المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرف العربية من خلال الشعر الجاهلي . الطب والجراحة عرفهما العرب قبل الاسلام ... ما ينفي عنهم تهمة الغرق في الشعوذة
نشر في الحياة يوم 17 - 05 - 2001

عرف العرب الطبَّ والجراحة في جاهليتهم، كما عرفتهما الشعوب الأخرى" ذلك أنَّ الانسان واحد" يمرض ويُجرح لشتَّى الأسباب والملابسات. وإذا كان من الغلوِّ الحديث عن طبٍّ متطور، وعن جراحة متطورة، لدى عرب الجاهلية، فإن التقليل من شأنهما يجانب الحقيقة ويبخس العرب حقهم ويتعسَّف الحكم لاعتقاده الجهل في الجاهليين.
إن الحكم على مستوى الطب والجراحة عند عرب الجاهلية يفترض وضعه في نصاب الحكم على درجة تطورهم، وهم في ذلك متساوون مع أي شعب آخر. والواقع أن العرب عرفوا، في القرنين السابقين للاسلام، طباً وجراحة على قدر من التطور والفاعلية استجاب لحاجاتهم الصحية، وإن تعذَّرت معرفة حركة هذا التطور، تعذراً لا يمكن معه معرفة ما إذا كان الطب بالشعوذة كان مرحلة قائمة بذاتها" ذلك ان الشعوذة استمرت في عرب الجاهلية الى جانب طبّهم التجريبي وجراحتهم، ونفترض أنهما كانا كذلك دائماً.
والشعر، بما هو وثيقة، سجَّل الكثير من أمراض العرب في جاهليتهم، والكثير من سبل معالجتها، والكثير من أدويتها وآلاتها، وأشار الى أطباء بأعيانهم وإن كنَّا نستنتج من كثير هذا الشعر أنَّ الطب والجراحة - في مستواهما آنذاك كانا يمارسان في القبائل" يمارسهما أي رجل وأي امرأة، استناداً الى خبرات متوارثة ومعارف تجريبية.
وتؤكد المصادر غير الشعرية إلمام العرب بالطب والجراحة، وربما قدَّمتْ صورة اكثر اشراقاً من صورتهما في الشعر. وعقد الدكتور جواد علي في "تاريخ العرب قبل الاسلام" المجلد الثامن فصلاً عن الطب اعتماداً على المصادر غير الشعرية، صرفنا النظر عمَّا فيه لأنَّ اعتمادنا على الشعر، فمن أراد فلينظر في الفصل المشار اليه.
والقول بوجود الطب في جاهلية العرب مردُّه الى أنَّ "هذه الصناعة ضرورية في المدن والأمصار لما عرف من فائدتها" فإن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء ودفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرءُ من أمراضهم" كما يقول عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته.
وإذ يردُّ ابن خلدون الأمراض في المدن والأمصار الى الأغذية وما ينتج منها من عفن، ينفي وجود الطبيب في البادية لأن أمزجة أهلها تكون "أصلح وأبعد من الأمراض فتقل حاجتهم الى الطب" ولهذا لا يوجد الطبيب في البادية بِوَجْهٍ"، الأمر الذي لا يصمد لنقد ما دُمنا نعرف أنَّ أهل البادية، وإن كانت "الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم" وإن كان ذلك كله يؤدي الى أن يحسن "الهضم ويجود ويفقد إدخال الطعام على الطعام وتكون أمزجتهم أصلح وأبعد من الأمراض"، مقدمة ابن خلدون، كانوا عرضة للأمراض على اختلافها كما سنعرف لاحقاً، وكانوا أحوج الى الجرَّاح لمعالجة جراحاتهم الناتجة من حروبهم وغزواتهم، وأحوج الى الطبيب لتعرضهم للسعات الثعابين، وغير ذلك مما نجده مذكوراً بوفرة في شعر شعرائهم، ونشير اليه في معرض الحديث عن خبراتهم الطبية والجراحية.
