والحاسم والشجاع لدرء الأخطار المحدقة بالمنطقة والتي قد تتحول الى مواجهات دامية وربما الى حرب مدمرة. وقد شهدنا كيف حبس العرب أنفاسهم خلال معركة الانتخابات الرئاسية الاميركية وما تبعها من حرب أعصاب، بسبب التأخير في اعلان النتائج النهائية، وكان هناك شبه اجماع على جورج بوش الإبن و"الدعاء" له بالفوز على خصمه آل غور لعدة اعتبارات منها ماضي المرشح الديموقراطي المعروف بانحيازه لاسرائيل وتعاطفه مع كل مواقفها حتى ولو كانت ظالمة وعمله نائباً للرئيس بيل كلينتون في إدارة محشوة حتى النخاع بأنصار اسرائيل من اليهود الاميركيين والمزدوجي الجنسية والاسرائيليين مثل السفير السيئ الذكر مارتين انديك. فعلى رغم ما ظهر من اهتمام الرئيس كلينتون بقضية الشرق الأوسط واحياء مسيرة السلام وتخصيصه معظم وقته وجهده لرعاية مفاوضات كانت نهاياتها فاشلة فإن الميل لاسرائيلي كان جلياً خاصة في كامب ديفيد حين حاول ان يفرض على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حلاً ظالماً يتخلى فيه عن السيادة على المسجد الأقصى المبارك وعن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وكثير من الحقوق الفلسطينية المشروعة والمقرة من قبل ليس في قرارات الشرعية الدولية فحسب بل في اتفاقات اوسلو التي شهدت عليها الولاياتالمتحدة وتبنت نصوصها وتعهدت بمتابعة تنفيذها. أما بالنسبة لجورج بوش الإبن فقد علق العرب عليه آمالاً كبرى ظناً منهم انه سيصلح ما أفسده الظلم أو ما أفسده اسلافه، أو انه "سيشيل الزير من البير" كما يقول المثل، فهو ينتمي للحزب الجمهوري حاربه اللوبي الصهيوني وعمل ضده علناً في الانتخابات الرئاسية وصب أصواته وجهوده واجهزة اعلامه لمصلحة منافسه ال غور، بل وحاول جاهداً خلال معركة عد الأصوات التدخل بصورة سافرة لفرض فوز غور. وظن العرب ايضاً ان "الولد سر أبيه" فهو ابن الرئيس السابق جورج بوش الذي اكتوى بنيران اسرائيل واللوبي الصهيوني وخسر معركة التجديد لولاية ثانية بسبب الحرب التي شنت ضده، كما انه الرئيس الأول الذي هدد بمعاقبة اسرائيل اذا لم تلتزم بتعهدات السلام، بل وأوقف ضمانات القروض التي قيل ان قيمتها 10 مليارات دولار، ودعم وزير خارجيته جيمس بيكر الذي ضاق ذرعاً بالمناورات الاسرائيلية فخرج الى العلن ليتحدث عنها ويبلغ الاسرائيليين ان رقم هاتفه معروف، إذا أرادوا تصحيح مسلكياتهم والعودة الى مائدة المفاوضات. كما ان جورج بوش الأب هو صاحب أول مبادرة سلام اميركية حقيقية وشبه شاملة لأنها تستند الى قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام... وقد استطاع بالضغط وهز العصا حمل اسحق شارون وهو الإرهابي والسفاح العريق واليميني المتطرف الى مؤتمر مدريد للسلام الذي حضر على مضض ليتهم فيما بعد من قبل "جماعته" بأنه دفن "حلم اسرائيل الكبرى"، على رغم انه دافع عن نفسه قائلاً: انه لم يذهب الى مدريد إلا مسايرة ومناورة لأنه كان يخطط لنسف مسيرة السلام وإطالة أمد المفاوضات بالمماطلة لأكثر من عشر سنوات. وقد افترضت "النوايا الحسنة" العربية أو بالأحرى "السذاجة" العربية ان الإبن سيسير على خطى أبيه، وأن الأب لا بد انه حدث ابنه عن الحقائق الدامغة وعن مبادرته وأبعادها، وعن أهمية السلام