في عالم تحكمه التكنولوجيا الحديثة والتفوق الاقتصادي، وتسوده ثقافة مادية تقوم على مبدأ النفعية اللاغية لكل مجانية، كثيراً ما يطرح السؤال: هل ثمة مساحة للشعر وهو الفاعلية الانسانية الأكثر مجانية والأكثر حرية بالتالي؟ لعل الحاجة الى الشعر هي اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، ذلك انه كلما استطاع العقل البشري أن يحقق انتصاراته أصبح شغف المجهول والتوق الى اكتشافه أكثر تجذراً، وكلما بسطت المادة سلطانها كشفت عن خوائها وعن حاجتها كي تأخذ معناها الى جوهر يؤسسها. لذلك كله لن يموت الشعر وسيبقى له قرّاء كثر، أولئك الذين يهب الروح في خلجات نفوسهم ليبعث فيها هاجس السر ورغبة اكتناه ما يخفى تحت وضوح السطح. ولعل في صدور الطبعة الشعبية من نتاج الشاعرة اللبنانية باللغة الفرنسية ناديا تويني، إشارة الى انتصار مزدوج للابداع الشعري. فمن جهة، يشكل نفاد الطبعات الأولى دليلاً ساطعاً على اقبال القارئ على هذه الدواوين، ومن جهة ثانية، استطاعت هذه الأعمال الابداعية ان تخترق جدار العزلة الذي يمكن ان يقع في أسره كل انتاج بلغة اجنبية، وأن تنتصر على واقع التهميش الذي غالباً ما يكون من نصيب الكاتب العربي، وفي الثقافة الأجنبية التي يكتب بلغتها. ولا عجب في ذلك كون الكتابة عند ناديا تويني تصدر عن تجربة انسانية صادقة تتخطى الحواجز المصطنعة بين البشر وتكشف عن وحدة الجوهر الانساني. واذا كان الشعر لغة التجربة فهو عند ناديا تويني يغتني بأبعاد عدة ويتغذى من روافد مختلفة تشكل النسيج الخاص للذات المبدعة حيث المسيحية والاسلام في علاقة شوق وتجاذب، وحيث الشرق أرض تنغرس فيها شجرة الابداع الرافعة غصونها نحو فضاء الغرب تحمل له الثمار. فناديا تويني التي اختارت أن تكتب بالفرنسية ليست أقل تجذراً والتزاماً بالثقافة العربية وبقضايا الانسان العربي ومشكلاته من شعراء جيلها الذين كتبوا بلغتهم الأم. وهي لم تكن لتنتج بمنأى عن المناخ الثقافي المحيط حيث كانت رياح التجديد تعصف بالساحة الشعرية الحاملة لواء الحداثة وهي كانت تحقق انتصاراتها مع شعراء رواد كخليل حاوي وأدونيس ويوسف الخال وشوقي أبو شقرا وأنسي الحاج. بل يمكن القول ان ثمة علاقة تفاعل حقيقي بينها وبين هؤلاء الشعراء تشير اليها الحوارات الشعرية المنشورة في مجلة "شعر" والتي تشكل بحد ذاتها قصائد بعضها بصوتين أنسي الحاج، ناديا تويني وبعضها بثلاثة أصوات أنسي، ناديا، ويوسف الخال. في حوار مع أنسي الحاج غداة نكسة 1967 تعلن تويني أن محمود درويش علمها أن تحب الحجارة، وأن تتذوق طعم الدم ونكهة الدموع المسنونة كخنجر. وكأني بها استشعرت بحدسها الرائي انتفاضة اطفال الحجارة في فلسطين، تولد من رحم الموت والهزيمة. كتبت ناديا تويني بالفرنسية رفضها الاحتلال الصهيوني وثورتها على الضياع الذي أدى الى سقوط القدس. وجعلت من ديوانها "حزيران والكافرات" مرثية لثقافة قائمة على تلاقي الأديان، تلك الثقافة التي طالما احتضنتها القدس قبل أن يتغلب منطق القوة وتنتصر لغة العنصرية القاتلة. وجسدت الشاعرة هذه الثقافة عبر اختيارها الشخصيات الأربع التي تحرك العمل الدرامي في الديوان ذي الطابع المسرحي، والتي تنتمي الى الديانات السماوية الثلاث اضافة الى الديانة الدرزية المتفرعة عن الاسلام. وليس قولها في احدى القصائد: "خمسة هي الأبعاد الحقيقية" إلا اعلاناً بلغة الرمز عن أن المعرفة الحدسية بوحدة الجوهر تشكل البعد الخامس الذي يحقق التناغم بين الأديان التي لا تختلف الا عرضاً وظاهراً. وقد بقي العالم العربي عبر العصور مساحة للقاء والتفاعل في ظل ثقافة الحوار والانفتاح التي زعزع بُناها الكيان الصهيوني المرتكز على ثقافة الالغاء والانغلاق، والذي يشكل بالتالي، وبصورة مطلقة وقاطعة، نقيضاً للهوية الحضارية العربية. ومن النافل القول ان الشاعرة لا تعبر عن هذه الرؤيا بصورة مباشرة، فهي لا تنتمي الى تيار الشعر الملتزم، غير انها توسلت الرمز واللغة الموحية لتثير لدى القارئ التساؤلات ولتدفعه الى تكوين موقف وتشكيل رؤيا