في تعريف الطب والجراحة
اصطلح العرب على تسمية القائم بمعالجة الأمراض ب"الطبيب"، واصطلحوا على تسمية كل صاحب اختصاص من الأطباء باسم مخصوص، وكل ذلك مذكور في شعر شعرائهم على سبيل الحقيقة أو المجاز، وهم لاحظوا في معنى الطب العلم والخبرة" فالطبيب "العالم بالشيء"، كالعالم بطبائع النساء. يقول علقمة بن عبدة في هذا المعنى:
فَإنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإنَّنِي
بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
ولذلك افترضُوا في الطبيب معرفة الأحوال على اختلافها" فهذا عدي بن زيد لا يجد تفسيراً لحظة التعس في حبسه وقيوده، فيبحث عنه لدى الطبيب:
أَحَظِّي كَانَ سِلْسِلَةً وقَيْداً
وغُلاً، والبيانُ لَدَى الطَّبِيبِ؟
ثم ذكروا الطبيب في معناه الاصطلاحي، ومن ذلك قول مالك بن الريب التميمي:
وبِالرَّمْلِ مِنَّا نِسْوَةٌ لَوْ شَهِدْنَني
بَكَيْنَ وفَدَّيْنَ الطَّبِيبَ المُدَاوِيَا
كذلك اطلقوا على الطبيب اسم الآسي، لأنه يأسو الجراح" قال الحطيئة في هذا المعنى:
حَتَّى إِذَا مَا بَدَا لي غَيْبُ أَنْفُسِكُمْ
ولَمْ يَكُنْ لِجِرَاحِي فِيُكُمُ آسِي
وفي مقابل الآسي الطبيب ذكروا الأسيَّ المريض" يقول أبو ذؤيب الهدليّ في وصف امرأة عليها الطيب:
وصُبَّ عَلَيْهَا الطِّيبُ حتَّى كَأَنَّها
أَسِيٌّ عَلَى أُمِّ الدِّمَاغِ حَجِيجُ
و"أم الدماغ: الجليدة الرقيقة التي تجمع الدماغ. والحج: يقال للشَّجَّةِ إذا وصلت الى العظم"، والشاعر يشبه "ما على المرأة من الطيب بما على هذا الأسيّ من الدم".
وأمَّ الدماغ يسميها الحطيئة "أمَّ الرأس"، ويذكر معها الأطبة الأطباء والأساء جمع الآسي، فيقول:
هُمُ الآسُونَ أُمَّ الرَّأْسِ لَمَّا
تَوَاكَلَهَا الأطِبَّةُ والأُسَاءُ
ومن أسماء الطبيب عندهم "العرَّاف"، وهذا يردُّنا الى معنى البصر والمعرفة الذي منه معنى الطب. يقول الشَّمَاخ بن ضرار في من نال منه الشوق والسفر، حتى أنحله و"لم يبق منه إلا كلامه، وما يبين منه إلاّ يداه ورجلاه وثيابه":
قَالَتْ: أَلاَ يُدْعَى لِهَذَا عَرَّافْ؟
لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ مَنْطِقٌ وأطْرَافْ
وَرْيطَتَانِ وقَمِيصٌ هَفْهاَفْ
وقال الجواليقي: "العرَّاف: الطبيب".
وكثرت اصطلاحاتهم على الطبيب المداوي والجراح الذي يلحم الجراح، وعلى كل متخصص بميدان من ميادين الطب، فأشاروا الى "النطاسي"، والى "الحجَّام" و"الجابر" و"الشافي"، وسمُّوا المريض "السقيم" والملدوغ، "السليم" و"المطلّق"، كما سمُّوا الداء "السُّلال"، والشفاء "البرء"، على ما سيظهر لاحقاً.
أطباؤهم
أشرنا الى أنَّ الطبَّ لم يكن حكراً على المحترفين" إذ ربما زاوله رجل في القبيلة أو امرأة عند الحاجة، غير أن الشعر والمصادر الأخرى تذكر أطباء يبدو أنهم كانوا معروفين ذوي شهرة، ومنهم "النطاسي" حِذْيم، وممن ذكروه أوس بن حجر في شعر يوجهه الى بني الحارث بن سدوس بن شيبان وقد اقتسموا معزاه، ويطالبهم بردِّها:
فَهَلْ لَكُمُ فِيهَا إليَّ فَإِنَّني
طَبِيبٌ بِمَا أَعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَمَا
وفي "الخزانة": "قال يعقوب بن السكيت في شرح هذا البيت من ديوان أوس بن حجر: حذيم رجل من تيم الرَّباب وكان متطبباً عالماً".
