اذا اوقف ابو عمار اعمال العنف كلها غداً، قال الاسرائيليون ان هذا يثبت انه وراء العنف. واذا لم يوقفها، قالوا ان هذا يثبت انه لا يسيطر على الوضع. وثمة عبارة بالانكليزية تصف مثل هذا الوضع هي "ملعون اذا فعل، وملعون اذا لم يفعل". المفاوضات فشلت، والاسرائيليون لا ينتظرون ماذا يفعل ابو عمار او لا يفعل، فلحكومة السفاح آرييل شارون رأي مسبق خلاصته: "ابو عمار هو المسؤول"، فلا تحدث عملية انتحارية او تبادل رصاص او رمية حجر، الا ويصدر خلال دقائق بيان عن مكتب رئىس الوزراء يقول ان ياسر عرفات هو المسؤول. وبما ان بقية العصابة من طينة شارون، فهناك بيان يصدر دورياً عن اجهزة الأمن والاستخبارات الاسرائىلية المختلفة خلاصته: "ان هناك معلومات عن عملية مقبلة او عمليات". آخر بيان من هذا النوع نشرته "يديعوت اخرونوت" يوم الجمعة الماضي. طبعاً هناك عملية مقبلة، بل عمليات، فالمنظمات الاسلامية والرافضة تقول حرفياً ان قرار العمليات قائم لم يتغير، وانه مرتبط فقط بالقدرة على التنفيذ، ولا شيء غير ذلك. وقد سمعت هذا الكلام بنفسي من قادة حماس والجهاد، ولا بد ان كثيرين غيري سمعوه. ثم تدعي المخابرات الاسرائيلية ان لديها "معلومات"، مع انه لو كان هذا صحيحاً لاعترضت المناضلين قبل ان يقتل اسرائيلي او عشرة او عشرون. اعترف للقارئ بأن كلام الاجهزة الاسرائىلية يذكرني بممارسة صحافية قديمة في "الحياة" وغيرها، بدأت قرب نهاية الستينات، وتركت بيروت في اواسط السبعينات، وهي مستمرة، وأرجح انها بقيت مستعملة حتى التسعينات. ببساطة كان محرر الصفحة الاولى لا يجد خبراً مهماً يستحق ان يكون "مانشيت" اليوم، فيكتب خبراً خلاصته توقع عدوان اسرائىلي على لبنان خلال ساعات او ايام، ويقع العدوان لأن اسرائيل معتدية، ويكتب المحرر بعد ذلك: صح ما توقعته "الحياة"... وربما نشر صورة للمانشيت الاصلي. اليوم، العمليات الانتحارية او الاستشهادية ضد اسرائىل، شيء قادم اكيد مثل العدوان الاسرائىلي في حينه، وان تقول الاجهزة الأمنية انها تتوقع عمليات، مجرد كذبة اخرى، تصدقها الولاياتالمتحدة لأنها تريد ان تصدق ولأنها شريكة اسرائىل في الجريمة، بما تقدم لها من سلاح ومال. يقول علماء النفس ان المجرم ينقل صفاته الى ضحيته، وهكذا فشارون يقول عن ياسر عرفات انه مجرم لأن شارون نفسه مجرم سفاح، ويقول عنه انه كاذب لأن شارون يكذب كما يتنفس. شارون كان يدعي ضبط النفس وهو يعين قاتلاً مثله هو ايهود ياتوم رئيساً للجنة مكافحة الارهاب. غير ان ياتوم هذا ارهابي من اسوأ نوع، وهو مدان في اسرائىل نفسها بقتل شابين فلسطينيين بيديه، بعد اعتقالهما على اثر خطفهما باص ركاب، وقد ابعد ياتوم عن العمل الرسمي 17 سنة حتى اعاده شارون ليساعده على ارتكاب الجرائم. واختار معه الجنرال المتقاعد ماير داغان ليخلف اوزي دايان في رئاسة مجلس الأمن الوطني. والمعروف عن داغان انه كان مساعد شارون عندما كان هذا قائد المنطقة الجنوبية، بما فيها قطاع غزة، في اوائل السبعينات، ونفذ عمليات اغتيال كثيرة بنفسه، وقال جنوده في شهادات اسرائىلية خالصة بعد ذلك انه كان يحضهم على العنف "يديعوت اخرونوت" الاثنين الماضي. هناك فاجعة انسانية في الاراضي المحتلة كل يوم، وهناك الى جانبها فاجعة موازية هي ان قاتلاً محترفاً يكذب في شكل مرضي يكاد يكسب معركة الرأي العام العالمي، وهو يدعي ضبط نفس غير موجود على الارض حيث الحصار والتجويع يمارس بأسلوب نازي خالص. الاسرائىليون، كما يعرف القراء، قتلوا ثلاث نساء بقنبلة مدفع، وبرروا ذلك باطلاق النار عليهم، ثم فتحوا تحقيقاً لا بد ان يثبت انه كان هناك اطلاق نار، طالما ان المتهم هو الشاهد والحكم. لا ارد عليهم بشيء، وانما اترك اسرائىلياً هو الصحافي اوزي مهانيمي يحكي قصته، كما قرأتها في "الصنداي تايمز" الاحد. مهانيمي كان في سيارة يقودها شاب فلسطيني، وجد طابوراً طويلاً من السيارات امام حاجز اسرائىلي، فحاول تجاوزه بالسير بمحاذاته في التراب، وكان ان فتح جندي اسرائىلي النار فوراً، وأصاب السيارة بخمس رصاصات. وقال مهانيمي ان السيارة وقعت في حفرة وأحدهم يصرخ بالعبرية للجنود ليوقفوا اطلاق النار. وتوقف الرصاص وقال له احد الجنود انه حسن الحظ لأنهم ادركوا من لهجته انه اسرائىلي. وسأل مهانيمي ضابطاً على الحاجز: "كيف تجرؤون على اطلاق النار من دون سبب؟" ورد الضابط انهم تلقوا معلومات عن عمليات انتحارية فلسطينية و"نحن نطلق الرصاص قبل ان نسأل اسئلة" حرفياً. وهكذا اعود الى ما بدأت به عن تلازم الجريمة مع الكذب، فالقتل من دون سؤال، والمعلومات كاذبة من نوع لو كان استند الى اساس صحيح، لرافقته قدرة على منع هذه العمليات اصلاً. ومع ذلك فعصابة النازيين الجدد في الحكم في اسرائىل تجد من يصدقها في الولاياتالمتحدة وغيرها، حتى تكاد تربح معركة الرأي العام العالمي.