} تناولت الحلقة الأولى المصادر العربية وما ذكرته من معلومات عن دولة الخزز وصراعها مع الخلافة الأموية، وهنا حلقة عن أسباب انهيار الدولة. أصبح أمير كييف في منتصف القرن العاشر قادراً على التوجه الى القبائل السلافية في حوض الدنيبر بالهتاف "لا تدفعوا مليماً واحداً للخزر". وهذا كان المسمار الأول في نعش دولة الخزر. يتحدث كوستلر عن كيفية تحول الأمير فلاديمير الى المسيحية وكيف أصبحت الارثوذوكسية الديانة الرسمية لروسيا ابتداء من العام 1037 ميلادي. وأدت وفاة أمير كييف هذا الى فراغ سياسي استغله الأتراك الغز، بينما قام فرع آخر من الأتراك هو السلاجقة بالاستحواذ على آسيا الصغرى. ويتحسر كوستلر "أما كان التاريخ سيتخذ مجرى آخر لو أن بيزنطة واصلت الاعتماد على القلعة الخزرية - كما فعلت عبر ثلاثة قرون - بدل التخلي عن تلك السياسة؟". وقبل حلول نهاية القرن العاشر تضعضعت دولة الخزر بعد أن دمر الروس عاصمتها آنذاك "أتل" فولغا. ويذكر كوستلر أن ابن حوقل كان أول من سجل ذلك، لكنه يقول أن ذلك كان "موقتاً"، ومن الواضح أنه كذلك. فمدينة كازران - أتل ومدن الخزر الاخرى، كانت تتألف في معظمها من الخيام والبيوت الخشب ومن بيوت مستديرة مبنية من الطين، أي سهلة التدمير والبناء، فقط المباني الملكية والعامة بنيت من القرميد. هكذا بعد أن تكشفت لنا مصادر دخل تلك "الامبراطورية" كما يسميها كوستلر في عزها، نكتشف الآن أنها كانت امبراطورية من طين في عزها أيضاً!. بعد أن حاول اظهارها بمظهر الدولة الحضارية الرائدة. وابتداءً من القرن العاشر يبدأ كوستلر بالتخبط في الظلام، وكلما تقدمنا في الزمن يكتفي بالقول "الظلام يتكاثف في شأن الدولة الخزرية". ويخلص في نهاية المطاف أن آخر ذكر للخزر كأُمّة كان ما بين 1245-1247م وهو قول لا يحتاج الى ذكاء، فهو يذكر أن المغول أسسوا أكبر امبراطورية بدوية في العالم تمتد من الصين وحتى المجر. ولننتقل الى المحطات التي انتقل اليها يهود الخزر، أو ما يسميه كوستلر: الخروج اكسودس حتى يتفق مع مقام سفر الخروج التوراتي. ويعمل أولاً على اثبات أن الهزيمة التي ألحقها الروس بالخزر لم تكن قاضية في العام 965م. "صحيح أنهم خسروا امبراطوريتهم، ولكنهم استعادوا استقلالهم ضمن حدود أضيق من ذي قبل. ويمكن القول عموماً أن مملكة الخزر المتقلصة استمرت وخاضت غمار نشاط دفاعي متفاوت الفاعلية حتى منتصف القرن الثالث عشر، عندما سقطت ضحية هجمة جنكيزخان. بل أنها وحتى بعد ذلك قاومت بعناد حتى استسلام آخر جيرانها".... "ولكن قبل وبعد الهجمة المغولية، اطلق الخزر هجرات عدة الى الأراضي السلافية التي لم تكن خاضعة للمغول مساعدين من خلال ذلك في بناء المراكز اليهودية الكبرى في شرق أوروبا". وقبل متابعة أقوال كوستلر، يتحتم علينا أن نقلب صفحات مرجع بالغ الأهمية، هو "دراسات خزرية: بحث تاريخي - لغوي في اصول الخزر" دار أكاديمية العلوم المجرية، بودابست 1980. نجد في الصفحة 51: "أولاً وقبل كل شيء يجب أن نسجل بأن مختلف المراجع تذكر، وفي كل مكان، الخزر متحدين مع العالم التركي. وفي الكثير من المصادر العربية والبيزنطية والصينية والجورجية والأرمنية، نجد أن مصطلحي التورك والخزر قابلين عملياً للتبادل، ويعود ذلك جزئياً بما لا يقبل الشك، الى سيادة الأتراك الكوك على الخزر. كما أن ذلك يؤشر على كل حال، الى الخلفية الاثنية المشتركة للمجموعتين". ويلخص بيتر جوردن آراء البروفسور كاروي تسجليدي رئيس كرسي اللغة العربية واللغات السامية في جامعة العلوم في بودابست: - الخزر الأصليون كانوا من أصل سابيري من الشعوب البائدة في منطقة الفولغا والقفقاس وكانت عاصمتهم بالانجر جنوب نهر كوما ذكرت الكثير من المصادر العربية ملك الخزر كصاحب البالانجر في اشارة الى الهون القوقازيين جنوب بلاد الخزر والى الشمال من دربند باب الأبواب. - ال"كوك تورك" أتراك الكوك الغربيون، هم أسياد الخزر الحقيقيون وكانت عاصمتهم أتل الفولغا التي أصبحت لاحقاً عاصمة ما يسمى بامبراطورية الخزر. وتشير دراسة جوردن: "يفترض دونلوب أصلاً أويغورياً للخزر، ويسجل بأن المصادر الصينية تتطرق الى ذكر قبيلة كانت تسنى "كو-سا" كما هو معروف، يشير جوردن الى أن المصطلح المقابل للخزر في الصينية هو كو-سا. الخلاصة، سواء كانوا من اصول تركية أو من اصول بائدة سابيرية أو من كوسا، النتيجة واحدة: ما علاقة هؤلاء بفلسطين؟ نعود الى كوستلر، والتفريعات الخزرية في أوروبا الشرقية: "وهنا، اذن، نجد مهد اليهودية المعاصرة ذات القوة الأكبر عدداً والأكبر أيضاً من حيث السيادة الثقافية. ان التفريعات التي يشير اليها بارون كانت في حقيقة الأمر تفرعت قبل تدمير الدولة الخزرية على يد المغول بأمد طويل، تماماً كما سبق للامة العبرية أن بدأت التفريع في الدياسبورا قبل تدمير القدس وبأمد طويل". واذا كان الصينيون في لغتهم يسمون الخزر كوسا، فانني لا أجد في اللغة العربية تعبيراً أفضل من السلاطة أو السلطة للتعبير عن مضمون رأي كوستلر هذا. ناهيك عن التناقض في كل أقواله أعلاه: يهود الخزر لا يجمعهم بالعبريين أي جامع عرقي ولا حتى من طريق المصاهرة، ولم يسكنوا يوماً في غيتوات ومع ذلك يقول أنهم قوم يجمعهم الافتخار بالعرق المختار وعقلية الغيتو. وعلى رغم اعترافه بأن يهود أوروبا الشرقية هم الأكثر عدداً والأكبر هيمنة ثقافية على اليهود المعاصرين، وأنهم من تفريعات يهود الخزر، فانه يقدم متجنياً على الحقيقة ومغتصباً للوقائع على خلق وحدة اندماجية عرقية ودينية وتجارية ما بين قدامى العبريين وبين أولاد الخزر. والأمر السخيف الذي حاول أن يؤدلجه هنا نظرياً، يجري تطبيقه عملياً على الأرض الفلسطينية وبالحرف: يهود خزر أوروبا الشرقية يمارسون الهيمنة الثقافية ويمثلون الثقل النوعي لكمهم العددي ويخدرون بمصل "العرق المختار" وهذه طفرة وراثية جديدة مقارنة بالشعب المختار اليهود الآخرين المغرر بهم من يهود العراق واليمن وحتى الفلاشا. ونبقى مع "أكسودس" كوستلر الخاص بالخزر "في القرن العاشر نجد القائد الأمير المجري تاكشون يدعو موجة جديدة من مهاجري الخزر للاستقرار في اقطاعيته". لكنه يقفز فجأة ليقول: "وبعد قرنين من ذلك يتطرق المؤرخ البيزنطي يوحنا سينّاموس الى ذكر وحدات عسكرية تراعي الشرائع اليهودية، تقاتل مع الجيش المجري في منطقة الدلمات كرواتيا اليوم وذلك في العام 1151م". ثم يتابع التذكير "بالاشعاع الحضاري" لدولة الخزر: كان الحكم ثنائياً، فالملك يتشارك السلطة مع قائده العسكري العام، ويقول: "من المحتمل أن عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في المجر أيام الرومان كان ضئيلاً، لكن شكاً قليلاً يخالج المرء عندما يقول بأن غالبية هذه القطعة المهمة من اليهود المعاصرين انما تحدرت من قبائل الكابار الخزرية التي لعبت دوراً حيوياً في التاريخ المجري الأول" ليخلص الى القول أن: "نظام الملكية المزدوج الذي ساد المجر آنذاك لا بد وأن أخذه المجريون عن الخزر. واستمر العمل به حتى نهاية القرن العاشر. وعندما اعتنق اشتفان الأول الديانة المسيحية وهزم القائد العام العاصي