في الشرق الأوسط ليس للعرب والاسرائيليين فحسب، بل للولايات المتحدة ومصالحها الحيوية ومصداقيتها ودورها المطلوب كراعية شبه وحيدة لمسيرة السلام وكقوة احادية لا منافس لها في النظام العالمي الجديد... فإذا تخلت عن دورها في هذه المنطقة فإنها تفقد دورها العالمي وتعرض مصالحها الحيوية للخطر، وهذا ما نشهده اليوم، وما قد نشهد اضعافاً مضاعفة منه في حال تراكم الوضع وواصلت الولاياتالمتحدة لا مبالاتها إزاء المظالم التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني والمجازر الوحشية التي ترتكبها حكومة اسرائيل الشارونية الليكودية المتطرفة لنسف مسيرة السلام وإشاعة أجواء الاضطرابات والفوضى، وربما الحروب في المنطقة. ومضت الأيام والأشهر على ولايته دون ان تلوح في الأفق أية بادرة خير يرتجى من جورج بوش الإبن وإدارته التي قيل انها لا تضم يهوداً كما عهدنا في ادارة الرئيس السابق، إلا انها تضم مجموعة من المؤيدين لاسرائيل، أو من المترددين وغير الواثقين من انفسهم والخائفين المرتعبين من سطوة اللوبي الصهيوني وسيطرته على الكونغرس الاميركي بمجلسيه وعلى كل مفاصل الدولة من ادارة ومال وأعمال وسياسة وفن وصحافة واعلام، وما اتخذه الكونغرس من قرارات ظالمة خارجة عن اختصاصاته اكبر دليل على الانحياز السافر لاسرائيل. وهكذا فإن آمال العرب بدأت تخيب كالعادة، فحسابات حقلهم لم تأت على حساب بيدرهم، وطال انتظارهم فيما يتساقط عشرات الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني ويتم تدمير البنى التحتية ومعها جوهر عملية السلام... ولم نسمع سوى دعوات لضبط النفس حتى كدنا نلفظ أنفاسنا من شدة الضغط والغيظ وطول الانتظار. وكنا سمعنا بعض التلميحات من الرئيس الأسبق انه بدأ بدوره يفقد أمله بسلوك ابنه وقدرته على اتخاذ القرارات السلمية على رغم انه شرح له كل شاردة وواردة وحذره من مستشاري السوء وأصوات الباطل، ولكنه لم يستوعب بعد حقائق الأمور ولم يمسك بزمامها ليحزم أمره ويقف موقفاً حاسماً ويتخذ مبادرة شجاعة وجريئة تنقذ عملية السلام، ومعها المصالح الاميركية ويعيد للولايات المتحدة دورها ومصداقيتها واحترامها بحيث لا يصدم وزير خارجيته كولن باول بأجواء الكراهية والاستياء التي تسود الشارع العربي من المحيط الى الخليج ضد السياسة الاميركية والتقصير الفادح في أداء دورها وردع اسرائيل ومنعها من التمادي في انتهاك حقوق الانسان. إلا اننا قرأنا قبل ايام تصريحاً لجورج بوش الأب يحمل في طياته بعض الآمال خاصة وانه كان يخاطب المملكة العربية السعودية والأمير عبدالله بن عبدالعزيز نائب رئيس الوزراء ولي العهد يؤكد فيه ان الرئيس الإبن سيتحرك قريباً لتصحيح الوضع ووضع مسيرة السلام على مسارها الصحيح، فيما لاحت في الأفق بعض البوادر الايجابية مثل انتقاد بناء المستوطنات والتنديد بالتصفيات والتحذير من عمليات الاجتياح ووجوب التمسك بخطتي ميتشل وتينيت اللتين تم التوصل اليهما بين الفلسطينيين والاسرائيليين برعاية اميركية مع التعهد بأن يكونا وسيلة أو سبيلاً للوصول الى المرحلة الثانية باستئناف مفاوضات السلام بعد "وقف اعمال العنف" نهائياً واستعادة "الثقة المفقودة" بين الطرفين. وبانتظار تحقيق هذا الوعد من جورج بوش