} ينطلق هذا النص من معرض أقيم في ليفربول بريطانيا لثلاثة تشكيليين أفارقة هم: سيبيريان توكوداكبا والتهامي الناظر وفريد بلكاهيه، ليستقرئ انتقال حساسية شرقية محددة الى الغرب، ثم رجوعها إلينا في واحدة من صور الحداثة. بدأت ظاهرة عولمة الفن تنشأ تحت أعيننا. هذا لا يشمل فقط استضافة الفنانين الأجانب في فضاء العرض الغربي، بل كذلك توسيع ميدان الفن، اختراق حدود مؤسساته، إعادة النظر في التعريف بالفنان وبالشيء الفني، باختصار مطاردة التظاهرة التشكيلية الحية أينما برزت. هناك أحداث تعجل بهذا التطور الحالي أو تكشف عنه. تلك كانت الحال بالنسبة الى معرض "سحرة الأرض" باريس مثلاً، في ما يخص عولمة الفن. وكان مبدأ هذا المعرض هو ان يعامل بالشكل نفسه ويجمع في المكان نفسه أعمالاً لفنانين معترف بهم في الغرب من المؤسسة المتحفية أو السوق، وأعمالاً لفنانين قدموا من جهات أخرى أحياناً بعيدة، مبتكرين داخل فناء تحرسه المعايير التي تحكم مكان الاستقبال أو مدعوين لاستنساخ وإبراز إنجازاتهم التي، عندما تكتشف تكون فقط محط اهتمام النظرة الأنثروبولوجية. باختصار، كان المقصود هو إضفاء صبغة المعاصرة على أعمال فنية تنتسب الى ما ينعت بالفن المعاصر وأخرى تنتسب الى ما ينعت بالفن البدائي. وبهذه المراجعة للحقيقة التاريخية، في هذا التواقت، اصطلح على وقف التفريق والتدريج بين فضاء الإبداع وفضاء مصادر الإبداع إذا كان الفضاءان ينتجان اشياء معاصرة. هكذا وقع تصور هذا الحدث المعجّل بناء على فكرة العبور: لهذا فإنه يقتضي منهجاً متعدد الثقافات والتخصصات. فمسألة الخطاب الذي يرافق ظاهرة كهذه تستلزم تبني منهج مماثل من شأنه توسيع مرجعياته واغترافها من ميادين متعددة ووثائق مختلفة لم يسبق تداولها من قبل. هذا النص يدعو الى هذا المزيج من المراجع الذي يرافق تداول العلامات في العالم. تنحصر هذه الممارسة في مساءلة المواجهة الكائنة بين أوروبا وافريقيا حول مسألة الجذبة في علاقتها بالفن. من المؤكد ان أصالة الإسهام الافريقي في الفن تنبثق من علاقته بالرعدة. لكن، أولاً، ما هي الرعدة؟ إنها القوة التي تحث الكائن على الفيض، على الخروج من ذاته ثم الرجوع إليها. في هذا التعريف، نجد القرابة القائمة بين الجذبة والوجد. لكن يبدو ان الوجد مسجل في تقليد غربي جدير هو الصوفية، La mystique ذلك الفضاء الذي يستضيف إفراط الشخص في الحب الإلهي الذي تشخّص فيه استعارة اللذة الجنسية، خصوصاً اللذة النسائية. القديسة تيريز أفيلا Sainte Thژrڈse d'avila ما تزال خير مثال لهذا التصور الأدبي الذي يشخصه بشكل مذهب فن النحت والرسم الباروكي le baroque الكاثوليكي نقصد مثلاً المجموعة النحتية الشهيرة التي تحتضنها سانتا ماريا ديلا فيكتوريا، فوق الكيرينال، في روما، تلك المجموعة المسماة L'extase de Sainte Thژrڈse التي ألفها بيرنيني. يقدم القرن الروماني الذي تلى الإصلاح الديني المضاد la Contre- rژforme قائمة غزيرة من تلك القديسات وهن في حال غثيان ووجد