تضع الدراسة التحليلية التي كتبها المسؤول السابق في البيت الأبيض روبرت مالي بالاشتراك مع الأكاديمي الفلسطيني حسين أغا عن مواقف الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية في قمة كامب ديفيد في تموز يوليو العام الماضي الأمور في نصابها، وتطعن في الرواية الرسمية الأميركية، وبالطبع الإسرائيلية أيضاً، عن أسباب فشل تلك القمة. ويأتي نشر هذه الدراسة اليوم في "الحياة"، وهي ستنشر في العدد المقبل لمجلة "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، لتلقي الضوء أيضاً على ما جرى ويجري منذ فشل قمة كامب ديفيد. صار المفهوم السائد الذي حاولت إسرائيل وأميركا ترسيخه في الأذهان هو أن المسؤولية في فشل مفاوضات كامب ديفيد تقع على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وبالتالي - حسب المنطق المغلوط نفسه - لم يعد عرفات شريكاً للسلام وليس من سبيل لإنهاء الصراع في وجوده. إن هذه هي الاطروحة التي تطعن فيها الدراسة التحليلية على أساس أن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك عرض مقولة "الكل أو لا شيء"، أي أن يقبل الفلسطينيون بكل ما يقترحه رزمة واحدة أو يسحب هو عرضه الذي تقول الدراسة إنه لم يقدم أبداً كتابة وإنما شفوياً، وكان يتغيّر ويلفه الغموض وتنقصه التفاصيل. لقد قام معمار اتفاقات أوسلو على الخطوات المتدرجة وفهم العالم كله، حسب ما جرى التشديد عليه في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، أن انهاء الصراع العربي - الإسرائيلي يعتمد أساساً على معادلة "الأرض مقابل السلام". وجاء باراك مقترحاً حرق المراحل وارجاء تنفيذ الاتفاقات المرحلية، خصوصاً ما يتعلق منها بالانسحاب الثالث من الضفة الغربية، إلى الاتفاق النهائي الذي أراد صوغه على هواه. وكان من الطبيعي والمتوقع أن يقول عرفات لكلينتون إن القضايا المرحلية والنهائية مترابطة تماماً لا يتجزأ بعضها عن بعض. من هنا اشترط عرفات للمشاركة في قمة كامب ديفيد، بعد تمنع له ما يبرره، ثلاثة شروط: اجراء المزيد من المحادثات التمهيدية لضمان عدم فشل القمة، وطلب تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي الثالث قبل قمة كامب ديفيد، وعندما رفضت الإدارة الأميركية ذلك، طالبها ب"ضمان" الانسحاب حتى لو فشلت القمة، وأخيراً عدم تحميل الفلسطينيين المسؤولية عن فشل القمة. لكن باراك أراد افهام عرفات انه ليس هناك "طريق ثالث"، أو "مراحل انتقالية" بل طريق واحد يؤدي إما إلى الاتفاق أو المواجهة. وسعى، كما تقول الدراسة، إلى الحصول على دعم الأميركيين والأوروبيين لخطته طالباً منهم تهديد عرفات بنتائج "عناده". ألسنا نرى الآن في الهجمة الإسرائيلية الشرسة على الفلسطينيين، والحملة المغرضة على رئيسهم، ترجمة ل"عواقب" رفض الفلسطينيين الإملاءات الإسرائيلية؟ إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي مجرم الحرب ارييل شارون ما فتئ يردد يومياً، وأحياناً كل بضع ساعات، ان "الوضع لم يعد مقبولاً بالنسبة إلى إسرائيل، وعرفات يتحمل المسؤولية". إن واقع الأمر هو ان إسرائيل تتحمل مسؤولية اغلاق الافق السياسي أمام التوصل إلى حل لصراع قائم على قرارات الشرعية والاتفاقات الموقعة. وقد كررت حكومة شارون أمس رفضها قبول مراقبين لوقف النار تمهيداً لتنفيذ توصيات ميتشل والعودة إلى المفاوضات، متذرعة بأن وجود مراقبين يؤدي إلى "تدويل" الصراع. وهذه بالطبع حجة أقبح من ذنب، إذ أن القضية الفلسطينية دولية في أساسها، وهي ليست أمراً داخلياً إسرائيلياً، بل تتعلق بقرارات دولية وبحدود يجب ترسيمها بين دولة تمارس الاحتلال والقهر وبين شعب فلسطيني يطالب بالتحرر من الاحتلال الوحشي البغيض واسترداد أراضيه المحتلة. والولايات المتحدة تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن تمرد إسرائيل على الشرعية الدولية، فهي حليفتها الاستراتيجية، ويكتفي رئيسها جورج بوش بمطالبة شارون بعدم احراجه بخطوات طائشة خلال قمة جنوى. فماذا يحدث بعد تلك القمة؟