الأب يبقى الرئيس جورج بوش الإبن حائراً بين صوت الحق وصوت الباطل وهو تردد حتى في دعوة الرئيس ياسر عرفات الى واشنطن خوفاً من غضب ارييل شارون الذي اجتمع به مرتين في البيت الأبيض وحاول تضليله وخداعه حسب ما تسرب من معلومات عن الحوار الذي دار بينهما، ثم جاءت تصريحات ديك تشيني نائب الرئيس الذي كان يصنف بصديق العرب، ووزير الدفاع رامسفيلد الذي يتردد في واشنطن انه يتزعم التيار الصهيوني لترفع من حدة خيبات الأمل... تعززها معلومات عن دور مستشارة الرئيس للأمن القومي دي غونزاليس في تعزيز الاتجاه الموالي لاسرائيل أو المتعاطف معها داخل ادارة الرئيس بوش. بل ان الصحف الاسرائيلية حاولت الإيحاء بوجود تفاهم وود بين بوش وشارون، وأعادت الى الذاكرة ما جرى خلال زيارة الرئيس الاميركي لاسرائيل عندما كان مرشحاً حيث اصطحبه في تفقد المدن والمناطق المحتلة وشرح له الموقف من منظاره المضلل وهو على يقين بأنه أقنعه به وهذا ما دفعه الى القول لمساعديه لدى خروجه من البيت الأبيض: بوش يفهم في الخرائط... انه يفهم جيداً في الخرائط"؟ ومع هذا فإن ما بشر به جورج بوش الأب يبقى احتمالاً معقولاً ينطلق من الواقع، لأنه من غير الممكن السماح بتدهور الأمور في المنطقة وانجرارها نحو حرب مدمرة تفقد فيها الولاياتالمتحدة دورها ومصداقيتها ومصالحها في آن ولا بد ان يحسم الرئيس جورج بوش أمره قريباً ليميز بين صوت الحق وصوت الباطل. صوت الحق الذي يمثله الشعب الفلسطيني ويقف معه كل العرب المتمسكون بحقوقهم والملتزمون بمسيرة السلام، وهو الذي عبرت عنه المملكة العربية السعودية على لسان خادم الحرمين الشريفين في نداءاته المتكررة وولي عهده الأمير عبدالله الذي رفض تلبية دعوة رسمية لزيارة الولاياتالمتحدة الا اذا كانت لها نتائج ايجابية وجدية لمصلحة السلام والحق العربي المشروع. وقد تراجع معظم التعليقات على ان الضغط السعودي على واشنطن سيؤتي ثماره قريباً لعدة اعتبارات أبرزها دور المملكة العربية السعودية ووزنها العربي والاسلامي وأهمية المصالح الاميركية وضرورة الحفاظ عليها من التهديدات التي تسببت بها اسرائيل وسياستها المتعنتة وممارساتها القمعية والوحشية، وقد سمعنا عدة اصوات اميركية تطالب الادارة بتبني سياسة متوازنة تحفظ مصالح الولاياتالمتحدة وتستجيب لتحذيرات السعودية حيث قيل ان "اللغة الدارجة في أوساط عائلة بوش هي ان الاستقرار هي كلمة مرادفة للنفط"... بل حتى هنري كيسنجر وزير الخارجية الاميركي الأسبق المعروف بتعاطفه مع اسرائيل اعترف ان "الاستقرار في الشرق الأوسط هو مصلحة اميركية". هذه هي الحقيقة التي لا بد ان يدركها قبل فوات الأوان الرئيس الاميركي بالاستماع الى صوت الحق الصادر من السعودية والنضال الفلسطيني المشروع دفاعاً عن النفس والأرض والحق، أو صوت المصلحة المنطلق من قلب الولاياتالمتحدة، أما صوت الباطل الذي يحاول تضليله فهو يحمل في طياته نذر الاخطار ليس على المنطقة فحسب، بل على الولاياتالمتحدة ومصالحها، وعلى الرئيس الاميركي وادارته، وهذا الصوت يعبر عنه اللوبي الصهيوني وأبواق شارون، وبعض الأدوات الصهيونية مثل مارتين انديك سفير اسرائيل... عفواً سفير الولاياتالمتحدة في اسرائيل الذي ودع وظيفته بسلسلة تصريحات