وشوق، كأنهن جمّدن على الحجر أو في اللوحة والحائط وهن في ذروة النشوة الجنسية. لست أدري إذا كان التقليد الغربي عبّر بصيغة تقنية عن التمييز بين الجذب والوجد. ما أعرف هو ان التقليد الإسلامي فعل ذلك. الوجد يتحقق في الروحانية المثقفة، المقرونة بالتدوين الأدبي والنظري للتجربة. يطفح الشخص، يخرج عن ذاته ليُدفع به الى فضاء الخيالي والرؤيوي، لكن في الحقيقة، فهو يُستدرج للتنقيب في باطن نفسه لكي يعثر على نسق الأشكال التي تكوّن مشهد الرؤية الروحية، ففي كلمة الوجد نفسها يشع معنى الاكتشاف، اللقيّة، الطلب المحقق. إنها كلمة موازية تقريباً لأوريكا Eurگka التي تندفع من فم العالم حينما يرفع من طريق ابحاثه آخر حجاب ليتألق اكتشافه عارياً أمام عين روحه. لهذا ليس من المبالغ فيه القول إن الرؤيا الروحية والاكتشاف العلمي ينبثقان من الابتهاج نفسه ومن الآنية نفسها. أما الرعدة فهي أقل حركية. من المؤكد ان المقصود هنا هو الإشارة الى الخروج عن الذات، الطفح. غير ان الشخص لا يجد شيئاً بنفسه. القسط النفيس، نواة الذات، تكون منجذبة، بل ممغنطة بفعل قوة وطاقة خارجتين منها. هذا الخروج عن الذات يكشف طابعه الترميمي المنقذ، المحرر. لهذا السبب كثيراً ما ترتبط الرعدة بعملية علاجية. إنها تخلص الذات من الفائض الذي كان يعيقها. مشهد الرعدة مقرون بالثقافة الشعبية، ويفترض فيه انه من سهم العامة وليس من امتياز النخبة المثقفة. لهذا السبب فإن الطقوس التي تحكمه تدفع به للظهور بشكل مثير، للبروز في واضحة النهار، لملء الفضاء العمومي بمناسبة التجمعات المحتشدة والمهرجانات الموسمية. في الواقع، عندما نعاين ضيق دلالة كلمة رعدة Transe في اللغة الفرنسية حيث تعني منذ القديم "الإحساس بمخاوف، القلق" فإنه يتأكد لنا أن التراث الروحي في الغرب لم يسبق له ان عرف ظاهرة الرعدة، بقيت مسألة الفيض محصورة في مفهوم الوجد والذي سبقت الإشارة الى ارتباطه المباشر بالفن الباروكي. في اللغة الفرنسية هذه، كان لا بد من انتظار نهاية القرن التاسع عشر لكي يتسع معنى الرعدة الى فكرة الهذيان، التهوس، الخروج من الذات. حصل هذا الاتساع في المعنى باستعارة اللفظ الإنكليزي Trance وهو مصطلح آتٍ من فضاء استحضار الأرواح، حيث تنحط طاقة الذات لتصبح لعبة جماعية. لكن هذا الاعتراف المتأخر لا يكشف فقط عن غياب تلك الظاهرة في الثقافة التي تنتمي إليها اللغة الفرنسية، إنها تبرز أيضاً حاجة اللغة لاشتقاق المصطلحات التي توافق الحقائق التي تريد التعبير عنها. في الواقع، جاء ظهور هذه المعاني الجديدة متأخراً نوعاً ما، بالنظر الى وصف مشاهد الرعدة التي كان يصادفها الكتّاب المسافرون وقد تحولوا الى اثنوغرافيين. كم من مرة وجدت العين الفرنسية نفسها وجهاً لوجه امام مشاهد الإفراط والمغالاة التي تفتن بقدر ما ترعب! أقصد مثلاً، فقط بالنسبة الى الفضاء المغاربي، كل أولئك الكتّاب والرسامين الذين عاينوا الحفلات الفظة للمختلجين المنتمين الى طائفة العيسويين المريعة التي دفن الولي الصالح الذي أسسها بمكناس في القرن السابع عشر. دولاكروا Delacroix، على سبيل المثال، كان قد ثبتهم مرتين انظر Les A•ssawas 1937، منيابوليس، وConvulsionnaires de Tanger 1937، تورونتو. ألا تشكل ظاهرة الرعدة الفكر المكتوم أو المكبوت الغربي، الأوروبي؟ إذا رجعنا الى التراث الكلاسيكي وإلى ديكارت فمن المحقق ان نصLe Discours de la mژthode يخص بالرفض الصريح المغالاة والإفراط اللذين يحكمان مشهد الرعدة. قبل ان يصلوا الى الرعدة التي لم تُدمج حتى في التشكيل، أُجبر أشياع الوجد على السكوت من طرف السلطة الكلاسيكية هذا ما يفسر مثلاً التوترات الحاصلة بين جمالية الباروكية والذوق الكلاسيكي، وهي توترات تنحصر في أوروبا. ألم يعتبر بوسيي Bossuet، في صراعه ضد مذهب le quiژtisme. المرادف الذي يقترحه المنهل لهذا المصطلح هو "مذهب الطمأنينة". غير ان هذه الترجمة الحرفية لا تعكس إلا جزئياً المعنى الشامل لهذه الكلمة، والدليل هو التعريف الذي يعطيه المعجم الفرنسي Le Littrژ: "نظرية بعض علماء الدين المتصوفين Mystiques الذين كان مبدأهم هو جوب فناء الذات والبقاء في حال تأمل مستسلم، وعدم الاكتراث بكل ما يمكن ان يحصل لنا اثناء هذه الحال، وهي نظرية شجبها البابا سنة 1987". ان الشيء الذي يتعذر التعبير عنه لا يمكن له ان يشكل ذلك الأفق الذي يسعى إليه الخطاب؟ ألم يكن بذلك يوافق على أنه لم يبق من حق الوجدانيين سوى الصراخ بعد ان تعذر عليهم قرن الكلمات باللامرئي، بالذي يستحيل النطق به وسماعه؟ لكن، أمام إنكار الرعدة هذا، والذي يعتبر بمثابة منع لإظهار الإفراط والمغالاة، تثور الذات الأوروبية، يمكننا تقفي أصل هذا التمرد وهذه المقاومة للإيعاز الكلاسيكي الذي يمكن تحديد بدايته مع تيار القبل رومانسية .Le prژ- romantismeيتحدث جان جاك روسو في Les Confessions عن "الذبابة الشعرية والموسيقية"، ذلك الاندفاع العنيف، ذلك التهيج الذي جعله يكتب في بضع ساعات القسط الأكبر مما كان يعتبره أفضل ما في الفصل الأول من تمثيليته الغنائية Les Muses galantes. في الصفحة نفسها، يذكر جان جاك روسو احلام شخص محموم، الهذيان، بهجة القصيدة المدحية، لذات القريحة، كل تلك العبارات التي تدل الى إفضاء الإبداع، الى المغالاة والإفراط: الى الهمّة. لكن مع هذا فإن التمرد على الاعتدال وجد منظّره الجذري في نيتشه: Naissance de la tragژdie، يتحدى الفيلسوف الشاعر الألماني المصدر الكلاسيكي بنبشه موقع الثقافة الأوروبية بذاته، ضد المحور الأبوليني يقوم بإحياء المحور الديونيسي الذي يمكن اعتباره النظير الصحيح للجذبة، نظراً للترتيب الاستعراضي لأشكال المغالاة والإفراط والنشوة. بعد تعميم فكرة اللاوعي ستخطو الثقافة الغربية خطوة حاسمة من اجل ان تطأ قدمها خشبة المسرح الذي تتجه نحوه طاقة الرعدة. وليس من قبيل الصدفة ان يكون هذا التعميم تم بموازاة مع تطور الإثنولوجيا، هاتان المنظومتان التحليل النفسي والإثنولوجيا ستصبحان الرفيقين اليقظين للثورات