الذي لا بد وأن نعتبره خزرياً ملتزماً بعقيدته ويرفض التحول الى المسيحية". قبل التعليق على ما تقدم، ننتقل الى حاشية مهمة في كتاب دونلوب ص 223 من تاريخ الخزر اليهود منقولة عن الموسوعة اليهودية محررها أتش روزنتال: "تمتع الخزر بكافة مزايا الامم المتحضرة، وبحكومة مدسترة جيداً وبإدارة متسامحة وبتجارة مزدهرة وبجيش مهيأ حسن التنظيم. وكان ذلك في عصر ساد التعصب والجهل والفوضى أرجاء غرب أوروبا بينما كانت مملكة الخزر متجلية وبارزة بادارتها العادلة واسعة الافق". لنبدأ بالموسوعة اليهودية، فروزنتال وكعادة الصهيونيين الموروثة، يدخل في روع اليهودي القارئ أن العالم أيام مملكة الخزر كوستلر ودونلوب يسميانها امبراطورية الخزر كان مقسوماً الى قسمين: دولة الخزر المتحضرة المدسترة، وأوروبا الغربية المتأخرة. بالتالي على القارئ أن ينسى القلعة الحضارية العربية في الشرق، والاخرى في الغرب دولة الأندلس، حين كان اليهود يعيشون نهضة حضارية وعلمية تساوي كل صفحة منها مجمل ما يسجله لحضارة دولة الخزر. وبطبيعة الحال ينسى ويحمل القارئ على نسيان الحضارات الانسانية الاخرى التي طورت الادراك البشري بما فيها حضارات الصين والهند. وهي حضارات ما كان لها أن تجد مكاناً بالمقارنة مع حضارة "امبراطورية الخزر" القائمة على السلب والنهب وفرض الخوات. ولتوضيح تزييف التاريخ الذي قامت به الصهيونية لتمجيد حضارة الخزر، نأخذ مثالاً من ترجمة الموسوعة البريطانية الى اللغة المجرية. في موضوعة الخزر نجد الكثير من التشويش، لكن جملة واحدة تعبر عن التناقض: "بلغت الحضارة الخزرية مستوى رفيعاً، والمصادر العربية والبيزنطية تحتفظ لنا بمادة ثرية تتحدث عنهم. وعلى رغم ذلك لم تخلف لنا تلك الحضارة سطراً واحداً مكتوباً باللغة الخزرية".. وطروحات كوستلر المجري الأصل ومحاولاته لاقناع نفسه والقارئ بالتأثير الحضاري الخزري على بناء الدولة المجرية، هي في غاية الغرابة. ومصيبته أن المجر لم تصبح دولة بالمفهوم الحضاري الا مع نهاية القرن العاشر. يقول ديغو دومّيرت في كتابه "في أثر آل آرباد"، الصفحة 162: "عندما بعث البابا سلفستر الثاني في عام 1000 م بالتاج الملكي الى كبير امراء المجر اشتفان، كان ذلك اهداءً من السلطة الدينية والدنيوية لاساقفة روما خلواً من أي ممارسة لضغط سياسي". وهي اشارة الى أن الأمر ما كان ليكون على مثل ذلك الحال لو وصل التاج من الامبراطور اوتّو البيزنطي. هذه السطور تنسف كامل قصة التأثير الحضاري الخزري. وقد عمل الملك اشتفان بعد اعتناقه المسيحية على نشرها بين المجريين، وقضية تمرد القائد المشارك العاصي هي من اختراع كوستلر. وعمل الملك اشتفان على تحقيق نقلة حضارية في المجر لتلحق بالغرب المسيحي، وكان ذلك يستوجب تقوية السلطة المركزية وتقليم أظافر القيادات الاقطاعية المحلية، ومنها قادة البلاد سابقاً بما فيهم "القائد العام المشارك في السلطة". أصبح للمجريين ملك، وأصبحت لهم سلطة مركزية بما تجره من تصفية للجيوش الخاصة. وطبق الملك اشتفان شعار "بالدم والحديد والنار" لنشر المسيحية حتى تم له ذلك. بالتالي فحديث كوستلر عن يهودية القائد المشارك العاصي هو معصية تاريخية في المعنى الكامل للكلمة، إذ لا أساس له لا من حيث التسلسل التاريخي ولا التسلسل المنطقي. واستعرض حقائق اخرى تدعم ما تقدم مبثوثة في ثنايا كتاب دونلوب "تاريخ الخزر اليهود". يقول دونلوب ص 114-115 "ما كان للازدواجية الملكية أن تؤثر في مسألة اعتناق اليهودية، كما أن خاقان الخزر لم يكن بالشخصية المقابلة