كان قبول القيادة الفلسطينية في 1993 تأجيل البت في القضايا الأساسية والمبدئية، الحدود والمستوطنات والقدس وحق تقرير المصير وحق اللاجئين في العودة والتعويض، بمثابة قبول بأن هذه قضايا متنازع عليها، وتخضع بالتالي للتفاوض والمساومة، وان الفلسطينيين لن يصروا على كامل حقوقهم المتعلقة بها. وشجع هذا الموقف الفلسطيني الكيان اليهودي على بناء المزيد من المستوطنات، وإقامة الطرق الالتفافية التي تربطها باسرائيل وتتحاشى المرور في المراكز السكانية الفلسطينية، وخلق حقائق جديدة على الأرض من شأنها دعم مركز المفاوض اليهودي وإضعاف مركز المفاوض العربي، والحيلولة دون قيام كيان سياسي فلسطيني على كل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. فالمفاوضات التي تقوم على إخضاع المبادئ والقضايا الأساسية لعمليات المزايدة والمراهنة والمساومة مفاوضات فاشلة، وحتى إذا نجحت فإن النجاح لن يكون الا لحساب طرف على حساب الطرف الآخر، فهو. بالتالي، نجاح غير منصف وليس مؤهلاً للاستمرار. فالعمليات السياسية التي تعكس رؤية استراتيجية للنزاع لا تخضع القضايا والمبادئ الأساسية للمساومة، بل توظف المفاوضات لترجمة المبادئ الى حقائق سياسية على أرض الواقع، وبالتالي تحصر المساومة والمزايدة في مراحل التنفيذ واجراءاته العملية. إن تأجيل البت في القضايا الأساسية لمرحلة تفاوضية لاحقة جعل عملية اوسلو مجرد أداة سياسية لإدارة الصراع وتخفيف حدته والتحكم في مساره، وليس مسيرة سياسية لحل النزاع وتحقيق السلام. وليس أدل على ذلك من استمرار الاحتلال ومواصلة سياسات التوسع الاستيطاني والتحكم الأمني وتأجيل المراحل التفاوضية وتعطيل الاتفاقات وانهيار الثقة المتبادلة بين الطرفين. وعلى رغم انتهاك اسرائيل القرارات الدولية وتعطيل الاتفاقات الموقعة واستخدام العنف ضد الفلسطينيين والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، لكنها نجحت في اعطاء انطباع عام في الغرب بأنها الطرف المبادر الذي يسعى لتحقيق السلام، فيما يرفض الطرف الفلسطيني كل ما يعرض عليه لأنه لا يريد تحقيق السلام في المنطقة. إن عدم طرح القيادة الفلسطينية مشروع سلام كاملاً، وأخذ زمام المبادرة السياسية من الطرفين الاسرائيلي والأميركي جعل المشاركة الفلسطينية في مسيرة اوسلو تقتصر على رد الفعل الى حد كبير، كما جعل الموقف الفلسطيني يبدو رفضياً وعبثياً. وتعود أسباب ذلك الى: 1- غياب الرؤية الاستراتيجية، والدخول في لعبة سياسية تكتيكية فرضت اميركا واسرائيل شروطها وقواعدها والفريق المشرف عليها. 2- عدم خلق القيادة الفلسطينية الظروف المناسبة لحصول اجماع فلسطيني على مشروع سلام والتحرك على أساسه بشكل علني وواضح. 3- اهمال القيادة الفلسطينية الرأي العام العالمي والتغاضي عن الفساد الذي استشرى في مؤسسات السلطة الوطنية وكانت له ردود فعل سلبية كبيرة على الساحتين العربية والدولية. وفي الواقع، تراجع الاعلام الفلسطيني على الساحة الدولية الى درجة الغياب شبه التام والعجز الكامل حتى عن الدفاع عن السلطة الوطنية في ما يتعلق بتهم الفساد وانتهاك حقوق الانسان. أدى اعتبار أوسلو أداة لادارة الصراع وليست مسيرة سياسية لحله وتحقيق السلام الى استمرار التوتر في المنطقة العربية وأثر سلباً على استقرارها والشعور بالأمن والاستثمار فيها. إلا أن التفاؤل العربي والدولي الذي رافق أوسلو وأعقبها مباشرة، على رغم عيوبها الكثيرة والمهمة، أدى الى فتح أبواب العديد من الدول العربية أمام اسرائيل تجارياً وتكنولوجياً وديبلوماسياً، بينما ضاقت أبواب العديد من دول العالم امام الديبلوماسية الفلسطينية والحق العربي في فلسطين. لقد قصّر المفاوض الفلسطيني، ليس فقط في التعريف بالحق الفلسطيني والدفاع عن نفسه في وجه الاتهام بالفساد، بل أيضاً في شرح ما عُرض عليه من مشاريع اميركية واسرائيلية وأسباب رفضها ومدى تعارضها مع الشرعية الدولية. يواجه الشعب الفلسطيني اليوم، ومن وراءه الأمة العربية، أزمة استراتيجية عميقة، وليس عقبة سياسية تحتاج بعض الصبر ومزيداً من التحرك التكتيكي. وتعتبر أوسلو، كمنطق ومنطلق وعملية سياسية، المسؤول الأول عن وقوع تلك الأزمة. وهذا يعني ان الخروج من الأزمة الاستراتيجية التي يعيشها اليوم الفلسطينيون والعرب عموماً يستوجب الخروج من أوسلو وتجاوزها، وهذا يتطلب بدوره تفكيراً استراتيجياً وأمانة مع النفس وشجاعة لم تفتقدها القيادة الفلسطينية في يوم من الأيام. يحتاج التفكير الاستراتيجي أولاً إلى قدرة