الفنية الكبرى التي سيعرفها الغرب في قرننا هذا. يكفيني التذكير هنا ببروز مسألة الرعدة في السوريالية عند أنتونان آرتو Antonin Artaud مثلاً في Le Thژ‰tre et son double حيث يتحدث عن المسرح "الهمجي"، عند جورج باتاي G.Bataille الذي أنعش وأضفى صبغة إيجابية على المغالاة والإفراط، وذلك من خلال مجادلة ضمنية مع Discours de la mژthode الذي قام أساساً على نقض هاتين الكلمتين. هذا وليس من قبيل الصدفة ان يكون أحد الفضاءات التي ذكرت فيها الصورة الافريقية كمرجع فني هي مجلة Documents التي أنشأها باتاي والذي كان يسهم فيها فنانون فتنوا بالفن البدائي الذي يتجلى فيه فن تصوير الرعدة أقصد هنا على سبيل المثال جياكوميتي. غير ان تمجيد الإفراط هذا حصل في نهاية العشرينات بعد ان عملت الصورة الافريقية مفعولها المدمر في المعيار الغربي. ما من شك في ان هذا النجاح الباهر للفن البدائي في توسيع أصول الإبداعية الغربية له ارتباط بمجموع الرموز التي تنعم بها ظاهرة الجذبة. أقدم كحجة على هذا تلك الصفحات التي كتبها يونغ في الجنوب التونسي حيث شاهد جلسة للمختلجين أثارت اندهاشه، ففي الليلة نفسها، اندمجت عناصر وصور من تلك الجلسة في أحد أحلامه الذي يعطينا عنه تفسيراً واضحاً: فضاء الرعدة هذا يماثل اللاوعي بسبب مظهره المزعج والبشع بالنسبة الى المتحضر، هذا الأخير الذي يجد نفسه أنه ما زال يسهم في الجزء البدائي الذي كان يظن بأنه انفصل عنه الى الأبد: بما انه مكبوت فقط، فهو في إمكانه ان يطفو على سطح الوعي ثم يعود. حالياً، في المتاحف والمعارض الغربية، ما يعرض علينا لا يقتصر فقط على التحف الأنثروبولوجية الخاصة بالفضاء التقليدي والشعائري للرعدة، أو على الفنانين الغربيين الذين يستوحون منه أو يتجهون نحوه، بل يشمل كذلك فنانين عصريين ينتسبون الى هذه المصادر. ما هي إذاً الصلة التي يقيمونها مع الطاقة الموضعية والتقليدية للمغالاة، بعد ولوجهم ساحة الفن المعاصر التي يود بعض المسيرين ان يعطوها بعداً عالمياً؟ من أي مسالك يأتينا الآن فنانون أفارقة حافظوا على الصلة بالساحة الأصلية للجذبة؟ قبل كل شيء ففنانون كالمغربيين فريد بلكاهية والتهامي الناظر أو البينيني سيبيريان توكوداكبا لا يأتون من القارة الافريقية نفسها. الفنانان الأولان يمتلكان عيناً ويداً تكونتا في المغرب، تلك الأرض التي تتغذى فيها الرعدة من مصدرين: من جهة هناك وضام وثني قد يكون منحدراً من البنية الديونيسية المتوسطية القديمة، ومن جهة اخرى هناك صدى افريقي قريب العهد قادم من جنوب الساحل بثه العبيد السود الذين ما فتئ مدّهم يضرب جنبات البلد منذ القرن السادس عشر الى ما قبل ستة أو سبعة عقود. زيادة على هذا، فالمغرب، بانتمائه الى الفضاء الإسلامي، تلقى صدى الحرب الكلامية التي أثارتها الصوفية بصفة عامة والرعدة وهي شكلها الأكثر إذهالاً والأكثر شعبية بصفة خاصة. هذه الحرب الكلامية ضد الصوفية والرعدة هي في الوقت نفسه تقليدية ومعاصرة. في التراث القديم، يمكن مقارنتها