ومن الأطباء المعروفين سرحون الرومي، وكان واحداً من ندماء النعمان في الحيرة، وذكره الربيع بن زياد بصفته ولم يسمِّه، فقال:
فَابْرُقْ بِأرضِكَ يا نُعمانُ مُتَّكِئاً
مَعَ النِّطَاسِيِّ يَوْماً وابْنِ تَوْفِيلاَ
قال الميداني: "أراد بالنِّطاسي رومياً يقال له سرحون. وابن توفيل رومي آخر، كانا ينادمان النعمان".
وأشهر أطبائهم على الاطلاق الحارث بن كلدة، وأخباره مبثوثة في المصادر التاريخية، إلا أننا لم نعثر على شعر يذكره. والحارث هذا يشير اليه صاعد الأندلسي في "طبقات الأمم" ويقول انه من ثقيف وانه "تعلم الطب بفارس واليمن وضرب العود".
وتشير المصادر التاريخية الى أن قساوسة النصارى كانوا "يتعاطون الطب في الحيرة". وروى أبو الفرج الأصفهاني ان المتوكل الليثي عندما كان بالحيرة "رمد رمداً شديداً فمَّر به قسٌ منهم فقال: ما لك؟ قال: رمدت. قال: أنا أعالجك. قال: فافعل. فَذَرَّه".
وتشير المصادر أيضاً الى نساء طبيبات عاش بعضهن الى الاسلام، و"كانت رفيدة تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب، وكانت زينب طبيبة بني أود تعالج المرضى وحازت على شهرة بين العرب" جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية.
ادويتهم
عالج العرب مرضاهم وجرحاهم بالطب والشعوذة على السواء. إلاَّ أن الشعوذة وعمادها الرقيا والتمائم، تخرج من بحثنا وتستقل موضوعاً قائماً بذاته. وأما طبهم وجراحتهم فاعتمدا على الأدوية النباتية وغير النباتية وعلى بصر بخصائصها الطبية العلاجية تأتَّى لهم من طريق التجريب، وتوارثوه أو اقتبسوه بحكم احتكاكهم بالأمم الأخرى، أو تحصيلهم الطب دراسة كما عرفنا من خبر الحارث بن كلدة الثقفي. كما اعتمدوا على آلات بعضها بسيط مما يستخدمونه في شؤونهم الأخرى، وبعضها معقد شديد التعقيد يدل على تقدم جراحي يثير الدهشة.
فمن أدويتهم النباتية نبات "السَّنَا"، وذكره أمرؤ القيس باعتباره مادة للتطيُّب، فيما قال الشارحون انه للتطيب وانه "نَبْتٌ يُتَداوى به"، قال:
ورِيحَ سَناً في حُقَّةٍ حِمْيَرِيَّةٍ
تَخُصُّ بِمَفْرُوكٍ مِنَ المِسْكِ أَذْفَرَا
إلا أنَّ الشروح لا تطلعنا على الأمراض التي عولجت بالسنا، فيما ذُكِرَ أنَّ "البَقَّم" شجر "ورقه كورق اللوز وساقه أحمر يصبغ بطبيخه ويلحم الجراحات"، وذكره الأعشى ولكن في معرض تشبيه حمرة الخمرة بحمرته، فقال:
بِكَأْسٍ وإبْريِقٍ كَأَن شَرَابَهُ
إِذَا صُبَّ في المِصْحَاةِ خَالَطَ بَقَّمَا
وذُكِرَ عُودٌ هندي صنع منه العرب سعوطاً، وهو "دواء يُصب في الأنف" اللسان. ويتداوى به في العذرة أي الختان، واستخرج منه سبعة أدوية، وهو ما جاء في حديث شريف" "ففي حديث أم قيس بنت محصن قالت: دخلت بابن لي على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد اعلقت من العذرة، فقال: علاَمَ تَدْعَرْنَ أولادكنّ؟ عليكن بهذا العود الهنديّ فإنَّ فيه سبعة أشفية: يُسعط من العذرة، ويُلَدُّ من ذاتٍ الجنب...". وورد ذكر السعوط في بيت لعدي بن زيد مقترناً بذكر "اللدود" وهو "ما يصب بالمسعط من السقي والدواء في أحد شقي الفم فيمد مع اللديد... ولديدا الفم: جانباه... واللدود: وجع يأخذ في الفم والحلق فيجعل عليه دواء لسان العرب. وبيت عدي في "شعراء النصرانية" وهو في هجاء بني تميم، قال:
والأَطِبَّاءُ بَعْدَهُمْ لَحِقُوهُمْ
ضَلَّ عَنْهُمْ سَعُوطُهُمْ والَّلَدُودُ