على ذلك النوع من التفكير المتعمق، وثانياً، إلى الوقت الكافي لحدوث صفاء ذهني والدخول في تفكير متعمق، وثالثاً معرفة كبيرة وشاملة بالعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في مصير القضية موضع البحث، وبالمواقف المتباينة والأهداف المتعارضة للقوى ذات المصلحة. لا شك في أن لدى القيادة الفلسطينية، أو لدى بعض عناصرها على الأقل، قدرة على التفكير الاستراتيجي، لكن ليس هناك شك ايضاً في أن تلك القيادة تفتقد الوقت الكافي للاستحواذ على ذهنية صافية والدخول في عملية تفكير استراتيجية. كما تفتقد أيضاً الدراية المطلوبة بما يحيط بقضية الصراع مع اسرائيل من ملابسات دولية ومشاعر يهودية نفسية. إن الخروج على اوسلو وتجاوزها يحتاج أولاً الى الاعتراف بفشل تلك العملية ورؤيتها على حقيقتها كخدعة استخدمت لإدارة الصراع وليس لحله. وهذا يعني ان أول التحديات التي على القيادة الفلسطينية مواجهتها التحدي مع الذات للتخلص من القناعات والعادات والشعارات التي تجاوزها الزمن وأصابها العفن. ان تحدي القناعات الذاتية والتغلب عليها كفيلان بتحقيق النجاح في مواجهة التحديات الخارجية، اما الهروب من مواجهة الذات والخروج على مخلفات زمن مات فكفيلان بأن يجعلا الفشل والهزيمة حليف المواجهات مع التحديات الخارجية. تلجأ الشعوب والجماعات المتنورة، كلما وجدت نفسها في أزمة، إلى مفكريها وأكثر عناصرها قدرة على التفكير الاستراتيجي، حيث يقوم هؤلاء عادة بدرس الوضع بشكل جماعي وإصدار توصيات لإخراج جماعاتهم أو شعوبهم من أزماتها. في عام 1991 دعتني الحكومة السويدية للمشاركة في حوار فكري دام ثلاثة أيام تم في قصر قديم على البحر في عزلة تامة عن الشعب والإعلام حتى يتسنى للمتحاورين التفاعل والتواصل في جو يسوده الصفاء والحرية. وقضى ملك السويد معظم اليوم الثاني مستمعاً وليس موجهاً ولا حتى محاوراً. وحضرت نائبة وزير الخارجية السويدي الى أميركا خصيصاً لمقابلة مجموعة من المفكرين واختيار اثنين منهم فقط للمشاركة في ما اطلق عليه "أحاديث أوروبية". سألت نائبة الوزير التي دعتني لمقابلتها على الغداء عن الهدف من اللقاء وأسباب الدعوة اليه، فأجابت: "لقد شعرنا في السويد بأن هناك تغيرات عميقة تجري على مستوى العالم وان أوروبا بالذات تمر بفترة ارتباك وفقدان الهوية. لذلك ارسلنا وفداً رفيعاً زار معظم الدول الأوروبية بحثاً عن اجابات شافية لكن الوفد عاد ليؤكد عمق الأزمة من دون تحديد لأسبابها. لهذا قررنا القيام بدعوة عدد من قادة الفكر في العالم ومن القادة السياسيين المفكرين Leading thinkers and thinking leaders لتدارس الأمر". لقد كنت العربي الوحيد، وأحد اثنين من العالم الثالث الآخر كان بريطانياً من أصل هندي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أخيراً الذي يشارك الأوروبيين والأميركيين في "الأحاديث الأوروبية". كنا 30 شخصاً، 12 من السويد و18 من 15 بلداً آخر، تبادلنا الآراء ودخلنا في حوار عميق جداً. اثر انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي شعرت أميركا أن العنصر المنظم لسياستها الخارجية انهار تماماً، وان سياسة الاحتواء ومفهوم توازن القوى تجاوزهما الزمن. لهذا قامت كل من "مؤسسة التراث" Heritage Foundation و"مؤسسة كارنجي للسلام" بإعداد تقرير عن السياسة الخارجية ساهم في إعداده حوالى 20 شخصاً اشتمل على توصيات لسياسة اميركية جديدة. جاء تقرير "كارنجي" تحت عنوان "تغيير اساليبنا: اميركا والعالم"، وتقرير "مؤسسة التراث" بعنوان "تحويل العالم الى مكان آمن لأميركا". ومن يتابع السياسة الحالية للرئيس بوش، سيلاحظ أنها تسير على خطى هذا التقرير الأخير. لهذا أدعو منظمة التحرير الفلسطينية الى تبني هذه الفكرة ودعوة 20-25 مفكراً عربياً وعالمياً، ثلثهم على الأقل من الفلسطينيين، لاجتماع يستمر 4-5 أيام لدرس الأزمة والخروج بتوصيات تستخدم أساساً لبناء استراتيجية فلسطينية، سياسية وإعلامية، قادرة على الخروج من بوتقة أوسلو وتجاوزها. لقد طرحت هذه الفكرة قبل أسابيع في مقر المجلس الوطني الفلسطيني في عمان، بناء على دعوة من رئيس المجلس الأخ أبو الأديب. وأملي ان يستجيب الرئيس ياسر عرفات الى هذه الدعوة، لأن عقد مثل هذا اللقاء ضمن الشرعية الوطنية وفي ظلها يدعم السلطة الوطنية في مواجهة الضغوط الاسرائيلية والأميركية والأوروبية، ويفرز آراء جديدة ومثمرة، ويجند المزيد من العقول الخلاقة في خدمة القضية الفلسطينية. * كاتب فلسطيني مقيم في واشنطن.