بمبدأ العقل والاعتدال في المحور الديكارتي والذي هو أصلاً أرسطي كما عُبِّر عنه في الخطاب الإسلامي. على مدى القرن ومن خلال الأحداث، يُعرَّف مشهد الرعدة بأنه موضع التقعر والتخلف التاريخي المشنّع عليه من طرف السلفيين إصلاحيو نهاية القرن التاسع عشر الذين بقوا مهيمنين على الأوساط المثقفة الى حدود الخمسينات ومن طرف الأصوليين. ينحدر إذاً هؤلاء الفنانون من موقع المقاومة. هناك في الحقيقة مسافة بينهم وبين فضاء الرعدة. إنهم يأخذون موقعهم بالنسبة الى حضورها الخصب، بالنسبة الى تعميرها المريع. صلتهم بفضاء كهذا تتنوع بحسب المزاج وبحسب الشروط التقنية للأدوات التي يستندون إليها. فالتهامي الناظر غائص في قلب المشهد لالتقاط صوره الفوتوغرافية التي تجمد في صور مكبرة الى درجة اختفاء الموضوع بعض اللحظات من فن الحركة هذا الذي تشكله الجذبة. تتقولب حركية المصور مع حركية الراقص الذي لا يتمالك نفسه بفعل الحركة ليصطدم في الأخير بجلده الأسود وبريقه اللؤلؤي بتعميق جذري للتناقض الموزون بين الظل والضوء في غرفة التحميض. يشبه هذا حال شاعر قرر التخلي عن الكلمات المبينة ليبني القصيدة فقط بفاعلية رنين الحاكيات الصوتية. على رغم وجوده في قلب المشهد، فإن الفنان يبتعد عنه في الوقت نفسه باختفاء الموضوع وتبسيط التقنية الفوتوغرافية التي اختزلت في تناقض بسيط بين الضوء والظلام. هكذا، فإن العمل الفني بنفسه، المرتكز على اختفاء الموضوع وهيمنة الأسود، يصبح تشخيصاً لظاهرة الرعد كتلاش للأنا في رحلة الليل. أما بالنسبة الى فريد بلكاهيه، فالجذبة ليست فقط سوى الذكرى اللازمة التي تحوم حول العمل الفني، إنها تلاحق الذاكرة التي تنسخ العلامات المواكبة لخطاب الرعدة في وضع للجسم يذكر بوضع الناسخ وحركاته المقتصدة اكثر مما يذكر بوضع الكاهن في تنبؤاته. حقيقة أن اللوحات الأخيرة التي تشبه في حجمها جسم الإنسان بنيت كلها على مبدأ الاختلاج والتعوج، لذا فهي تعرض اشباحاً لأوثان طوطمية أو لفزاعات افريقية تذكر بعناصر الديكور المسرحي شبه الحقيقية التي تشكل بيئة ملائمة لمشهد الرعدة. لكن العلامات الملصوقة على الجلد تفترض دائماً الحركة المكتومة للرجل القاعد ينسخ بهدوء وإخلاص مخطوطاته الأصلية على مسند يظل في متناول اليد. قد يكون ولوج المعنى المجازي للرعدة غير مباشر عند سيبريان توكوداكبا الذي تغترف أشكاله مباشرة من رموز الفودو السحرية Le vaudou. فبعض المفسرين يقولون لنا ان التعرف على مشاركة الفن في الإيمان ناتج من كون توكوداكبا يباشر شعيرة الأضحية من اجل منح القوة لمخلوقاته المعروضة اثناء تظاهرة Magiciens de la terre باريس، 1989. إن الذين يترددون على النصوص الصوفية من كل الثقافات يعرفون بالطبع كيف أن مسألة الإيمان تترجرج على ركائزها كلما طفت إشكالية الصورة في علاقتها باللامرئي. حتى أكثر الناس إيماناً يعرف بأنه لا يتوافر امام الصور والأشكال سوى على واسطة تسهل الوصول والعبور الى الأحد الذي لا يتجزأ، الذي سبق الشواش. على