ومن الأدوية المستخرجة من النبات "الهناء"، وهو القطران" عالجوا به الجرب في الانسان والحيوان على السواء، وذكره في الشعر كثير، ومنه شعر لزهير بن أبي سلمى يذكره فيه مع الجرب والهناء: البرء والشفاء والكشح والداء والدواء، قال:
فَأُبْرِئُ مُوضِحَاتِ الرَّأْسِ مِنْهُ
وقَدْ يَشْفِي مِنَ الجَرَبِ الهِنَاءُ
تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنيضٌ
أَصَلَّتْ فَهْيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ
غَصِصْتُ بِنيِئِهَا فَبَشِمْتُ عَنْهَا
وعِنْدَكَ لَوْ أرَدْتَ لَهَا دَوَاءُ
وربما عالجوا بغير النبات، كعلاج الرمد بالكحل. وهذا النابغة الذبياني ينفي عن عيني صديقته الرمد والاكتحال، ولذلك فهما صافيتان، يقول:
يَحُفُّهُ جَانِبَا نَيقٍ وتُتْبِعُهُ
مِثْلَ الزُّجَاجَةِ لَمْ تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ
وذكروا الى جانب الكحل "الملمول" وهو المرود الذي يكتحل به ويعالج من الرمد. وممن ذكروه عبدة بن الطبيب" قال في موقف غزلي مماثل:
فَاسْتَثْبَتَ الرَّوْعُ في إِنْسَانِ صَادِقَةٍ
لَمْ تَجْرِ مِنْ رَمَدٍ فِيهَا المَلاَمِيلُ
و"الانسان: إنسان العين. صادقة: صلبة صحيحة النظر. الملاميل: جمع ملمول وهو المرود".
واعتقد عرب الجاهلية أن دماء الملوك والأشراف دواء لمرض الكلب، وهذا أيضاً كثير الورود في شعرهم، ومنه قول عوف بن الأحوص:
أَوِ العَنْقَاءِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو
دِمَاءُ القَوْمِ لِلْكَلْبَى شِفَاءُ
وأما الشاعر المتلمس فيشير الى أن دماء الأشراف دواء لمرض الحب ومرض الخبل وهو الجنون، قال:
مِنَ الدَّارِمِيِّينَ الذينَ دِمَاؤُهُمْ
شِفَاءٌ مِنَ الداءِ المحبةِ والخَبَلِ
وربما تداووا بأبوال الإبل من دون تعيين لأنواع الأمراض التي يشفيها البول. فهذا لبيد بن ربيعة يذكر البول دواء للسقيم من دون تعيين مرضه، يقول:
يَهْوِي الى قَصَبٍ كَأَنَّ جِمَامَهُ
سَمَلاَتُ بَوْلٍ أغْلِيَتْ لِسَقِيمِ
جراحتهم وآلاتهم الجراحية
يذكر أنَّ أكثر جراح العرب ناتج، في الجاهلية، عن طعنات السيوف والنبال والرماح، وأنَّ ما كان منها غير مميت كان يعالج في ميدان القتال أو في المنزل، وأول إجراءٍ يجرونه كان وقف النزيف، كما نفعل اليوم" يقول عبدالمسيح بن عسلة لخصومه إنه إن جرحهم لا يرقئون أي لا يقطعون الدم الجراح التي يحدثها فيهم:
وأَنَا أمْرُؤٌ مِنْ مُرَّةَ إنْ
أَكْلِمْكُمُ لاَ تُرْقِئُوا كَلْمِي
يلي ذلك منع الجريح من شرب الماء والمبادرة الى عصب الجرح وهو إجراء لا يزال يُتَّبَعُ الى اليوم: "حدّث حبيب بن عيسى أنَّ بني سليم خرجت غازية بني كنانة، فلقيهم ربيعة بن مُكَدَّم الكناني فقتل منهم أربعة نفر، وطعنه بعضهم طعنةً جايفة فانصرف الى أمه منبتّاً فاستسقاها فأبت أن تسقيه، وأخذت نصيفاً لها فعصبته على جراحه، فقال: شُدِّي عَلَيَّ العصب أُمَّ سَيَّارْ
فَقَدْ رُزِيتِ فارساً مِغْوارْ، الخ ديوان حسان بن ثابت: 1/409
وكانوا شديدي الحرص على أن يبقى الجريح صاحياً "ليعرفوا حاله في كل ساعة"، كما ذكر شارح ديوان الأعشى. يقول الأعشى الكبير، مهدداً بابقاء خصومه منتبهين غير نائمين، كناية عن جرحهم، مشيراً في الوقت نفسه الى الإنارة:
أَبَا ثابت إِنَّا إذَا تَسْبِقُنَا
سَيُرْعدُ سَرْحٌ أَوْ يُنَبَّهُ نَائِمُ
بِمُشْعِلَةٍ يَغْشَى الفِرَاشَ رَشَاشُهَا
يبيتُ لَهَا ضَوْءٌ مِنَ النَّارِ جَاحِمُ
و"المشعلة: طعنة واسعة ينزف منها الدم مندفعاً".