حمل فيها عرفات والفلسطينيين مسؤولية ما يجري حالياً رغم انه اعترف بأنه لا بديل له حالياً "لأنه الأقل سوءاً" حسب زعمه، كما حذر من اندلاع حرب شاملة في المنطقة، لكنه أغدق المديح على سياسة شارون ومزاعم "ضبط النفس" مدعياً انه "مقتنع بأن صداقة الرئيس الاميركي وتعاطفه مع اسرائيل حقيقية... بل بالفطرة... انه كنز لاسرائيل وعليها الحذر لئلا تخسره". الا ان هذا الكلام مردود عليه من سفير سابق ومساعد سابق لوزير الخارجية هو ادوارد دجيرجيان الذي قال "ان الوقت حان لأن تعيد الولاياتالمتحدة النظر في سياستها الشاملة في الشرق الأوسط". مضيفاً: "ان تاريخ الاتصالات السلمية يبرهن على ان التقدم الملموس باتجاه الاتفاقات يحدث فقط عندما يلعب رئيس الولاياتالمتحدة ووزير خارجيته دوراً قيادياً مطلقاً بما في ذلك الاستعداد السياسي لمواجهة النيران بين الجانبين". مذكراً بنجاح عدد من الثنائيات، مثل فصل القوات الذي جلبه نيكسون - كيسنجر عام 1973 واتفاقات كامب ديفيد بدعم الرئيس كارتر ووزير خارجيته سايروس فانس، ومؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي تحقق بدعم وتعاون الرئيس بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر. ولا شك ان ما أوضحه دجيرجيان ينبع من تفهم عميق لواقع الحال في المنطقة وعدم امكان تحقيق أي تقدم إلا بدور ايجابي فعال وحيادي وحازم للولايات المتحدة، وأي انحياز أو لا مبالاة أو زعم بأن ترك الحل للأطراف المعنية ستكون نتيجته كارثية على الجميع وأولهم الولاياتالمتحدة، وهذا ما خبرته الادارة الاميركية الحالية عندما قررت اتباع سياسة عدم التدخل المباشر في الاتصالات السياسية والأمنية ثم اضطرت بعد تفاقم موجة العنف الى ايفاد رئيس الاستخبارات المركزية تينيت ليفرض اتفاقاً لم تنفذ اسرائيل معظم بنوده بعد رغم ادعاء شارون انه ملتزم باتفاق وقف اطلاق النار. لقد قيل عن تسلم بوش الإبن مهام منصبه ان ادارته تحتاج الى وقت لإعادة تقييم موقفها من قضايا الشرق الأوسط... والآن وبعد اكثر من 8 شهور لم يعد هناك من مبرر لتكرار مثل هذه الاقوال، وما على الرئيس اليوم الا الاختيار بين صوت الحق وصوت الباطل، وتحمل تبعات قراره ومواقفه... ولا حاجة لتكرار التذكير بأن مصالح اميركا وصداقاتها في المنطقة ستتأثر سلباً أو ايجاباً بهذا الاختيار... والنصيحة الوحيدة التي يمكن ان يوجهها المرء له اخلاقية في المقام الأول وانسانية وواقعية وهي: "اسمع كلام والدك... فهو اكثر الناس حباً لك وخوفاً على سمعتك ومصالحك واكثرهم حرصاً على نجاحك... اسمع كلام والدك ولا تسمع كلام المغرضين اصحاب صوت الباطل، فوالدك صاحب خبرة لا مثيل لها من الكونغرس الى ادارة المخابرات المركزية ثم مسؤولياته كنائب للرئيس وخبرته كرئيس للولايات المتحدة خاض معارك وحروباً معظمها في المنطقة الحساسة والحيوية... وتوصل الى نتيجة لا غنى عنها للولايات المتحدة وهي ان السلام هوالحل... وهو الضامن لمصالحها وسمعتها وقوتها العالمية... وهو الذي يوصل الرؤساء الى مصاف أبطال السلام وحاملي جوائزه من نوبل وغيرها... ولهذا وضع مبادرته الشهيرة والتزم بها حتى النهاية... انه درس تاريخي من أقرب الناس وأحبهم الى قلبك وضميرك". * كاتب وصحافي عربي.