أي حال هذا ما يظنه الصوفيون في نسبويتهم الدينية التي تأخذ احياناً اتجاهات الإباحية الحلولية، مؤدية بهم الى تصديق ومشاطرة حقيقة الوثنيين وعباد النجوم والحيوانات والنباتات. إضافة الى هذا الرصيد التقليدي الذي يبسط الاعتقاد، ففي الانتقال من المعبد الى الرواق، من حائط الحرم الى قماشة اللوحة، يضيع المعنى الأول ويتبدد البانتيون الأصلي أثناء الطريق. شيء آخر يملأ اللوحة الملوسة في المتحف، لنْسمّ هذا الشيء بالذاكرة التشكيلية أو بالأقل التصويرية: إذاً، في ما يتعلق بإنجازات توكوداكبا، فإن العلامات والآلهة الملتمسة بواسطة الفودو يعاد النظر فيها كما لو كانت تركيبة سوريالية مزجت برشاد طليق وتصويري يكبّر الى مستوى اللوحة أشكالاً تشبه تلك المطبوعة على أوراق التاروت. هكذا إذاً يوسع المرور عبر المتحف نطاق الأثر الفني ويفتتن المتفرج أو يضلل بالأطياف التي تلتقطها المرايا المنصوبة بين الثقافات ومواطن الخيال. تلك هي تناسخات المغامرة التي تكشفها العولمة لأنظارنا. طبعاً، قد يكون من باب الغرور القول إن علاقة فنانينا الأفارقة هؤلاء بمشهد الرعدة تنحدر من المسالك التي فتحتها النظرة الغربية لتحقيق ثوراتها وإصلاحاتها وانعتاقها وتوسيعها. إن ما يفترض الاندماج في الغرب، وقد أصبح الآن بمثابة العالم، هو بكل بساطة العلاقة بالسناد، بمتكأ اللوحة، بالخروج من المعبد قصد ضيافة المتحف. لكن أصل النظرة كظاهرة ذاتية هو بالضرورة مختلف. إلا أنه إذا كان الدَّين الغربي تجاه افريقيا فنياً ، فقد يكون الدين الافريقي تجاه الغرب أخلاقياً وسياسياً: لا يمكن أن ترضينا خصوبة مرأى وفرجة مشهد الرعدة إذا وقعت في نطاق العقيدة الموروثة التي يخضع لها الشخص من دون ان يلقي بها في مجرى النقد الذي يمزق وصاية الزعيم والكاهن، مع ظاهرة الرعدة نبقى في الأشياء الدينية، غير اننا نود البقاء في رفقة كانط Kant كلما تعلق الأمر بأشياء الدين، البقاء معه يعني حرية الاختيار الشخصي، أي حرية الضمير انظر: Qu'est-ce que les lumiڈres?. تلك هي المفارقة: التشبع بالطاقة التي تمنحها الجذبة من أجل الخصوبة الفنية يقتضي فرداً ومواطناً متحكماً في عقيدته، حراً في فكره. بعبارة أخرى، سأصوغ بعنف مفارقتي: مشايع للمغالاة، للإفراط، للتطرف في الشعر، في الفن، موال للعقل، للاعتدال، لحرية الضمير في ما يتعلق بالسياسة، بالرأي، بالعقيدة. قد يكون هذا هو التغاير الذي يسكن الشاعر، هذا الفنان الذي يجب نعته بالبعد استعماري Post-colonial عوض "البعد حديث" Post-moderne، الذي لم ينقطع عن الجزء القديم والبدائي الموجود فيه، والذي بقي راعياً للمعان الأنوار التي تشع في معبد جسده، تلك الأنوار التي تود كثير من الأنفاس لو تطفئها. في ضوء هذه المفارقة تتبلور من جديد البيانات التي ترسم دروبها فوق خريطة العالم، ويلتقي المبدعون من الغرب ومن الشرق، من الشمال ومن الجنوب، بعيداً من الممرات المطروقة من طرف السُّذج والمغفلين. ترجمة عبداللطيف العلمي * كاتب تونسي.