وبأي مقياس للحبر اليهودي الكبير أو المشابهة له". وفي حاشية متعلقة بذلك يعتبر بعض المزاعم مثل نظرية قاسم بك في سيرة دربندنامه التي تحاول استنباط لقب خاقان كاغان من كلمة حاخام بمعنى حكيم العبرية بمثابة تسطيحات لا أساس لها. كما يذكر دونلوب "حتى مراسم دفن ملك الخزر تذكرنا بنا كتب عن مراسم دفن قادة الهون البرابرة مثل الأريك وأتيلا". كما يشير الى أمر مهم، وهو "غياب أية معلومات يعتد بها عن الخزر من مصدر رئيسي عالمي آنذاك: يهود بابل في العراق، الأمر الذي يعني كما يبدو عدم اهتمام واكتراث بهم وبما يفعلون" ويختتم بالقول "يهودية الخزر، في ضوء ما تقدم، كانت أقل بكثير من اليهودية الكاملة". وعلى رغم ذلك نجد حتى دونلوب يقتطف من مصدر يهودي لا يعتد به، القول "بأن يهود العراق راودهم الأمل أن يتمكن الخزر من تدمير الخلافة العربية". أما عن أسباب سقوط دولة الخزر فيقول دونلوب: "في اطار تناول أسباب تقهقر واضمحلال شعب، أي شعب، وهو أمر يستدعي الاهتمام دائماً، فان العملية بالنسبة للخزر كانت كاملة تماماً حيث تستوجب اهتماماً خاصاً". ثم يتحدث عن دولة الخزر في "عزها" في القرنين التاسع والعاشر، "بحيث كان يمكن اطلاق اسم "دولة يهودية" عليها، وكانت الاديان الاخرى ممارسة كذلك فيها، المسلمون خصوصاً بصفتهم جزءاً مهماً من جيش دولة الخزر، ولا بد أنهم كانوا يتمتعون بقوة سياسية كذلك". ونوافق دونلوب على مقولته الاولى، وبصدد الثانية تشير بعض المصادر الى أن الجزء الاسلامي من جيش الخزر كان له حق عدم المشاركة في المعارك إذا كانت ضد مسلمين. ويشير في الصفحة 224 بوضوح الى أنه "قد يكون من قبيل المغامرة الزعم بأن غياب التضامن العرقي والديني كان السبب في انهيار امبراطوريتهم الخزرية". كما يقول: "تشير معلوماتنا الى مصدر ضعف رئيس آخر، فقد كانت المصادر المادية محدودة، والمقدسي يقول: أنها بلاد جرداء وجافة من دون قطعان ماشية أو فاكهة. ولا بد أنه قد بالغ، فنحن نعرف أن الخزر امتلكوا جِمالاً. ولأن تلك الجِمال كانت صغيرة الحجم، فربما كانت نتيجة تربية خاصة". وفي الصفحة 230 يتحدث عن الصناعات الحرفية للخزر، فلا يجد سوى "الانتاج القومي"، غراء السمك. وينقل عن الاصطخري قوله: "لم يكن هناك انتاج ملابس في بلاد الخزر، بل كانت تستورد من بلاد المسلمين أو بيزنطة". ويخلص دونلوب الى القول: "الصناعة الخزرية كانت على مستوى متدنٍ من التطور، كما تتوافر لنا معطيات عن التأثير الثقافي الذي مارسته على دولة الخزر كل من دولة بيزنطة ودولة الخلافة". أما عن مصادر الدخل الأخرى يعترف دونلوب بما سبق لنا استنتاجه، على أنشطة "الخوة" أسماء عصرية مثل ضرائب ورسوم جمركية. وبعد أن يفرغ من ذلك يخلص الى الحقيقة الدامغة: "وكما سبق وأشرنا، لم تكن هناك مصادر طبيعية قابلة للتصدير، ولم يكن هناك تموين مستقر بمنتجات من انتاج الصناعة المحلية، وعليه فان الاقتصاد الخزري وسط هذه الظروف يتجلى اصطناعياً مصطنعاً الى حد كبير". ومع ذلك يضيف "كل شيء كان يعتمد على المكانة السياسية والقوة العسكرية" ص 233. يقول: "على رغم أن التباينات العرقية والدينية في اطار الدولة الخزرية أسهمت من دون شك في تفككها، ألا أن سبب ذلك الرئيسي هو طبيعة استقطابها للمناطق المتآخمة من دون تمتعها بحدود طبيعية ومن دون توافرها على سبل الاكتفاء الذاتي، وبالتالي استحال عليها أن تشكل على المدى الطويل وحدة سياسية واقتصادية مستقرة في شكل دائم". وهكذا انهارت "سبارطة" الخزر. * الاثنين: الخزر ويهود أوروبا الشرقية.