ولضمان بقاء الجريح أو الملدوغ صاحياً قعقعوا بحلي النساء في يديه" قال النابغة الذبياني في وصف خوفه من النعمان، فكأنه "سليم" ملدوغٌ:
يُسَهَّدُ مِنْ لَيْلِ التَّمَامِ سَلِيمُهَا
لِحَلْيِ النِّسَاءِ في يَدَيْهِ قَعَاقِعُ
ثم انهم عمدوا الى تقدير حجم الجرح وعمقه مستعينين بالأيدي، أو بآلة قياس هي "المحراف"" الأمر الذي يحمل على الظن أنهم خاطوا الجراحات خياطات في طبقات عدة فلم يكتفوا بخياطة الجلد. وأشار عديّ بن رعلاء الغساني الى طعنة غموس عميقة تضيع فيها يد الجرَّاح، فقال:
وغَمُوسٍ تَضِلُّ فيها يَدُ الآ
سي ويَعْيَا طَبِيبُهَا بِالدَّوَاءِ
وربما كانت الطعنة شديدة العمق، ولذلك يتعذر سبرها بالميل المحراف ويتعذر علاجها، كما يقول أبو ذؤيب الهذلي:
وطَعْنَةٍ خَلْسٍ قَدْ طَعَنْتُ مُرِشَّةٍ
كَعَطِّ الرِّدَاءِ لا يُشَكُّ طَوَارُها
ومعنى "لا يشك": "لا يُخاط"، و"لا تُسْبَر بالميلِ لغورها".
ويتردد ذكر المحراف في شعرهم، وهو كما يقول ابن منظور "الميل الذي تقاس به الجراحات... والمسبار الذي يقاس به الجرح"، الأمر الذي يعني انه كان يتضمن خطوطاً محزوزة عليه يمكن احتسابها، وربما شابهت الحزوز التي على شريط قياس مستوى الزيت في محرك السيارة.
وممن ذكروا المحراف السموأل والقطامي وأبو ذؤيب الهذلي والنابغة الجعدي وأوس بن حجر" يقول أوس:
يَزِلُّ قُتُودِ الرَّحْلِ عَنْ دَأَيَاتِهَا
كَمَا زَلَّ عَنْ رَأْسِ الشجيجِ المَحَارِفُ
ومعنى الشجيج: المجروح.
كذلك استعملوا "المبزغ" وهو المبضع لسان العرب، والمشرط ديوان زهير، ص17، والقطن لتنظيف الجرح شرح أشعار الهذليين: 1/135-136، وسَدُّوا الجرح بالدِّسام وهو خرقة الجميح: المفضليات، ص42، واستعملوا الضمادة، كما نفعل لسان العرب - سكف، وانتبهوا الى ضرورة أن تكون ايدي الجراحين والقوابل وآلاتهم نظيفة حادة" ولذلك هجا حسان بن ثابت خصومه فشبّه أسنانهم بأظافر الخاتنة الوسخة ومواسيها غير النظيفة الكليلة، فقال:
كَأَنَّ أَسْنَانَهُمْ مِنْ خُبْثِ طِعْمَتِهِمْ
أَظْفَارُ خَاتِنَةٍ كَلَّتْ مَوَاسِيها
نكتفي بهذا القدر من حديث الجراحة وآلاتها، وننتقل الى الحديث عن الكسور وجبرها.
الكسور وجبرها
أشار الشعراء الجاهليون كثيراً الى كسور العظام وجبرها وجبائرها، على سبيل الحقيقة والمجاز، والتفتوا الى أن من الكسور ما لا يفلح الجابر في جبره، ولذلك يعاود العظمَ الكسرُ، ويقتضي جبره من جديد.