تومئ له بها ولا تكشف عنها، لأن الشعر في حقيقته، بالنسبة اليها، لغة الحرية. واذا كانت الدواوين جميعاً تنتظم كحبات العقد، و"تتكامل عناوينها لتشكل قصيدة واحدة" على حد تعبير الرئيس الراحل والأديب الفرنكفوني شارل حلو في كلمة تأبينية، فذلك لأنها تصدر عن شعور بالصدمة: صدمة الموت تارة، وصدمة الحرب تارة أخرى. فناديا تويني ما أمسكت قلماً لتخط بالحبر جرحاً يزهر قصيدة الا عندما أصابها الموت بأولى سهامه فسرق منها ابنة بقيت على مدى القصائد حضوراً يتحدى الغياب، يحول الموت الى ولادة كلما تمرأت الغائبة في نجمة ترشد الشاعرة في متاهات العتمة، وكلما رف نسيم طيفها في جناحي طائر يفجر في الصمت لغة. فتحولت المواجهة مع الموت من صراع يولد الحزن والألم الى مسار كشفي سلكته الشاعرة وقد استيقظ حدسها بالباطن الخفي وعرفت ان "الحياة ليست سوى الحياة/ مجرد استراحة للنظر"، كما تقول في احدى القصائد في اشارة الى أن الحياة الحقيقية تبقى ما وراء المرئي ولا ينفذ اليها الا الرائي الجسور. لذلك تصالحت ناديا تويني مع الموت في ديوانها الرابع "قصائد من أجل قصة" بعد أن رفضته وثارت عليه في ديوانها الأول "النصوص الشقراء" وهربت منه الى عالم اللاوعي تحاول سبر أغواره على طريقة شعراء السريالية في "عمر الزبد". ولعل القارئ لديوانها الخامس "حالم الأرض" يستشعر تلك الطمأنينة الوادعة والاستكانة الرصينة التي توصلت اليها الشاعرة - العارفة التي وصفها أنسي الحاج قائلاً: "تلك العصفورة الشفافة كانت أيضاً لبوة جريئة" لأنها استطاعت أن تنتصر على الخوف وأن تروض الألم. ولربما كانت ناديا تويني لتسكت بعد "حالم الأرض" لولا أن فاجأتها الحرب اللبنانية بصدمة قاسية زعزعت كيانها الداخلي، هي المتنوعة الانتماء والهوية. كانت الحرب بالنسبة اليها مصدراً لشعور مزدوج بالموت: موت الوطن أرضاً وفكراً ورسالة، وموت "الأنا" هوية وحضوراً ودوراً. في "مذكرات عاطفية للحرب اللبنانية" تبرز الشاعرة بشاعة الحرب فتصور القتل والدمار والحقد والغضب وتمزق الكيان، تعلن هزيمتها وافلاس لغتها أمام لغة المدفع والبندقية، إلا أنها لا تلبث أن تنتفض وتثور فتطلق صرختها: "لا لن تدفنوا في الأرض أرضي"، مجددة ايمانها بالوطن الذي سيبعث كالفينيق من رماده. ولعل التزامها بالقيم التي يقوم عليها لبنان كمساحة ممكنة للتنوع والحوار، هو الذي دفعها الى أن تكتب مجموعتها: "لبنان: عشرون قصيدة من أجل حب" تحاول عبرها ان تترك لجيل الحرب الذي ما عرف من الوطن إلا أطلالاً، صورة جميلة لوطن كان يوماً واحة للفكر وموئلاً للحرية وللجمال. يضم الديوان الأخير لوحات لأمكنة - رموز: بيروت، جبيل، طرابلس، صيدا وصور، البلمند وعنايا وبعلبك ودير القمر، ويحتل فيه الشوف كإطار لحضور انساني مميز رصدته الشاعرة في قصيدتين: "نساء بلادي" و"رجال بلادي"، مكانة بارزة. ولا عجب في ذلك فالشاعرة بنت الجبل اللبناني المتحاور دوماً مع البحر والرامق الصحراء بعين الشوق والمحبة، لذلك نراها تعلن صادقة: "إن للأرض التي تنبض في صدري لون الصحراء"، وان الوطن الذي يشكل ارضها الداخلية يتسع ليشمل القدس والنجف والناصرة. كل ذلك يجعل من ناديا تويني شاعرة متأصلة في العروبة ومتجذرة في هويتها اللبنانية وان نطقت بالفرنسية. بل لعلها بفضل ذلك استطاعت ان تنقل وطنها الى العالم الفرنكفوني والى الشعوب التي تشكل اللغة الفرنسية قاسماً ثقافياً مشتركاً بينها. وهي تنتمي الى تراث أدبي لبناني باللغة الفرنسية يضم شعراء كباراً منهم فؤاد غبريال نفاع وجورج شحاده الذين جعلوا من الشعر طريقة وجود. وليس غريباً أن تعتمد دواوينها في مناهج التعليم المدرسي والجامعي في لبنان، وأن تترجم الى الألمانية والايطالية والروسية. ولعل مبادرة دار النهار لإصدار هذه الدواوين منفصلة وبالحجم الصغير - صيغة كتاب الجيب - يلبي حاجة القارئ لأن يبقى على تواصل دائم مع هذه الشاعرة التي كانت بحق، كما وصفها نزار قباني، هي ذاتها القصيدة مرصعة بالحروف والزهر، مزينة بالوجع، مجملة بالحبر، وضاءة بجراحات الوطن.