وسَمُّوا معالج الكسور "الجابر" و"الجبار"، فمن ذكره بلفظ الجابر قول الخنساء في أخيها صخر:
الجَابِرُ العَظْمَ الكَسِيرَ
مِنَ المَهَاصِرِ والمَمَانِحْ
ومن ذكره بلفظ الجبَّار، قول الخنساء أيضاً:
نَحَّارُ رَاغِيَةٍ مِلْجَاءُ طَاغِيَةٍ
فَكَّاكُ عَانِيَةٍ لِلْعَظْمِ جَبَّارُ
وذكروا الجبائر، وقالوا إنها "الألواح من خشب أو قِنَى تُشدُّ على العَظْمِ الكسير، واحدتها جبارة"، وقالوا أيضاً انها ما على الكسر من الخرق، قال الحطيئة:
هُمُ لاَحَمُوني بَعْدَ جَهْدٍ وفَاقَةٍ
كَمَا لاَحَمَ العَظْمَ الكَسِيرَ جَبَائِرُه
من محبسه:
لاَ تَكُونَنَّ كَآسِي عَظْمِهِ
بِأسًى حَتَّى إِذَا العَظْمُ جَبَرْ
عَادَ بَعْدَ الجَبْرِ يَنْعَى
وَهْنَهُ يَنْحُوَنَّ المَشْيَ مِنْهُ فَانْكَسَرْ
الحجامة والفصد والكي
ولم يكتف العرب بالتداوي بالاعشاب وغيرها، وبالجراحة وجبر الكسور، بل عمدوا أيضاً الى التداوي بالحجامة والفصد والكي، واستعملوا في ذلك آلات استخرجوا بها الدم كالمحجم والمبزغ المشرط ينقصون بهما كمية الدم في جسم الانسان صنيعَ الناس في أيامنا وإن تطورت الطرق، كما كَوَوْا ظناً منهم أنَّ الكيّ شفاء لما لا دواء له من الأمراض، حتى قالوا في الأمثال: "آخر الدواء الكيّ".
ويرد ذكر الحجامة والمحجم في شعرهم حقيقةً ومجازاً، ومن ذلك نتمثل قول زهير بن ابي سلمى في معلقته:
يُنَجِّمُهَا قَوْمٌ لقَوْمٍ غَرَامةً
ولَمْ يُهَرِيقُوا بَيْنَهُمْ مِلْءَ مِحْجَمِ
وذكروا الفصد كثيراً، وهو استخراج الدم بجرح الأعضاء بواسطة حديدة. ويبدو أنَّ أعشى قيس الذي لم يوفق في المثول بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام لإعلان اسلامه، سمع بتحريم الفصد وغيره في الاسلام، فضمَّن ذلك قصيدة يقول فيها:
فَإِيَّاكَ والمَيْتَاتِ لاَ تأكُلَنْهَا
ولاَ تَأْخُذَنْ سَهْماً حَدِيداً لِتَفْصَدَا
وأما الكيّ فلم يحرمه الاسلام، وربما استغنى عنه العرب مع تقدم وسائل العلاج. فالمصادر تشير الى اكتواء الصحابي خباب بن الأرث" "عن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خبَّاب بن الأرث رضي الله عنه نعوده، وقد اكتوى سبع كيَّات". ويبدو أنهم عالجوا بالكي أمراضاً كالطحل والقَصَر والكشح" يقول طرفة:
وأَنَا امْرُؤٌ أَكْوِي مِنَ القَصَرِ
البَادِي وأُغشى الدُّهْمَ بالدُّهْمِ
و"القَصَرُ: "داء يأخذ في قصرة العنق، فلا يستطيع صاحبها أن يلتفت إلا جميعاً". ذلك بعض طبهم، يطول الحديث فيه وتقصر عنه العجالة. ولنا في ما تيسَّر ذكره شواهد على أنَّ العرب بلغوا من التقدم في مضمار الطب قبل الاسلام ما ينفي عنهم الغرق في الشعوذة والخرافة. وحسبنا القول إنَّ مقدار الشعر الذي تحدث عن الطب والجراحة يفوق كثيراً مقدار الشعر الذي يتحدث عن التداوي بالرقيا والتمائم، وحتى هذا الضرب من التداوي غير المقبول عقلاً أكثر ما يرد على سبيل المجاز.
* باحث في شؤون التراث الشعبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.